على الرغم من الإعلان الإسرائيلي الأمريكي عن وقف تنفيذ مخطط الضم في أعقاب التوقيع على ما أُطلق عليه “اتفاقات إبراهام”؛ فإن الواقع يشير إلى غير ذلك، حيث أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين “نتنياهو” أنه تم تأجيل الضم وليس وقفه، وخلال الأشهر الأخيرة استمرت إسرائيل في اتباع سياسة الأمر الواقع من خلال فرض السيادة الإسرائيلية على المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فضلًا عن إصدار قرارات ببناء الآلاف من المستوطنات.
ويخشى “نتنياهو”، الذي يواجه ضغوطًا متزايدة من قادة المستوطنات للإسراع في تنفيذ الضم الفعلي للمستوطنات في الضفة الغربية، من الإخفاق في حصوله على دعم الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة “جو بايدن” لتنفيذ مخطط الضم، خاصة بعد تأكيد “بايدن” مرارًا على تبنيه للتوجه الديمقراطي المعارض للاستيطان والرافض لمخطط الضم. وبناء على ذلك، تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى الاستفادة من دعم “دونالد ترامب” خلال الفترة الانتقالية، وتجسد ذلك في الإعلان عن الزيارة المرتقبة لوزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” لهضبة الجولان المحتل، وعدد من المستوطنات في الضفة الغربية، وهي أول زيارة من نوعها لوزير خارجية أمريكي.
ورغم تأكيد “نتنياهو” على تأجيل خطوة الضم وليس وقفه، فضلًا عن تصريحه مسبقًا بأنه ليس بوسع رئيس ديمقراطي إيقاف تطبيق خطّة الضم التي بلورها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ إلا أن قادة المستوطنات يجزمون بأن وجود “بايدن” في البيت الأبيض لن يطلق يد “نتنياهو” مثلما فعل “ترامب” خلال السنوات الماضية، لذا فهم يسعون إلى تمرير قانون لشرعنة ضم جزء من المستوطنات قبل 21 يناير المقبل، وهو يوم تنصيب الرئيس الجديد في الولايات المتحدة.
وفي السياق ذاته، يخشى “نتنياهو” من الإخفاق في تنفيذ مخطط الضم، في وقت يحاول فيه تحقيق أي إنجاز أمام اليمين الإسرائيلي في ظل تراجع شعبيته وتصاعد المظاهرات المطالبة برحيله، تزامنًا مع تراجع الاقتصاد الإسرائيلي وتفشي وباء كورونا. فـ”نتنياهو”، الذي يواجه اتهامات بالفساد، يسعى لكسب تأييد اليمين في إسرائيل لإنقاذ مصيره السياسي، لذا يبذل قصارى جهده للاستفادة من إدارة “ترامب” الأكثر دعمًا لإسرائيل في تاريخها في ظل المخاوف الإسرائيلية من معارضة إدارة “بايدن” لمخطط الضم.
مخاوف إسرائيل من سياسة “بايدن”
تسعى الحكومة الإسرائيلية لتكريس الضم الفعلي لمساحات واسعة من أراضي الضفة الغربية المحتلة، في وقت قياسي، مستفيدة من الدعم المطلق لإدارة “ترامب” قبل انتهاء الفترة الانتقالية وتولي “جو بايدن” الرئاسة الأمريكية بشكل رسمي في يناير المقبل. وقد جاء الإعلان عن زيارة وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” لهضبة الجولان وعدد من المستوطنات في الضفة الغربية، لتؤكد المحاولات الإسرائيلية لاستغلال دعم الإدارة الأمريكية الحالية. كما قد يدفع “ترامب” باتجاه ضم جزئي لأراضٍ في الضفة الغربية قبيل انتهاء ولايته. وفي السياق ذاته، لا شك أن إدارة “بايدن” ستحرص على فصل نفسها عن سياسات سابقتها واستعادة مصداقية السياسة الخارجية الأمريكية، وسيشكل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني محورًا رئيسيًا لحسم هذا التغير في سياسات “بايدن”.
