تميزت بريطانيا عن باقي دول أوروبا بكونها أول الملاذات الآمنة لتنظيم الإخوان في أوروبا بعد تضييق الخناق عليهم في مصر خلال عقد الأربعينيات من القرن الماضي. فمنذ نشأة جماعة الإخوان على يد “حسن البنا” عام 1928، احتضنت المملكة المتحدة الجماعة وقياداتها، وحولت نفسها إلى مركز للجماعة، بما يسمح للأخيرة بالعبور إلى أوروبا من خلاله.
وأكدت الحكومة البريطانية أن الارتباط بجماعة الإخوان يجب أن يُعد مؤشرًا ممكنًا للتطرف، ولكن لا ينبغي تصنيف الجماعة كتنظيم إرهابي، ولا ينبغي حظرها! كما أقرت السلطات البريطانية بأن قطاعات الإخوان لها علاقات مشبوهة بالتطرف ودعم الإرهاب، سواء من حيث الاتفاق الأيديولوجي، أو كون الجماعة “معبرًا” للعناصر التي تلتحق بالإرهاب.
ومن منظور الديمقراطية واحترام الحريات والتعبير السياسي، رحبت بريطانيا وأوروبا بهجرة جماعة الإخوان وباقي التنظيمات الإسلامية. الحكومة البريطانية وحكومات أوروبا وجدت بجماعة الإخوان جماعات الإسلام السياسي، بكل أطيافها ومذاهبها، ورقة رابحة، للضغط على دول منطقة الشرق الأوسط، وكذلك استخدامهم في التحشيد ضد الاتحاد السوفيتي سابقًا.
ازدواجية الإخوان:
ويتحدث الإخوان في بريطانيا ودول أوروبا بوجهين، فهم يطرحون أنفسهم بطريقة معلنة كمعتدلين ومؤيدين للتعايش السلمي والاندماج والحفاظ على القيم الديمقراطية والتفاهم بين الأديان، ومن جهة أخرى يروجون لأهدافهم السياسية بطريقة غير معلنة. ويحاول التنظيم تعزيز نفسه في المجتمعات الأوروبية من خلال المشروعات الاقتصادية والاجتماعية، واستغلال قضايا اللاجئين والمدارس والجمعيات الخيرية.
وفي هذا السياق، يرى “لويس دي لا كورتيه”، الباحث بمعهد الشئون الأمنية في جامعة مدريد المستقلة، أن الإخوان المسلمين يعملون من خلال استراتيجية مزدوجة، فهم “لا يحاولون فقط بناء نفوذ على أسس دينية، ولكن يعملون أيضًا بكل جد على اكتساب نفوذ في المؤسسات السياسية وبين الطبقة الحاكمة”، اعتمادًا على الترويج لنظرية أنهم لا يحصلون على الحرية في دولهم الأصلية، وتجذبهم البيئة الحاضنة للتعددية والحريات في أوروبا، وهو ما ظهر في عدد من الدراسات لكتاب أوروبيين في بدايات الربيع العربي.
رؤية المجتمع البريطاني للإخوان:
كشفت وثائق الاستخبارات البريطانية الكثير عن تورط بريطانيا مع تنظيم الإخوان منذ عقد الأربعينيات من القرن الماضي، وقد استفادت الحكومة البريطانية كثيرًا من جماعة الإخوان داخل بريطانيا وخارجها لتكوين شبكة عمل تخدم مصالحها في دول المنطقة، وهذا ما كُشف عنه في “الإخوان في وثائق الاستخبارات البريطانية”.
بدون شك كان للدعاية الحكومية لبريطانيا أثر في تقبل هذه الجماعات. وربما سياسة الازدواجية والتمكين للجماعة والمظلومية في بريطانيا ساعدت الجماعة على التغلغل داخل المجتمع البريطاني، والأكثر التقرب إلى دوائر صنع القرار من أجل الاستمرار.
