على مدار عقد من الزمن هيمنت الدول الغربية على السياسات الأمنية في دول منطقة الساحل الأفريقي، بينما حافظت الصين على علاقاتها الوطيدة بهذه الدول من خلال التجارة وتقديم المساعدات المالية، وتعزيز البنية التحية، وتنامي برامج التبادل الثقافي، وكان انخراطها في المقام الأول مدفوعًا بالمصالح الاقتصادية، ولا سيما الحصول على الموارد الطبيعية والمعادن، لكن حاجتها إلى حماية مصالحها دفعتها إلى الانخراط في الشئون الأمنية عن طريق برامج التبادل العسكري والتدريب، والمساهمة في بعثات الأمم المتحدة، وتزايد مبيعات الأسلحة. بالإضافة إلى ذلك، جهودها النشطة في حل العديد من الأزمات، وظهر ذلك جليًا في إعلان السفير الصيني “جيانغ فنغ” في نيامي في 5 سبتمبر 2023، رغبة الصين في الوساطة في حل أزمة النيجر، في ظل تعقد الأزمة نتيجة تباين أجندات الأطراف المعينة، وتأزم الوضع الإنساني، وتوتر العلاقات بين نيامي وباريس، وتعضيد الموقف الإقليمي بين المجالس العسكرية في النيجر ومالي وبوركينافاسو.
أولًا- أهمية منطقة الساحل الأفريقي بالنسبة لبكين:
يأتي اهتمام الصين بمنطقة غرب أفريقيا بشكل عام ومنطقة الساحل الأفريقي بشكل خاص لعدة اعتبارات في مقدمتها حماية مصالحها الأساسية التي تشمل التعدين للحصول على الليثيوم في مالي، وصيد الأسماك في موريتانيا، والتنقيب عن النفط في تشاد، وتأمين طرق التجارة والوصول إلى مصادر النفط والغاز في نيجيريا وأنجولا. وقد مكّنت المشاريع المشتركة للشركات الصينية من تعزيز وجودها في دول المنطقة، كما تكيفت المشاركة التجارية الصينية مع السياقات المحلية بالمنطقة. وترتبط هذه المصالح الاقتصادية، بمصالح أخرى ذات أبعاد استراتيجية تتصل بالطموحات الصينية بشأن إقامة قاعدة عسكرية على سواحل الأطلنطي، وتهديد المصالح الأمريكية والأوروبية في هذه المنطقة، في ظل تفاقم قضايا الهجرة غير الشرعية، والجريمة المنظمة العابرة للحدود، وتصاعد أنشطة الجماعات الإرهابية، وموجة عدم الاستقرار السياسي نتيجة تمدد العدوى الانقلابية.
فقد وسّعت بكين نصيبها من مبيعات الأسلحة لدول الساحل الأفريقي كمظهر من مظاهر تحول في استراتيجيتها، وتعزيز أهدافها بشأن تكوين حلفاء جدد وتوسيع نفوذها وتحديدًا مع تراجع النفوذ الفرنسي في هذه المنطقة، باتباع بعض التغييرات في حدود دورها بتعزيز البعد العسكري، سواء بتواجد شركات أمنية خاصة أو مبيعات السلاح، وتحديدًا مع استضافة السنغال في أكتوبر 2021 المؤتمر الوزاري الثامن للمنتدى الصيني الأفريقي (FOCAC)، حيث كانت قضايا الأمن والدفاع من بين الموضوعات الرئيسية على أجندة المؤتمر، وطالبت العديد من الدول الأفريقية من الصين تقديم الدعم والمشاركة الاستباقية في الحرب ضد الإرهاب والجريمة المنظمة العابرة للحدود في منطقة الساحل الأفريقي.
ثانيًا- مظاهر التواجد الصيني في الساحل الأفريقي:
اتخذ الحضور الصيني في منطقة الساحل الأفريقي عدة أشكال من أجل تأمين الحصول على الموارد الطبيعية، حيث تمتلك دول المنطقة مجموعة كبيرة من الموارد والثروات، ففي تشاد يعتبر النفط الخام سلعة التصدير الرئيسية إلى الصين، وتُسيطر شركة البترول الوطنية الصينية (CNPC) على إنتاج وإدارة النفط في تشاد منذ عام 2003، وقامت الصين باستثمارات كبيرة في صناعة النفط في النيجر، كما أقامت مشروع خط أنابيب النفط (أجاديم Agadem-كوتونو)، المدعوم من الشركة الصينية (بتروتشاينا)، والتي تبلغ تكلفته 4 مليارات دولار، وسيربط المشروع بين حقل النفط أجاديم في جنوب النيجر بميناء كوتونو في بنين، باعتباره أكبر استثمار في البلاد منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960، وأطول خط أنابيب للنفط الخام يعبر الحدود الدولية بين الدول الأفريقية، والغرض الرئيسي منه الحد من المخاطر الأمنية واللوجستية للنقل في المنطقة. وقد اكتمل خط الأنابيب بالفعل بنسبة تزيد على 75%، وكان من المقرر أن يبدأ النقل التجاري للنفط في أواخر عام 2023، ويقوم بمعالجة ما يصل إلى 300 ألف طن من البضائع بمجرد تشغيله، بقدرة نقل يومية 90 ألف برميل.