وبالرغم من تصريحات “نتنياهو” بأن إجراء الانتخابات الأمريكية ليس “عاملًا مؤثرًا” على تطبيق إسرائيل لمخطط الضم، وتأكيده أن إسرائيل ستعمل بشكلٍ جيد مع كل رئيس ديمقراطي أو جمهوري، فإن ذلك لا ينفي المخاوف الإسرائيلية بشأن التوقعات بانخفاض الدعم المقدم من إدارة “بايدن” مقارنة بإدارة “ترامب”، فضلًا عن التوقعات بإمكانية حدوث خلافات بين الجانبين حول ملفي الاستيطان والبرنامج النووي الإيراني؛ فبالنظر إلى سياسات الإدارة الديمقراطية السابقة برئاسة “باراك أوباما”، يتضح أنه بالرغم من اعتبار الدعم المطلق لإسرائيل أولوية في السياسة الأمريكية بشكل عام؛ فإن الخلافات بين كلا الدولتين في ظل تولي رئيس ديمقراطي يتوقع أن تتكرر في ظل تولي “بايدن” بسبب تبنيه أجندة الديمقراطيين التي تعارض أي خطوات أحادية الجانب بما في ذلك الضم، ومعارضتها للتوسع الاستيطاني. وتجدر الإشارة هنا إلى تصريحات “بايدن” المتكررة حول معارضته لسياسات إسرائيل الاستيطانية، ومطالبته بالتوقف عن توسيع المستوطنات في الضفة الغربية، وأن تتوقف عن الحديث عن الضم، وعليها أن تسمح بحل الدولتين. فضلًا عن تأكيد “بايدن” أن الضم ليس مطروحًا على الطاولة في الوقت الحالي، لكنه أشار إلى أنه لا يعلم إلى أي مدى سيستمر ذلك.
أما فيما يتعلق بإمكانية قيام إسرائيل بتنفيذ الضم الفعلي لأجزاء من الضفة الغربية في ظل تولي “بايدن”، فلا يمكن القيام بتلك الخطوة من دون موافقة الإدارة الأمريكية، التي يفترض أنها تتبنى رؤى تتعارض مع القيام بتلك الخطوة، إلا أن ذلك لا ينفي استمرار كافة صور الدعم الأمريكي لإسرائيل، كما أنه لا ينفي أيضًا التوقعات باستمرار سياسات إسرائيل لإضفاء الشرعية على المستوطنات تمهيدًا لفرض سياسة الأمر الواقع، مثلما حدث في عهد الرئيس السابق “أوباما”.
الضغوط الداخلية ومخطط الضم
على المستوى الداخلي، تتصاعد الضغوط على “نتنياهو” للتسريع في تطبيق خطة الضم في ظل التخوفات من قبل قادة المستوطنات من تولي إدارة “بايدن” الديمقراطية الحكم، وخاصة بعد معارضة الديمقراطيين خلال الأشهر الأخيرة لمخطط الضم بشكل صريح، عندما قام أغلبية من الديمقراطيين في كل من مجلسي النواب والشيوخ، بمن فيهم جو “بايدن”، بمعارضة الضم، حيث قام ما يقرب من 200 من أعضاء مجلس النواب بالتوقيع على خطاب في نهاية شهر يونيو 2020، بمبادرة من النائب “تيد دويتش”، يعربون فيه عن “القلق العميق” من أن دفع إسرائيل للضم أحادي الجانب سيقوض أية محاولات للتوصل إلى اتفاق سلام تفاوضي بين إسرائيل والفلسطينيين، كما أنه سيصعب من تحقيق حل الدولتين.
وفي هذا الإطار، ذكرت إذاعة جيش الاحتلال الإسرائيلي أن رئيس مجلس مستوطنات شمال الضفة الغربية “يوسي داغان” طالب في بداية شهر نوفمبر 2020 بتطبيق خطة الضم الإسرائيلية فورًا “لأنه بمرور كل يوم تزداد الأمور صعوبة”. كما قال عضو الكنيست “بتسلئيل سموتريتش” إنه “في حال خسر دونالد ترمب سيتعيّن علينا الضغط على “نتنياهو” لتطبيق السيادة وتثبيتها قبل وصول جو “بايدن” إلى الرئاسة”.
