تشهد العلاقات الفرنسية التركية حالة من التصعيد المُتنامي منذ ما يقرب من عامين على خلفية اتهام باريس لأنقرة بالتدخل في الشأن الليبي، علاوة على خلافاتهما حول سوريا والأكراد، وأخيرًا وليس آخرًا حول شرق المتوسط والنزاع في إقليم “ناغورني كاراباخ” بين أذربيجان وأرمينيا، كما تزايدت حدة التوتر بين الجانبين بعد تصريحات الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” عن حرية نشر الرسوم الكاريكاتورية، وخطابه ضد “النزعات الانفصالية”، وإعلانه عن استراتيجية لمواجهتها باعتبارها مشروعًا أيديولوجيًا يسعى إلى خلق مجتمع بديل في ضواحي وأحياء مدن فرنسية، مجتمع بديل يلفظ قيم الجمهورية. ووظف الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” خطاب الرئيس الفرنسي ليتهمه بقيادة “حملة كراهية” ضد الإسلام، داعيًا إلى شن حملات لمقاطعة المنتجات الفرنسية.
ولم تتوقف حدة التصريحات عند هذا الحد؛ حيث صرح “أردوغان” بأن “ماكرون مشكلة بالنسبة لفرنسا، ويأمل أن تتخلص منه في أقرب وقت ممكن”. وذلك أمام الصحفيين بعد المشاركة في صلاة الجمعة من مسجد آيا صوفيا. في المقابل، دعا “ماكرون” “أردوغان” إلى “الالتزام بالاحترام”.
وعليه فقد صعّدت فرنسا من حدة لهجتها تجاه تركيا لحشد الجهود الأوروبية للتصدي للنهج التركي العدائي، الذي يضر بمصالحهم. وقد تجلى ذلك من خلال الدعم الفرنسي لكل من قبرص واليونان في مواجهة الممارسات التركية العدائية في شرق المتوسط، بجانب ترؤسها قمة دول جنوب الاتحاد في 10 سبتمبر بجزيرة كورسيكا، بحضور قادة الدول السبع الأعضاء (فرنسا، وإيطاليا، واليونان، ومالطا، وقبرص، والبرتغال، وإسبانيا) للتوافق على موقف موحد حول مستقبل العلاقات بين الاتحاد وتركيا، ومدى إمكانية فرض عقوبات عليها إذا استمرت في نفس سياساتها غير الشرعية.
المواقف الأوروبية الرسمية
أعلن رئيس المجلس الأوروبي “شارل ميشال”، يوم الجمعة 4 ديسمبر 2020، في مؤتمر صحفي استعداد دول الاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات على تركيا نتيجة استمرار “أفعالها الأحادية وخطابها المعادي”، موضحًا أن “تركيا لم تخفض من التصعيد في أزمتها مع اليونان”. كما حث البرلمان الأوروبي، يوم 27 نوفمبر، الاتحاد الأوروبي على فرض عقوبات على تركيا بعد زيارة الرئيس “أردوغان” إلى منطقة “فاروشا” بشمال قبرص، ومحاولته تغيير التركيبة الديمغرافية للجزيرة، متحديًا قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم ٥٥٠ لسنة ١٩٨٤، الذي ينص على “الامتناع عن أي أعمال من شأنها تغيير التوازن الديموغرافي في الجزيرة من خلال سياسة الاستيطان غير القانونية”. ووافق البرلمان الأوروبي، بتأييد 631 صوتًا مقابل معارضة 3 وامتناع 59 عن التصويت، على قرار غير ملزم يدعم طلب قبرص العضو في الاتحاد الذي يحث قادة التكتل على “اتخاذ إجراء وفرض عقوبات صارمة ردًّا على أفعال تركيا غير القانونية”. وبالرغم من عدم إلزامية القرار، إلا أنها المرة الأولى التي توافق فيها الأغلبية الساحقة من أعضاء البرلمان الأوروبي على توقيع عقوبات على تركيا، مما يعكس المزاج الأوروبي الذي أصبح أكثر استياءً من المواقف واللهجة التركية المعادية.