انعزالية الإخوان:
رغم ما تبذله الجماعة من مساعٍ للتخفي وعدم الإعلان عن نواياها التي لم تكن بعيدة عن التنظيمات “السلفية الجهادية” بأسلمة المجتمعات داخل أوروبا، فإن المجتمع البريطاني يتهم الإخوان بالانعزالية والازدواجية. في الوقت الذي يدعو فيه إلى دعم النظام السياسي الديمقراطي الحديث في بريطانيا، فجماعة الإخوان تفرض تعاليمها على الجاليات المسلمة، لتصل إلى حد تشكيل مجموعات “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.
وفي دراسة أعدتها الباحثة “فالتينا كولومبو” عن “الإسلام في أوروبا” تشير إلى “أن العمل الإسلامي في أوروبا مختلف عن العالم العربي، وله تنظيم مستقل تمامًا، فهو اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا، وهو مسجل في الاتحاد الأوروبي، وله مقر في بروكسيل”. ونقلت عن “إبراهيم منير” إشارته إلى وجود تنظيمات غربية متفرعة عن الإخوان المسلمين، مظلتها الرئيسية، التي تقابل رأس الهرم، هي اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا الذي تنشر بياناته في (رسالة الإخوان)، وهو يضم تنظيمات أنشأها أفراد لديهم صلات قوية بالإخوان، “وأنشأ هؤلاء الأفراد في كل بلد غربي مجموعة من المؤسسات التي تتخذ أشكالًا محلية مألوفة: جماعات لحقوق الإنسان، مؤسسات دينية، مؤسسات بحثية، اتحادات طلابية، وجماعات ضغط.. إلخ”.
ينظر المواطن البريطاني إلى جماعة الإخوان على أنها نجحت بالفعل في خلق مجتمعات “انعزالية” لها سلوكياتها وتقاليدها وأعرافها، إلى حد تشكيل رياض أطفال ومدارس خاصة تفرض داخلها تعاليمهم الإسلامية.
وجاء تقرير لمرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية خلال شهر ديسمبر 2019، يقول: “إن جماعة الإخوان تعمل على الانتشار والتوسع في المجتمعات الغربية بشكل كبير، عبر تشكيل ما يسمّى بالكيانات الموازية لتكون بديلًا للدولة والمجتمع بالنسبة لأفرادها، وذلك تنفيذًا لوصايا مؤسسها حسن البنا إلى المنتمين للجماعة بصناعة مجتمعات موازية في الغرب، والسعي للسيطرة على صناع القرار فيه”. وتضمن تقرير المرصد الحديث عن التفاصيل المتعلقة بخطة جماعة الإخوان للانتشار في المجتمعات الأوروبية، من خلال السيطرة عليها فكريًّا، واختراق مؤسساتها الثقافية والسياسية.
بريطانيون يرون خطر “الإخوان” أكبر من السلفية “الجهادية”
ويرى المواطن البريطاني أن خطر الجماعة بالفعل أكبر من خطر تنظيم “القاعدة” و”داعش” وفقًا لتقارير الاستخبارات الأوروبية، وتبرز مخاطر الجماعة أكثر من السلفية الجهادية، كونها الظهير لتلك الجماعة من خلال ما تقوم به من أنشطة دعوية، وتقديم الدعم اللوجستي لتلك التنظيمات في سوريا والعراق وأفغانستان وليبيا، إلى جانب التجنيد والتمويل.
ونشر “معهد توني بلير لدراسات التغير العالمي” دراسة يوضح فيها التداخل بين أيديولوجيا الإخوان المسلمين والجماعات الإرهابية مثل “داعش”. وقالت مديرة قسم الأبحاث بالمعهد “إيمان البدوي”: “إن الأدلة تشير بوضوح إلى وجود تداخل أيديولوجي كبير بين استخدام الجماعات الإسلامية (مثل الإخوان) للنصوص الدينية، وبين العنف الإرهابي الذي تستخدمه كل من داعش والقاعدة”.