كما بدأت الصين العديد من مشاريع البنية التحتية المتعلقة باستخراج اليورانيوم في النيجر. فعلى سبيل المثال، تدير الشركة النووية الوطنية الصينية (CNNC) وحكومة النيجر مشروعًا مشتركًا في منجم أزيليك. في حين قامت شركة جانفينج ليثيوم الصينية عام 2021 بشراء 50% من حصص منجم جولامينا لليثيوم في مالي، ودفعت 130 مليون دولار، لتأمين التوريدات لأهمية هذا المعدن في تصنيع بطاريات السيارات الكهربائية. وفي موريتانيا، تهتم شركة بولي هونج دونغ الصينية بصناعة الأسماك المحلية، ومولت منشأة لصيد الأسماك بقيمة 200 مليون دولار في مدينة نواذيبو بالبلاد.
كما نفذت الصين مشروعات لدعم التنمية المحلية في المناطق الداخلية في دول الساحل، مثل مشروع تجديد الطريق السريع Chad Diffa-N’Guigmi الذي يربط النيجر بالحدود التشادية، وحصلت مالي على عقود تزيد قيمتها على 11 مليار دولار من الصين لتمويل مشروعين مهمين للسكك الحديدية. كما قامت الشركة الصينية (China Gezhouba Group Corporation) ببناء سد كاندادجي للطاقة الكهرومائية في النيجر. علاوة على ذلك، انخرطت الصين في أنشطة مكافحة الإرهاب، في عام 2019، حيث قدمت مساعدات بقيمة 45.56 مليون دولار لعمليات مكافحة الإرهاب للقوة المشتركة لمجموعة دول الساحل الخمس (تشاد، والنيجر، ومالي، وبوركينافاسو، وموريتانيا). وكجزء من مذكرة التفاهم الموقعة بين مالي والصين عام 2021، زودت الصين مالي بمعدات عسكرية تزيد قيمتها على 9 ملايين دولار، بما في ذلك الأسلحة والذخيرة والشاحنات ومعدات النقل والأمن.
ثالثًا- تحديات قائمة:
على الرغم من التصور الإيجابي العام لمبادرة الحزام والطريق الصينية في الساحل الأفريقي، يظل تحدي الرأي العام المعارض للوجود الصيني يشكل تحديًا رئيسيًا، وذلك نتيجة الالتزام المحدود من جانب الشركات الصينية بمعايير الاستدامة البيئية، مع تكرار ممارسات من قبيل التوسع في الصيد غير القانوني، والتسبب في تلوث المناطق الساحلية، والمشاركة المكثفة في استكشاف المعادن الأرضية النادرة. بالإضافة إلى ذلك لا تبدي الشركات الصينية التزامًا كبيرًا بمعايير الاستدامة الاجتماعية، وهو ما يتسبب في توترات بين الشركات الصينية والمجتمعات المحلية في دول الساحل. علاوة على ذلك، تظهر بعض الأبعاد السياسية المهمة كالتداعيات بعيدة الأمد لانخراط الشركات الصينية في تنفيذ مشروعات البنية التحتية الكبيرة، والتي يؤدي بعضها وظيفة الستار للممارسات فاسدة، مع تسببها في زيادة كبيرة لمديونية الدول الأفريقية.
حاصل ما تقدم، يمكن القول إن الصين استطاعت أن تعزز حضورها في منطقة الساحل الأفريقي، بتنويع مجالات التعاون مع دول المنطقة، بما يخدم مصالحها الأساسية في الاستفادة من الموارد المعدنية النادرة، واستغلال خروج فرنسا بتقديم مقاربتها الأمنية في ضوء تصاعد التهديدات المتقاربة، وتفاقم انعدام الأمن. وبرغم ذلك، تظل هناك مجموعة من العراقيل للحضور الصيني في المنطقة، تجعل المصالح والاستثمارات الصينية محفوفة بالمخاطر وعدم الاستقرار.