يسبق القرار القمة الأوروبية المزمع عقدها في الـ10 و11 من شهر ديسمبر الجاري. وتتزامن القمة مع قرب انتهاء مهلة الثلاثة أشهر المحددة للجانب التركي وفق البيان الصادر عن القمة الأوروبية التي عُقدت في الأول من أكتوبر، لوقف انتهاكاته للسيادة المائية اليونانية والقبرصية، وإلا فسيتم توقيع عقوبات عليها.
الموقف الأوروبي تجاه تركيا بدأ في التغير ليتقرب من الموقف الفرنسي وإن كان هذا التحرك بطيئًا وتدريجيًّا. ويبدو أن هذا التغير يعود إلى النداءات والضغوط الفرنسية التي لطالما حذرت من العدوان التركي، وإلى ميل تركيا إلى التوسع والابتزاز ما لم يتم إجبارها على التوقف. وإلى ضغط قبرص المطالب بأخذ موقف من تركيا بعدما ربطت تصويتها على العقوبات على رؤوس النظام في بيلاروسيا بالوعد بتوقيع عقوبات على تركيا في سبتمبر الماضي.
وقد انعكست المواقف العدائية لتركيا على تصريح القادة الأوروبيين الذي لطالما اتخذوا موقفًا مهادنًا، ويجنح نحو التهدئة مع تركيا. ففي الـ19 من نوفمبر 2020، صرح الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي “جوزيب بوريل”، بإن “التصرفات التركية الأخيرة في شرق البحر المتوسط وقبرص وإقليم ناغورني كارباخ مقلقة جدًّا”. وأضاف الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي، أن الاتحاد يقترب من مرحلة فاصلة في علاقته مع تركيا. ويأتي ذلك بعد تصريحات وزير الخارجية الألماني “هايكو ماس”، التي قال فيها إنه “يجب على تركيا وقف الاستفزازات في منطقة شرق البحر المتوسط”. فيما أضاف وزير الخارجية الألماني أنه “يجب عليها فعل ذلك، إذا كانت راغبة في الابتعاد عن تطرق قادة الاتحاد الأوروبي، في قمتهم المقبلة في ديسمبر المقبل، إلى فرض عقوبات أوروبية عليها”. ويمكن تفسير تلك النبرة غير المألوفة بما نقلته صحيفة “دي فيلت” الألمانية بأن “الحكومة الألمانية تتعرض لضغوط سياسية داخلية كبيرة لتغيير نهج التعاطي مع أنقرة، وتبني مسار أكثر صرامة”.
وكذلك نجد تغيرًا كبيرًا في الموقف الإيطالي من التحركات التركية، فبعد أن كانت من أهم الدول الداعية لخفض التصعيد مع أنقرة، والتفاهم معها وبخاصة فيما يخص الشأن الليبي (ويعد هذا مفهومًا بسبب شركات الطاقة الإيطالية العاملة في الغرب الليبي، وكذلك بسبب اتفاق الهجرة الذي وقّعته الحكومة الإيطالية وحكومة “السراج” في 2017 والذي ساهم في خفض أعداد المهاجرين بشدة)؛ إلا أن استمرار الاعتداءات التركية على قبرص واليونان وتضارب المصالح بين الطرفين في ليبيا، وتراجع النفوذ الإيطالي لصالح النفوذ التركي؛ ساهم في تغير الموقف الإيطالي من تركيا، فوقّعت اتفاقية ترسيم حدود بحرية بينها وبين اليونان، وشاركت في مناورات عسكرية مشتركة مع كل من فرنسا واليونان وقبرص بغرب قبرص بنهاية أغسطس الماضي.