واتهمت تقارير استخباراتية أوروبية منظمة الإغاثة الإسلامية وفروعها داخل العواصم الأوروبية، ومنها لندن، بتمويل ودعم الجماعات المتطرفة. وتورطت منظمة الإغاثة الإسلامية في عمليات تمويل معسكرات تدريب لتنظيم “القاعدة” في أفغانستان، والعمل والتنسيق مع “جماعة الشباب” الصومالية. وما كشفته تقارير وسائل الإعلام من عمليات تجنيد واستقطاب للجماعات المتطرفة، والتحاق الشباب وأعداد من الفتيات من داخل بريطانيا، ربما يبرهن على ذلك.
الإخوان في بريطانيا وعلاقتهم بالجماعات الإسلامية المتطرفة
بدأت مفوضية المؤسسات الخيرية في المملكة المتحدة التحقيق في ترويج هيئة الإغاثة الإسلامية للدعاة المتطرفين، وأصدر منتدى الشرق الأوسط (وهو مركز أبحاث في فيلادلفيا) تقريرًا يبحث بشكل مكثف عن أنشطة منظمة الإغاثة الإسلامية: فروعها، وعلاقاتها بجماعة الإخوان المسلمين، وعلاقاتها بحماس، وتطرف مسئوليها، وترويجها للدعاة الذين يحرضون على الكراهية ضدهم.
وقدمت هيئة الإغاثة الإسلامية في المملكة المتحدة أموالًا، على سبيل المثال، إلى جمعية الفلاح الخيرية، وهي منظمة دعوة تابعة لحماس يديرها “رمضان طمبورا”. وفي الوقت نفسه، لا تزال منظمة الإغاثة الإسلامية العالمية مرتبطة ماليًا بالمنظمات الأخرى المرتبطة بالإرهاب، بما في ذلك جبهات النظام القطري، مثل جمعية قطر الخيرية.
تقول “إرين ماريا سالتمان”، الباحثة المتخصصة في مؤسسة كويليام البريطانية، إن فكرة التعميم فيما يتعلق ببحث الأسباب خلف التطرف لدى الشباب بشأن ميول المشاركة في “الجهاد”: “الشباب المسلم من الجيل الثاني والثالث للمهاجرين هم المستهدفون في الغالب، لكن هناك أيضًا حالات يكون أبطالها من الأشخاص الذين تحولوا للإسلام”. وتوضح الباحثة أن الأشخاص الذين يتم تجنيدهم لهذه التنظيمات، لديهم عادة شعور بالإحساس بالتميز في عالم يبدو لهم فيه تحقيق الثروة من المستحيلات، ومثل هذا الشعور بفقدان الأمل هو ما تستغله الجماعات المتطرفة لتحقيق أهدافها من خلال إقناع هؤلاء الشباب بالانضمام لجماعات قوية، ترتبط صورتها بمغامرة القيام بتغيير العالم”.
ازدواجية الهوية
يعتبر المواطن البريطاني الأصل أن البريطانيين من أصول أجنبية ليسوا بريطانيين ولكنهم يحملون الجنسية، وهي إشارة إلى أن نسبة كبيرة داخل المجتمع البريطاني ما زالت تنظر إلى البريطانيين من أصول مهاجرة بأنهم لا ينتمون للمجتمع البريطاني بقدر الانتماء إلى البلد الأم، وإن كان من الجيل الثالث والرابع من المهاجرين.
وأظهرت دراسة أجراها معهد برتلسمان ستيفتنغ الألماني، أن اندماج المهاجرين المسلمين يسجل “تقدمًا فعليًا” في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وسويسرا والنمسا، رغم العقبات التي تقف أمامهم فيما يخص التعليم والعمل. وقال المعهد إن “الاندماج حصل في الجيل الثاني على الأكثر لدى غالبية (المهاجرين المسلمين)”، في بيان أعلن فيه عن دراسة شملت ألف شخص كعينة تمثيلية للسكان، إضافة إلى 500 آخرين يقولون إنهم مسلمون من الدول المذكورة.
