على الرغم من الأهمية الجيوسياسية للقارة الأفريقية في مقاربات العديد من القوى الدولية والإقليمية، في ظل دورها الحاسم في عددٍ من القضايا العالمية؛ نظرًا للتركيبة السكانية الشابة (مع بلوغ عدد سكان أفريقيا حاليًا 1.4 مليار نسمة، ومن المتوقع أن يصل إلى 2.5 مليار نسمة بحلول عام 2050، يبدو أن “القرن الأفريقي” بات وشيكًا)، وامتلاكها إمكانيات وموارد طبيعية ومعدنية ثمينة، ومصادر متنوعة للطاقة. بالإضافة إلى ذلك، الكتلة التصويتية المؤثرة للدول الأفريقية في المؤسسات والمنظمات الدولية، لكن لم تحظَ أفريقيا بمكانة كبيرة في توجهات وأولويات مرشحي الانتخابات الأمريكية مقارنةً بالمناطق الأخرى في العالم، ويتسق ذلك مع النهج الأمريكي الثابت من إدارة إلى أخرى في التعامل مع أفريقيا بصيغة مماثلة تشمل برامج التنمية، والمساعدات الإنسانية، والديمقراطية وحقوق الإنسان، وتنامي مجالات الشراكات الأمنية. ورغم أن أفريقيا ظلت أولوية منخفضة نسبيًا بالنسبة لواشنطن، فقد أقرت إدارة “بايدن” بأهميتها المتنامية، وضرورة مشاركة القادة الأفارقة في القضايا العالمية، وهو ما أكده “بلينكن” عند طرح الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه أفريقيا في أغسطس 2022. ضمن هذا السياق، يُطرح تساؤل بشأن؛ هل يوجد اختلاف بين سياسات ومواقف دونالد ترامب وكامالا هاريس تجاه أفريقيا؟.
تأسيسًا على السابق، توجد مؤشرات أولية لما ستبدو عليه سياسات ترامب وهاريس تجاه أفريقيا في حالة الفوز في الانتخابات المقبلة، فمن المرجح أن تتبنى “هاريس” نهجًا مماثلًا لنهج “بايدن” من خلال الحفاظ على وتيرة ثابتة من الزيارات على مستوى الوزراء، والحديث عن تعزيز الديمقراطية وسيادة القانون، وتعزيز الشراكات الاقتصادية والتجارية والمبادرات التعاونية، وفرص النمو والتنمية المتبادلة، وإشراك القطاع الخاص في برامج التنمية في أفريقيا، مع تأكيدها على أهمية الابتكار والأفكار الأفريقية في تشكيل المستقبل العالمي، في ظل إدراك “هاريس” أهمية إقامة التحالفات الدولية، وهو ما يتناقض مع سياسات “ترامب” الانعزالية والحمائية.
في المقابل، أظهرت ولاية “ترامب” السابقة سياسة اللا مبالاة الملحوظة تجاه أفريقيا من خلال أفعال وخطابات مثيرة للجدل، وتصريحاته المهينة بشأن الدول الأفريقية واصفًا إياها بـ “الدول القذرة”، ومن المتوقع انتهاج ترامب مبدأ “البراغماتية والواقعية السياسية أولًا”، مع تجاوز صعوبة تحقيق التوازن بين تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان والحاجة الاستراتيجية للتعامل مع الدول الأفريقية ذات الأنظمة الانقلابية، ويمكن تفصيل أبرز مواقف ترامب وهاريس المتوافقة والمتباينة من أفريقيا على النحو التالي:
أولًا- تحجيم نفوذ الصين في أفريقيا:
على الرغم من أن الولايات المتحدة تظل أكبر مانح للمساعدات الإنسانية في أفريقيا من خلال الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، حيث أسهمت بمبلغ 9.5 مليارات دولار أمريكي للمساعدات عام 2023، فإن الصين أكبر شريك تجاري للقارة الأفريقية، حيث يتجاوز حجم التجارة الثنائية 166.6 مليار دولار في النصف الأول من عام 2024. بالإضافة إلى ذلك، هيمنة الشركات الصينية على سلاسل التوريد الأفريقية لبعض المعادن الحيوية والمعادن الأرضية النادرة وتحديدًا في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية الغنية بالموارد الاستراتيجية اللازمة لبطاريات المركبات الكهربائية في صناعة الدفاع الأمريكية، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي وغيرها من التقنيات الناشئة.