أبرز الملفات الخلافية بين القوى الأوروبية وتركيا
بالرغم من العلاقات التاريخية بين الجانبين إلا أنها تشهد حالة غير مسبوقة من التوتر حول إدارة بعض الملفات الإقليمية والدولية؛ حيث تسعى بعض القوى الأوروبية بقيادة فرنسا إلى ردع التوسع التركي، وميل الرئيس “أردوغان” إلى ممارسة الابتزاز موظفًا ورقة الهجرة، واعتماده على مقاتلين أجانب (أغلبهم سوريون) في ليبيا وأذربيجان، وعلة ميليشيات تركية تتسبب في اضطرابات في بعض الدول الأوروبية (فرنسا والنمسا)، الأمر الذي يزعزع الاستقرار الخارجي والداخلي، وعليه سيتم التطرق إلى أبرز الأبعاد الخلافية بين الجانبين على النحو التالي:
- رفض التدخل العسكري التركي في سوريا: طالبت بعض القوى الأوروبية وقف العمليات العسكرية في الشمال السوري بعد أيام من انسحاب القوات الأمريكية من المنطقة؛ حيث شنت تركيا غارات جوية ومدفعية على مواقع تابعة للقوات الكردية حول بلدة رأس العين الحدودية. مبررةً بأنها تسعى إلى إنشاء منطقة آمنة بطول 20 ميلًا (32 كم) على طول الحدود ضد تهديد الجماعات الإرهابية. وهو ما أدانته فرنسا مُطالبةً بعقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن لوقف هذه العملية بالتعاون والتنسيق مع بلجيكا وبولندا وألمانيا والمملكة المتحدة، كما تشاركت مع ألمانيا والمملكة المتحدة لإصدار إعلان مشترك يوضح إدانتهم ورفضهم للتدخل العسكري التركي. وقد سعت فرنسا إلى تدويل الأزمة، لكي تشكل ردًا جماعيًا على هذه الانتهاكات، تخوفًا من تفاقم الوضع الإنساني في الشمال السوري، وعودة المقاتلين الأجانب الذين تم أسرهم على يد القوات الكردية إلى أوروبا، علاوة على التخوف من تنامي التنظيمات الإرهابية مستغلة الفراغ الكردي في المناطق الحدودية لإعادة التمركز والانتشار. وهنا لا بد من التأكيد على أن هناك صلة وثيقة بين أنقرة ومقاتلي “داعش”، تجلت في دعمهم ماديًّا وعسكريًا ومعالجتهم داخل الأراضي التركية، ومساعدتهم في بيع النفط المسروق، الأمر الذي يعني أن هناك احتمالية للتوافق بين “داعش” وأنقرة لمواجهة الأكراد في المستقبل، وتوظيفهم للإضرار بالمصالح الأوروبية في مناطق نفوذهم وعمقهم الاستراتيجي.
- ملف اللجوء والهجرة غير الشرعية: يعد هذا الملف حجر عثرة أمام العلاقات الأوروبية التركية نتيجة عدم التوافق على إدارته؛ حيث سعت أنقرة لتوظيفه للضغط على القوى الأوروبية للتهرب من أي عقوبات مستقبلية، وهو ما تمثل بالفعل في تهديد “أردوغان” بإرسال ما يقرب من 3.6 ملايين لاجئ لأوروبا إذا وصفوا عملية “نبع السلام” بكونها “احتلالًا”، بالتزامن مع طلبهم عقد اجتماع في مجلس الأمن لبحث الأوضاع في سوريا، وهو ما يعني استمراره في رهن تسوية أزمة اللجوء والهجرة غير الشرعية بدعم تحركاته في سوريا، بالإضافة إلى رغبته في الحصول على عوائد مالية من الاتحاد الأوروبي لدعم اللاجئين المُقيمين في تركيا، وإعفاء مواطنيها من تأشيرات الدخول إلى الدول الأوروبية، مع إمكانية إعادة فتح ملف المفاوضات للانضمام إلى الاتحاد بعد تجميده على خلفية التوتر في العلاقات مع الاتحاد عقب محاولة الانقلاب في يوليو 2016، وما أسفر عنها من حملات قمع للمعارضين والصحفيين وانتهاكات للحقوق والحريات.