الضم الانتقائي وسياسة الأمر الواقع
تستمر إسرائيل في سياستها التوسعية على أرض الواقع بلا هوادة، وبالنظر إلى الخطوات التي تم اتخاذها خلال الفترة الماضية، يتضح أن إسرائيل لن تتوقف عن سياسة الضم الانتقائي للمستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفرض سياسة الأمر الواقع كعادتها، فحتى وإن لم تنجح إسرائيل في الحصول على الموافقة الأمريكية لتطبيق مخطط الضم، فمن المرجح أن تستمر في سياساتها العدائية وفرض سيادتها على المستوطنات في الضفة الغربية بشكل عام، ومنطقة غور الأردن بشكل خاص، ضاربة بكافة قرارات الشرعية الدولية عرض الحائط، ويأتي ذلك في إطار إصرارها على فرض واقع يفضي في النهاية إلى ضم فعلي على الأرض يصعب تغييره ولا يبالي بالموافقة الأمريكية من عدمها.
وبإلقاء الضوء على الخطوات والإجراءات التي أصدرتها الحكومة الإسرائيلية خلال الفترة الأخيرة، تتأكد نية إسرائيل لفرض سياسة الأمر الواقع بشكل سريع ومكثف. ويمكن إجمال تلك الخطوات فيما يلي:
- بدأ المشرعون اليمينيون في إسرائيل، بعد أيام من إعلان فوز “بايدن”، في الترويج لخطط لتعزيز البنية التحتية للمستوطنات قبل أن يترك “ترامب” منصبه.
- في منتصف أكتوبر 2020، وافقت لجنة التخطيط في وزارة الدفاع الإسرائيلية على خطط لبناء 3071 وحدة استيطانية جديدة في الضفة الغربية المحتلة.
- بلغت أعداد المستوطنات التي وافقت إسرائيل على بنائها خلال 2020 أكثر من 12 ألفًا، وهو عدد قياسي، وفق ما أفادت به حركة “السلام الآن”.
- قام ما يسمى بـ”لوبي أرض إسرائيل” داخل الكنيست بشن حملة لمطالبة الحكومة الإسرائيلية بشرعنة البؤر الاستيطانية قبيل دخول الرئيس الأمريكي المنتخب “جو بايدن” إلى البيت الأبيض في يناير المقبل .وفي هذا الصدد، قدم العشرات من أعضاء اللوبي الصهيوني استفسارات لوزارة جيش الاحتلال ومكتب “نتنياهو” بشأن هذه البؤر، وطالبوا بشرعنتها، قبيل وصول “بايدن” لسدة الحكم في الولايات المتحدة.
- أعلنت إسرائيل اعتزامها تشكيل هيئة لمراقبة البناء الفلسطيني في المنطقة (ج) بالضفة الغربية. وهو ما اعتبره البعض بمثابة ممارسة فعلية لخطة الضمّ. حيث إن الهيئة المزمع تأسيسها ستكون مثابة إعادة مأسسة رسمية لجمعيات استيطانية كانت تؤدي نفس الدور وتلاحق البناء الفلسطيني، وتهدف بالأساس إلى توثيق ما تعتبره إسرائيل مخالفات البناء والمواقع الأثرية الفلسطينية.
- استمرت إسرائيل في سياسة هدم المنازل والمنشآت الفلسطينية، ففي أكتوبر 2020، انتقدت الأمم المتحدة إسرائيل لقيامها بما وصفته بأنه أكبر عملية هدم لمنازل الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة منذ عقد من الزمن.
- استولت السلطات الإسرائيلية، في شهر أكتوبر، على أكثر من 11 ألف دونم في منطقة الأغوار لصالح ما يسمى المحميات الطبيعية، في واحدة من أكبر عمليات الاستيلاء.
- في نوفمبر 2020، في أعقاب ضغط القيادات الاستيطانية اليهودية في الضفة الغربية على حكومة “بنيامين نتنياهو” لإلغاء قرارها تجميد مخطط الضم، وفي إطار تعويض المستوطنين عن تجميد المخطط، قدمت الإدارة المدنية التابعة للجيش الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، توصية بالإعلان عن المزيد من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، ما يسمى “أراضي دولة”، وتخصيصها للمستوطنات. وتعني هذه الخطوة أن توضع هذه الأراضي في خدمة مشاريع الاستيطان.