ارتباطًا بالسابق، جاءت مبادرة “ازدهار أفريقيا” وغيرها من المبادرات التنموية كرد متأخر من جانب واشنطن على مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، في ظل تمدد النفوذ الصيني في العديد من الدول الأفريقية وتحديدًا في دول أنجولا والجابون وغينيا الاستوائية، وانفتاح هذه الدول على تطوير الموانئ البحرية، وإفادة بعض التقارير برغبة بكين في إقامة قاعدة بحرية على سواحل المحيط الأطلسي؛ مما يُمثل تهديدًا مباشرًا للمصالح الاستراتيجية والأمن القومي للولايات المتحدة.
وما يدلل على ذلك الجولات الأمريكية والزيارات المتكررة لوزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكين”، ووزير الدفاع الأمريكي “لويد أوستن” لمواجهة نفوذ الصين، وبالمثل أولت واشنطن اهتمامًا مماثلًا بدولة غينيا الاستوائية، لوفرة احتياطاتها من الغاز الطبيعي، وانفتاحها على استضافة قاعدة بحرية صينية.
بجانب ذلك، الإجراءات الأمريكية المضادة للصين في مجال التنافس على المعادن الاستراتيجية في أفريقيا، أطلقت في سبتمبر 2023 مشروعًا للبنية التحية المعروف باسم “ممر لويبتو” الذي يربط بين ثروات جمهورية الكونغو الديمقراطية وزامبيا من الكوبالت والنحاس عبر ميناء لويبتو في أنجولا وصولًا إلى الأسواق الأمريكية والأوروبية. لذلك، فمن المتوقع استمرار ترامب أو هاريس في النظر إلى أفريقيا باعتبارها ساحة للتنافس على النفوذ مع الصين.
ثانيًا- تباين سياسات التعاون العسكري ومكافحة الإرهاب:
من غير المرجح أن تلعب واشنطن دورًا جوهريًا تجاه الصراعات في أفريقيا في حالة فوز “ترامب”، وقد يسحب المزيد من الدعم العسكري، مع التأكيد في تصريحاته بأن المساعدات الأمريكية يجب أن تذهب إلى الأصدقاء والحلفاء، وأن “أموال دافعي الضرائب الأمريكيين ليست مخصصة لدول مثل تلك الموجودة في أفريقيا التي لا تتبنى القيم الأمريكية”، ووفق تقرير مشروع 2025 الذي أعده عدد من الباحثين والمتخصصين المحافظين تحت إشراف مؤسسة هيريتيج الأمريكية، من مصلحة واشنطن التعاون الأمني مع الحلفاء الأوروبيين وخاصة فرنسا في شمال أفريقيا لقيادة عمليات مكافحة الإرهاب ومواجهة النفوذ العسكري والسياسي الروسي في المنطقة وفي مختلف أنحاء أفريقيا.
على الجانب الآخر، مواصلة “هاريس” تقديم المساعدات للدول الساحلية في منطقة خليج غينيا الواقعة على مرمى تأثيرات الجماعات الإرهابية العابرة للحدود من منطقة الساحل الأفريقي، من أجل بناء سياسات المرونة المجتمعية على المستوى المحلي لمنع التجنيد والاستقطاب من قبل هذه الجماعات، مع قيام القيادة الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) بالفعل بمعاينة قواعد جديدة محتملة للقوات الأميركية في كوت ديفوار وبنين وتشاد وليبيا، في ظل لعب روسيا دور مهم في المشهد الأمني في هذه المنطقة بعد انسحاب القوات الأمريكية والفرنسية من دول “كونفدرالية الساحل” (مالي، النيجر، وبوركينافاسو).