- التحركات العدائية في شرق المتوسط: انتقدت القوى الأوروبية، وفي مقدمتهم فرنسا واليونان وقبرص، الممارسات الاستفزازية غير القانونية التي تجلت في أعمال الحفر والتنقيب في المنطقة، مُطالبين بوقف هذه الأعمال غير المشروعة. وقد أوضح “ماكرون” خلال اجتماعه مع رئيس الوزراء اليوناني “كيرياكوس ميتسوتاكيس” في يناير 2020 الذي قام بزيارة رسمية إلى باريس لحشد الدعم من الاتحاد الأوروبي، “أن اتفاق ترسيم الحدود بين تركيا وحكومة السراج يعد “وثيقة باطلة” لا سند قانوني لها ولا سياسي، مؤكدًا أهمية إلغاء الاتفاق كشرط مسبق لأي حل سياسي”. واستكمل أنه “يدعم سيادة قبرص واليونان على مناطقهما البحرية، وتدين باريس مع شركائها الأوروبيين تدخلات تركيا واستفزازاتها. كما أوضح المتحدث باسم المفوضية الأوروبية للشئون الخارجية “بيتر ستانو” في مؤتمر صحفي، في 30 نوفمبر 2020، أن “قادة الاتحاد الأوروبي سيحددون موقفهم من تركيا في قمة ديسمبر، وما إذا كانت تركيا حققت التوقعات المنتظرة منها بشأن انتهاكاتها في شرق المتوسط، ومؤكدًا أنهم يتوقعون من تركيا التهدئة والالتزام بحوار بناء”. واستكمل أن “مراجعة الموقف من تركيا لن تتم في سياق إعلان واحد أو إجراء واحد، بل على أساس الأفعال والسلوكيات خلال فترة محددة”. وقد سبق ذلك تصريح لـ”أردوغان” قائلًا: “لا نرى أنفسنا في أي مكان آخر غير أوروبا، ونتطلع إلى بناء مستقبل مشترك مع أوروبا”، داعيًا الاتحاد إلى الحوار. وحذر الاتحاد من التحوّل إلى “أداة” لمعاداة بلاده، في ظل تنامي التوتر بشأن حقوق التنقيب على موارد الطاقة في شرق المتوسط.
- انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي: ترفض القوى الأوروبية إعادة فتح ملف المفاوضات لانضمام تركيا للاتحاد نتيجة عدم التزامها باحترام حقوق الإنسان، وحرية التعبير، وقمعها للمعارضة بعد محاولة الانقلاب. كما أوصى البرلمان الأوروبي في مارس 2019 بأن “يتم رسميًا تعليق المفاوضات الحالية لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي”، وذلك بعد أن طالب أعضاء البرلمان تعليق المفاوضات في جلسة عامة؛ حيث تم تبنيه بغالبية 370 صوتًا داعمًا للقرار، مقابل 109 معارض، وامتناع 143 عن التصويت. ومن الجدير بالذكر أن “ماكرون” -وقبله من عشر سنوات الرئيس ساركوزي- قد سبق واقترح مساعي بديلة تعزز الشراكة بين أنقرة والاتحاد بدلًا من الانضمام، إبان اجتماعه في باريس مع نظيره التركي في يناير 2018. قائلًا: “يجب أن ننظر فيما إذا بالإمكان إعادة التفكير في هذه العلاقة، ليس في إطار عملية انضمام بل ربما في إطار تعاون وشراكة بهدف الحفاظ على ارتباط تركيا والشعب التركي بأوروبا، والعمل على جعل مستقبله مبنيًّا على التطلع إلى أوروبا ومع أوروبا”. وجدير بالذكر أن ألمانيا وفرنسا وغيرهما يتخوفون من تداعيات انضمام تركيا للاتحاد وانعكاساتها على عملية صنع واتخاذ القرار داخل مجلس الاتحاد الأوروبي الذي تستند فيه عملية التصويت إلى عدد السكان. وعليه، من المحتمل أن يكون عدد سكان تركيا أكبر من عدد سكان الدول الكبرى في أوروبا، مما سيؤدي إلى توغل أكبر لتركيا داخل المجتمع الأوروبي في شكل مؤسسي بجانب آلياتها التقليدية الرسمية وغير الرسمية. وأيضًا هناك تصور أن القيم والثقافة التركية تقترب من الشرق أكثر من القيم الغربية.
