لطالما كانت الحدود الموروثة من زمن الاستعمار في القارة الأفريقية إشكالية سياسية وعرقية كبرى، دارت حولها الكثير من المعارك، وفُقد بسببها الآلاف من الأرواح وأصيب آلاف آخرون. ولاحتواء تلك المعضلة تضمن ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية، وتالياً الاتحاد الأفريقي بنداً ملزماً للجميع، وهو القبول بالحدود الموروثة من زمن الاستعمار رغم ما قد يوجه لها من انتقادات، لغرض سد أبواب الخلافات والحروب بين الدول المستقلة حديثاً. وهو بند وإن أوقف الكثير من الادعاءات والمطالب الحدودية بين دول متجاورة، ولكنه عملياً لم يمنع مبدأ توصل دولتين أو أكثر إلى إعادة ترسيم الحدود بينهما كلياً أو جزئياً بالتراضي وعبر الحوار والمفاوضات.
بعض الدول لم تنظر إلى الأمر من هذه الزاوية، ولأسباب داخلية تتعلق بطبيعة نظام الحكم وتوازناته بين مكوناته العرقية، لم تلتزم بميثاق المنظمة الأفريقية، وسعت إلى مد حدودها إلى مناطق أخرى تتبع دولاً مجاورة، أحياناً بالقوة المباشرة، وأحياناً بتطبيق سياسة القضم التدريجي لمساحات جغرافية محدودة واحدة تلو أخرى، مع مرور الزمن يترتب عليها ما تعتبره حقوقاً سيادية تستدعي ترسيماً جديداً للحدود المرسومة سابقاً، وغالباً لم يسبق وضع علاماتها على الأرض.
تمثل إثيوبيا نموذجاً بارزاً في تجاوز التزاماتها القانونية بشأن الحدود مع الدول المجاورة، حدث الأمر مع الصومال، حيث تم التوسع في إقليم أوغادين وضمه، ومنطقة بادمي مع إريتريا التي دارت بسببها حرب ضروس 1998، فُقد فيها أكثر من 80 ألف قتيل من الطرفين، وهي المنطقة التي اعترفت الأمم المتحدة في عام 1990 بأحقية إريتريا فيها. وتطلب الأمر أكثر من 18 عاماً لتقبل إثيوبيا في ظل رئاسة آبي أحمد للوزراء عودة المنطقة إلى إريتريا. والتفسيرات التي تُقال في هذا الأمر ارتبطت أساساً بموقف آبي أحمد من التيغراي الذين سيطروا على الحكم طوال ثلاثين عاماً، وفي ظل عهدهم كانت الحرب حول بادمي، وأيضاً عدم تنفيذهم قرار الأمم المتحدة. ولعل الموقف المشترك بين آبي أحمد والرئيس الإريتري آسياسي أفورقي تجاه الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي الحاكمة للإقليم يفسر التدخل الإريتري في القتال لدعم الحكومة الفيدرالية ضد جبهة تحرير التيغراي في صيف العام الماضي.
القبول بإعادة منطقة بادمي للسيادة الإريترية ودوافعه المتعلقة بمواجهة جبهة تحرير التيغراي وخفض الحقوق الخاصة بالإقليم، يختلف جذرياً عن موقف الحكومة الإثيوبية من منطقة الفشقة السودانية، المعروفة بخصوبتها وتنوعها الزراعي، والتي أتيح للأمهرا التوغل فيها بعلم الحكومة الفيدرالية ودعم القوات الإثيوبية الرسمية والسيطرة على مساحات واسعة منها منذ منتصف الثمانينات في القرن الماضي، وصلت في بعض القطاعات إلى عمق 28 كم داخل الأراضي السودانية، وبتجاهل تام من حكومات البشير المخلوع لخطورة الأمر، وما يترتب عليه من حقائق على الأرض ضد سيادة السودان، نظير ألا تقوم الحكومة الإثيوبية بدعم جماعات المعارضة السودانية. كان الأمر بمثابة مقايضة بين الأرض السودانية لصالح الأمهرا الإثيوبيين الراغبين في التوسع الجغرافي في العمق السوداني، مقابل تخلي إثيوبيا عن دعم المعارضة، وهو ما أتاح خلق حقائق تختلف تماماً عما نصت عليه اتفاقية الحدود لعام 1902. ومحاضر ترسيم الحدود في العام التالي، والتي وقع عليها الإمبراطور الإثيوبي آنذاك منليك مع ممثلي الحكومة البريطانية.