القيم الأوروبية مهددة من الإخوان
الحكومات الأوروبية تساهلت بشكل ما فيما يتعلق باستقبال أعضاء وقيادات جماعة الإخوان المسلمين والموالين لها. لذا، على الحكومات الأوروبية أن تضيق الخناق وأن تكون أكثر حذرًا وفطنة في استقبال كل من له علاقة بجماعة الإخوان المسلمين. أصبحت الحكومات الأوروبية ملزمة بتجاوز فكرة “حقوق الإنسان والحريات” ظرفيًا ولدواعٍ أمنية، خاصة فيما يتعلق بمنح الاعتماد والتصريح للمتعاطفين مع جماعة الإخوان في فتح مساجد وإنشاء جمعيات ومنظمات تكون غطاءً فيما بعد لهم من أجل التغلغل داخل أوروبا، لأن هذه الجماعة تستغل فكرة “حقوق الإنسان والحريات” من أجل جلب التعاطف وتنفيذ أجندتها.
وقد أدركت فرنسا مكمن الخطر الذي تسببه جماعة الإخوان والمؤسسات المرتبطة بها، فقد تزايدت مؤخرًا موجة التطرف في فرنسا مما أدى بالسلطات الفرنسية إلى تنفيذ خطط واستراتيجيات بهدف محاربة التطرف والإرهاب في المجتمع الفرنسي، وذلك من خلال سن قوانين وصياغة إجراءات في سبيل تحقيق الأمن ضد مختلف أشكال التطرف والإرهاب.
قانون “تعزيز قيم الجمهورية”
مشروع القانون هذا يعد أحد أكبر النصوص القانونية لولاية “ماكرون”، ويتكون من أربعة وخمسين بندًا، ويهدف إلى محاربة التطرف الإسلامي والإرهاب. وترى صحيفة 20 مينيت الفرنسية أن الحكومة تتقدم بحذر وحزم لتبني هذا القانون، ولا سيما أن اسمه تغير من الانعزالية الإسلامية إلى تعزيز القيم الجمهورية. وتذكر الصحيفة أن الرئيس “ماكرون” كان قد كشف عن الخطوط العريضة للقانون في شهر أكتوبر الماضي بعد اغتيال أستاذ التاريخ “صامويل باتي” وبعد الهجوم الإرهابي الذي شهدته مدينة نيس. السلطات تريد أن يكون هذا النص متوازنًا ويتضمن ترسانة ردعية وإجراءات تنص على تماسك المجتمع الفرنسي.
وماذا عن بريطانيا؟
لماذا لم تصنف بريطانيا الجماعة كمنظمة إرهابية؟ إن علاقة بريطانيا مع جماعة الإخوان تمتد إلى عقود طويلة من الزمن، وكشفت الاستخبارات البريطانية أن تنظيم الإخوان ورقة في يدها. هناك سببان لعدم وضع بريطانيا الجماعة على قائمة الإرهاب؛ الأول: أن جماعة الإخوان ورقة ضغط على الحكومات العربية، وخاصة مصر. والسبب الثاني: أن الدول الأوروبية، وخاصة بريطانيا، تخشى من أن وضع الإخوان على قائمة الإرهاب يمكن أن يؤدي لرد الجماعة عليه بتنفيذ عمليات إرهابية سرية ضد المصالح البريطانية، سواء داخل بريطانيا أو خارجها، مما يعني أن هناك مخاوف بريطانية وأوروبية من وضع جماعة الإخوان على قوائم الإرهاب. فبعد اتخاذ باريس جملة من الإجراءات السريعة في محاربة التطرف والحد من أنشطة الإسلام السياسي، أبرزها جماعة الإخوان المسلمين، تشير تقارير الحكومة البريطانية إلى أنها بدأت بمراجعة أنشطة الجماعة وفحص الجمعيات والمراكز الدينية والثقافية في بريطانيا.
وزادت التوقعات -ولعلها الأمنيات- بأن تحذو بريطانيا حذو فرنسا، خاصة عندما يتعلق الأمر بمراقبة رءوس الأموال والتمويل الخارجي، وحظر العديد من المدارس الخاصة وكذلك المساجد التي تدعو إلى التطرف. وبات ضروريًا إبعاد جماعة الإخوان عن دوائر ومؤسسات صنع القرار، خاصة في مجالات البحوث والدراسات أو ما تقدمه مجموعة وأفراد الإخوان من دور استشاري للمؤسسات البريطانية.