- التدخل التركي في إقليم ناغورني كاراباخ: إثر تنامي حدة الاشتباكات في الإقليم بين أذربيجان وأرمينيا، ومع فشل مجموعة مينسك التي تتكون من (الولايات المتحدة، وروسيا، وفرنسا) في التوصل إلى تسوية سلمية؛ تدخلت تركيا لدعم أذربيجان وأمدتها بأسلحة وخبراء وميليشيات ومكنتها من تحقيق انتصار كبير دفع روسيا إلى التوسط لوقف إطلاق النار. ورغم الاستياء من تهميش الأعضاء الغربيين في مجموعة مينسك، والقلق من دخول تركيا منطقة جديدة، والتعاطف مع أرمينيا؛ كان هناك إدراك أوروبي بسلامة موقف أذربيجان -وبالتالي تركيا- القانوني. ولكن الجاليات الأرمينية في أوروبا حشدت أبناءها لتنظيم وقفة احتجاجية في بروكسل أمام المفوضية الأوروبية للمطالبة بالتصدي لتركيا التي وصفوها بـ”المعتدي”. كما طالب بعض أعضاء البرلمان الأوروبي بالتحرك ضد أنقرة؛ حيث صرح النائب الهولندي “بيتر فان دالين” قائلًا: “أردوغان يريد إعادة إحياء الإمبراطورية العثمانية”، واستكمل “أنه لا يمكن وقف الرئيس التركي من خلال الكلام، وإنما من خلال عقوبات قاسية”. بجانب اتهامات النواب لتركيا بأنها “تريد مواصلة مجازر إبادة الأرمن”. فيما أشار مسئول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي “جوزيب بوريل” إلى أن “مجموعة مينسك هي المنوطة بتسوية النزاع منذ سنوات، وهي الشريك الصحيح للتوسط، والاتحاد سيتحرك دبلوماسيًّا”. وفي هذا السياق، صوت مجلس الشيوخ الفرنسي في نوفمبر 2020 على قرار غير ملزم يدعو الحكومة “للاعتراف بجمهورية ناغورني كارباخ”، و”إدانة العدوان العسكري الأذري الذي تم بمساعدة السلطات التركية ومرتزقة أجانب، ويدعو للانسحاب الفوري من الأراضي التي خسرها الأرمن منذ 27 سبتمبر”، وهو ما رفضه البرلمان الأذري، ودعا إلى إقصاء فرنسا من جهود الوساطة التي تقوم بها مجموعة مينسك، فيما أشار “أردوغان” إلى أن “فرنسا فقدت دورها كوسيط”.
مصالح مُتشابكة وتحديات قائمة
إن الجنوح نحو المزيد من التصعيد تجاه المواقف التركية يُعد موقفًا حديثًا لدى القوى الأوروبية المختلفة كما سبق الذكر، ولا يزال برغم تصاعده يهدف لتوقيع عقوبات محددة على تركيا، فقد كشف النائب في البوندستاغ الألماني “هيلجي ليندي” أن “العقوبات التي يتطلع الاتحاد الأوروبي لفرضها على أنقرة ستكون موجهة لقطاعاتٍ محددة، وسوف تقتصر على المجالات الاقتصادية والمالية والأرصدة المصرفية لبعض الشخصيات التركية النافذة، حيث أوضح أن الهدف من مثل هذه الخطوة، هو إرغام أنقرة على التراجع والتهدئة مع الاتحاد الأوروبي، وبالتالي فتح حوار بين الجانبين قد يؤدي في النهاية إلى حلولٍ للقضايا العالقة بينهما”.