عقبات في الطريق إلى الضم
إن استغلال إسرائيل المدة المتبقية من رئاسة “ترامب” لبسط السيادة على أجزاء من الضفة الغربية، يُمكن أن يعيد نهج “باراك أوباما” الذي امتنع في ديسمبر 2016 عن التصويت على قرار مجلس الأمن رقم 2334 المناهض للاستيطان الإسرائيلي، رافضًا طلب الرئيس المنتخب “ترامب”، في ذلك الحين، بعدم القيام بذلك. فضلًا عن ذلك فهناك الكثير من المعوقات التي تواجه تطبيق مخطط الضم الفعلي للمستوطنات، يتمثل أولها فيما يواجهه رئيس الوزراء “بنيامين نتنياهو” من عقبات عدة في الداخل في ظل تصاعد حدة التظاهرات، واتهامه بالإخفاق في إدارة أزمة تفشي وباء كورونا في إسرائيل وما ترتب على ذلك من أزمة اقتصادية. فيما يتمثل ثانيها في التداعيات الاقتصادية على اتخاذ قرار الضم في الوقت الراهن في وقت تشهد فيه إسرائيل تراجعًا على المستوى الاقتصادي.
فضلًا عما سبق، يتعين على “نتنياهو” قبل اتخاذ قرار الضم أن يدرك التهديدات الأمنية المترتبة على هذا القرار، خاصة في ظل تصاعد التوقعات باشتعال انتفاضة فلسطينية ثالثة، قد تكون أشد عنفًا من سابقتيها حال تم تطبيق مخطط الضم فعليًا. ومع ذلك، فإن الاعتبار المهيمن يتعلق بوضع “نتنياهو” السياسي، الذي قد يدفعه لمحاولة إحداث تقدم في هذا الملف لكسب ود أحزاب اليمين داخل إسرائيل، خاصة إذا قرر المضي قدمًا بفكرة إجراء انتخابات جديدة خلال الفترة المقبلة.
السيناريوهات المحتملة
إجمالًا، يمكن وضع عدة سيناريوهات فيما يخص تنفيذ مخطط الضم خلال الفترة القادمة في ظل تولي الرئيس الأمريكي المنتخب “جو بايدن”، وهي كالتالي:
- السيناريو الأول، يتمثل في إمكانية أن تلجأ إسرائيل إلى التطبيق الميداني لخطة الضم، من خلال الانتقال من “الضم الزاحف” إلى “الضم بالأمر الواقع”، بحيث تفرض أمرًا واقعًا لا يرتبط بالإعلان عن الضم الفعلي بشكل رسمي، وهو الأمر الذي يترتب عليه تغيير الواقع وفرض السيادة الإسرائيلية على الأرض دون الأخذ في الاعتبار القرارات والقوانين الدولية.
- السيناريو الثاني، يتمثل في استغلال إدارة “دونالد ترامب” خلال الفترة الانتقالية، بحيث يلجأ “نتنياهو” إلى الحصول على الموافقة الأمريكية بالضمّ الجزئي لبعض المستوطنات في الضفة الغربية، مع تأجيل ضم غور الأردن في ظل الضغوط الدولية والرفض الأمريكي في ظل تولي الإدارة الأمريكية برئاسة “جو بايدن”.
- السيناريو الثالث، يتمثل في اتّباع الولايات المتحدة سياسات عقابية يمكن أن تؤثر فعليًّا على الحكومة الإسرائيلية في ظل تولي “بايدن” حال استمرت إسرائيل في سياستها التوسعية.
وبالنظر إلى الوضع الراهن؛ حيث التوتر الذي تشهده الجبهة الداخلية في إسرائيل بالتزامن مع تراجع شعبية “نتنياهو”، وفي ظل تبني الإدارة الديمقراطية المرتقبة لسياسات مختلفة عما تبنته إدارة “ترامب”، فإنه سيكون من الصعب حصول إسرائيل على الضوء الأخضر، في ظل تولي “بايدن” لتنفيذ مخطط الضم، حيث تتناقض تلك الخطوة مع سياسة “بايدن” تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، والمستندة إلى الالتزام بالقرارات الدولية وحل الدولتين؛ إلا أن ذلك لا ينفي استمرار إسرائيل في فرض سياساتها دون فرض عقوبات أمريكية مؤثرة ارتباطًا بالالتزام الأمريكي بالدعم المطلق لإسرائيل.