ثالثًا- محورية قانون النمو والفرص في أفريقيا (أجوا):
يعتبر قانو “أجوا” محددًا رئيسيًا في سياسات الولايات المتحدة تجاه أفريقيا القائم تحت شعار “التجارة وليس المساعدات” من أجل تعزيز التجارة وتوفير الوصول المعفى من الرسوم الجمركية للمنتجات الأفريقية إلى السوق الأميركية، ومن المقرر انتهاؤه بحلول نهاية السنة المالية (2025)، لكن تظل هناك انتقادات لهذا القانون بسبب عدم تحقيق الفائدة المتساوية لكافة الدول أهلية العضوية بموجبه أو الشمولية لكافة دول القارة الأفريقية مع استخدامه من منطلق سياسة “العصا والجزرة” في التعامل مع الدول الأفريقية.
في هذا الإطار، تظل هناك مخاوف من أن إدارة “هاريس” المحتملة قد تدفع بشروط مقيدة لعمل قانون “أجوا” نتيجة عدم مراعاة معايير واشنطن بشأن سياسات الحكم الرشيد، واحتمال إعفاء جنوب أفريقيا من أهلية القانون نتيجة تعزيز علاقاتها وشراكاتها الاستراتيجية مع روسيا والصين. في حين يقترح تقرير مشروع 2025، تحويل جميع منح المساعدات الأجنبية للمستفيدين الأفارقة إلى قروض وإلغاء جميع برامج مساعدات التنمية على غرار ما أقره السيناتور الجمهوري “ليندسي جراهام” في فبراير 2024.
رابعًا- جدلية القضايا الاجتماعية وسياسات الهجرة:
تعتبر القضايا الاجتماعية المتعلقة باحترام حقوق الإنسان والمثليين والتي طالبت إدارة “بايدن” بتوسيع نطاقها، وأيضًا الحظر المفروض على تمويل تنظيم الأسرة وعمليات الإجهاض من قبل الإدارات المتعاقبة من الجمهوريين، محل جدل بين واشنطن والدول الأفريقية، في ظل محاولات الحزبين فرض القيم الثقافية والاجتماعية على الشركاء الأفارقة، على سبيل المثال، فرض سياسة العقوبات المالية وتعليق العضوية في قانون ” أجوا” نتيجة إقرار قوانين متعلقة بمكافحة المثلية الجنسية كما حدث في أوغندا.
في سياقٍ آخر، تعتبر قضية الهجرة الأكثر أهمية سواء بالنسبة للداخل الأمريكي أو الدول الأفريقية، مع تصاعد موجات الهجرة غير الشرعية من أفريقيا وبشكل خاص من دول غرب أفريقيا عبر الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، مع احتمال فرض سياسات حظر جديدة لمنع دخول المهاجرين، وأيضًا في حالة فوز “ترامب”، سيكون هناك تنفيذ لضوابط الهجرة الصارمة لمنع دخول المواطنين من الدول الأفريقية ذات الأغلبية المسلمة إلى الولايات المتحدة، وهو ما اتضح جليًا في المناظرة الأولى، بخطابه وأجندته القومية الراسخة المتعلقة بتشديد مراقبة الحدود، والحد من موجات الهجرة بسبب تداعياتها السلبية وتهديداتها الأمنية للمصالح الأمريكية. في حين ترى “هاريس” ضرورة اتباع نهج إنساني وأخلاقي في التعامل مع ظاهرة الهجرة واللجوء، باعتبار ذلك نقطة قوة في بناء الأمة الأمريكية المتمثلة في التنوع.
حاصل ما تقدم، من غير المرجح أن تتغير سياسات واشنطن تجاه أفريقيا بغض النظر عمن سيفوز في الانتخابات المقبلة، مع استمرار الأولويات الاستراتيجية والحقائق الجيوسياسية التي شكلت تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة والدول الأفريقية، وأهمية الوصول إلى الموارد المعدنية الثمينة، في ظل عدم وضع واشنطن أفريقيا على رأس أولوياتها الدبلوماسية، وتأخر برامج الاستثمار والتجارة، واستخدام أفريقيا كساحة معركة لصراعات القوة مع الصين وروسيا.