ويعُد هذا التحرك مفهومًا في ظل تشابك المصالح وتعدد أوراق الضغط التركية على الجانب الأوروبي، وإن كان قوتها متفاوتة من بلد لآخر. وأبرز أوراق الضغط تلك هي الجاليات التركية الموجودة في أوروبا وتأثيراتها القوية على المجتمعات المحلية التي تنضوي تحتها، وأكبر تلك الجاليات موجود في ألمانيا بعدد يصل إلى نحو 3.5 ملايين تركي. بالإضافة لحجم التبادلات التجارية والتدفقات المالية الكبيرة بينهم، التي عززها دخول تركيا في اتحاد جمركي خاص بالسلع مع الاتحاد الأوروبي منذ 1996، جعلها الشريك السادس الأكبر لصادرات وواردات الاتحاد الأوروبي من السلع في عام 2019. ومن بين الـ27 دولة الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، كانت ألمانيا أكبر مستورد للبضائع من تركيا وأكبر مصدّر لها. مما صاحبه تدفقات مالية كبيرة، جعلت الاتحاد الأوروبي هو المستثمر الأجنبي الأكبر بتركيا؛ حيث وصل حجم استثماره الأجنبي المباشر في تركيا إلى 219 مليار دولار بين عامي 2003 وأبريل 2020، مما جعل حصته من مجمل حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في تركيا ما يقرب من 77% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة خلال المدة من 2003-2019. بالإضافة إلى تصدّر قطاعه المصرفي قائمة القطاعات المستحقة لديون تركيا الخارجية، فسيطر على ما يزيد عن 80% من حجم ديون تركيا الخارجية المستحقة للمصارف الأجنبية. وكل تلك العوامل الاقتصادية تبرر الموقف الأوروبي الذي سيكون من أوائل المتأثرين بأي تراجع أو انهيار للاقتصاد التركي. إضافة إلى تغلغل تركيا في منظومة الأمن الأوروبي، وتحولها لركن رئيسي في المواجهة بين العالم الغربي وروسيا وكذلك الشرق الأوسط، فتم اعتبار دور تركيا في الناتو كحارس للبوابة الجنوبية الشرقية لأوروبا، ولا توجد دولة في جنوب أوروبا أو حتى في أوروبا ككل استطاعت حتى اليوم إنهاء هذا الدور المحوري لتركيا في الناتو.
كل تلك العوامل المتضافرة يزيد من قوتها ملف اللاجئين السوريين، الذي يُعد الورقة الأبرز من أوراق الضغط التركية على الجانب الأوروبي، فموجة الهجرة واللجوء التي ضربت الاتحاد عام 2015 وأجبرته على استقبال ما يزيد على مليون لاجئ سوري، ألقت بتداعيات على النظم السياسية الداخلية لأوروبا حتى اليوم، والتي على إثرها وقّع الاتحاد مع تركيا اتفاقًا لاستقبال اللاجئين السوريين الذين قُدرت أعدادهم بما يزيد على 3.5 ملايين سوري منذ 2016. ولم يتوانَ الجانب التركي منذ ذلك الحين عن استخدام تلك الورقة في وجه الجانب الأوروبي.
ختامًا، على الرغم من الضغط الفرنسي المستمر الذي بدأ يلقى تجاوبًا عن أوقات أخرى، لما تقوم به تركيا من اعتداءات مستمرة على سيادة قبرص واليونان الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، بخلاف استخدام ورقتي الإخوان والمراكز الإسلامية التابعة لتركيا في بعض الدول الأوروبية لتأليب عدد من المسلمين ضد مجتمعاتهم المحلية؛ إلا أن قوة وتشعب وتعقد أوراق الضغط التركية التي تم ذكر بعضها، تعرقل عملية اتخاذ مواقف شديدة الحدة ضد تركيا. ويبدو أن ألمانيا تحاول توظيف التهديد بالعقوبات (وهي تتحفظ عليها إلى الآن) للحصول على تنازلات من الرئيس التركي.