المفارقة الرئيسية هنا لها أكثر من بُعد؛ أولها ما يتعلق بمدى التزام دولة المقر للمنظمة الأفريقية وهي إثيوبيا، لبنود الميثاق المؤسس لتلك المنظمة. والواضح أن أديس أبابا لا تهتم كثيراً بهذا الجانب، بل إنها وظفت نفوذها المعنوي باعتبارها دولة المقر لعدم إثارة تلك التجاوزات والتغاضي الأفريقي عنها. البعد الثاني يتعلق بما تطالب به الحكومة الإثيوبية بالحلول الأفريقية للأزمات الأفريقية باعتبار أن المنظمة الأفريقية أولى من أي طرف دولي بأن تتدخل في تلك الأزمات. ومع ذلك وجدنا دعوة إثيوبية لتركيا غير الأفريقية للتدخل في الأزمة مع السودان.
ووفقاً لتجربة تدخل الاتحاد الأفريقي طوال العامين الماضيين في مفاوضات سد النهضة بين مصر والسودان وإثيوبيا، فقد تبيَّن أن هذا التدخل غير فاعل لأسباب عديدة، من بينها النفوذ المعنوي الإثيوبي إلى الحد الذي حجب قدرات جنوب أفريقيا كرئيس للمنظمة وراعٍ للمفاوضات الثلاثية عن إصدار أي بيان يحدد مسؤولية إثيوبيا عن إفشال المفاوضات التي استمرت عاماً كاملاً، وترجمته عملياً منح إثيوبيا وقتاً ثميناً لاستكمال بناء السد والقيام بالملء المنفرد، وتجاهل تام لحقوق كل من مصر والسودان. وليس بسر أن هناك تفسيرات مصرية، وإن لم تكن رسمية، بأنه حدث توافق جنوب أفريقي إثيوبي كأمر واقع على عدم توصل المفاوضات إلى هدفها المحدد، وهو اتفاق ملزم يحدد سبل التشغيل والملء للسد، وضمانات لحفظ الحقوق المائية لدولتي المصب، وفي الآن نفسه تجاهل المسؤولية الإثيوبية المباشرة في إفشال المفاوضات بكل دلالاتها السياسية والمعنوية بالنسبة للمنظمة الأفريقية، وعجزها عن أن تقدم نموذجاً في تسوية الأزمات والمشكلات بين الدول الأعضاء ومنع أسباب التوتر الإقليمي. وبمعنى آخر خاب الأمل في دور المنظمة، ورغم تغير الرئاسة إلى الكونغو التي عبر رئيسها عن التزامه برعاية مفاوضات تفكك الأزمة وترضي الأطراف الثلاثة، ما زال في القاهرة من يرى الأمر بلا أفق إيجابي، ما دامت المنظمة خاضعة بشكل أو بأخر للنفوذ الإثيوبي كدولة مقر.
البُعد الثالث يتصل بمدى احترام إثيوبيا مبدأ المفاوضات والتهديد الدائم بالحلول الأخرى، والتي تعني استعدادها لخوض حرب واللجوء إلى العنف. أما البعد الرابع يتعلق بالدعاية الإثيوبية المتواترة والقائمة على أمرين؛ أحدهما التنصل من المسؤولية وتبرير تجاهل الاتفاقيات الحدودية الموثقة، والثاني تشويه الحقائق تشويهاً عميقاً، إلى حد بعيد، ويبدو التركيز الإثيوبي على ما تعتبره دوراً لطرف ثالث، لم تحدده صراحة، وإن يُفهم المقصود من هذا التعبير، هو الذي يدفع الحكومة السودانية باتخاذ مواقف ليست لصالح الشعب السوداني حسب مفردات الدعاية الإثيوبية وتصريحات رسمية للمتحدث باسم وزارة الخارجية الإثيوبية دينا المفتي. والمعنى الواضح في مثل هذه الدعاية توجيه إساءة لصانعي القرار السودانيين، فضلاً عن محاولة التفرقة بين المكونات المختلفة في بنية الحكم السودانية ما بين مدنيين وعسكريين. ولعل بيان وزارة الخارجية السودانية الذي أشار إلى أن هذه المواقف الإثيوبية تمثل خطأ لا يغتفر، تعكس حالة المرارة التي تسود مكونات الحكم السوداني تجاه التعنت الإثيوبي ومقاصده الخبيثة.
الأبعاد الأربعة السابقة تمثل منهج حكم تجاه المنظمة الأفريقية ودول الجوار وحقوق الآخرين الثابتة، وهو ما يوفر مساحة غير مسبوقة للتوتر الإقليمي، تبدو نذرها في سياسة استهلاك الوقت حتى الملء الثاني للسد بعد أربعة أشهر، ومن ثم تعرض السودان ومصر لمخاطر مائية جسيمة، لن تمر نتائجها بسهولة على الجميع.