يعاني العالم من جبال الديون المتراكمة في ظل اتجاه جميع الحكومات على مستوى العالم إلى الاستدانة الداخلية والخارجية من أجل تحقيق العديد من الأهداف، كتمويل عجز الموازنة، أو سداد فاتورة الاستيراد، أو لسداد خدمات الدين السابقة. وبحلول عام 2019، تجاوز حجم الدين العام العالمي 255 تريليون دولار، أو ما يمثل 322% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
ومع انتشار فيروس كورونا، تشير جميع التوقعات إلى تسارع وتيرة الدين العام لتسجل مستويات أعلى من تلك التي سجلتها خلال العام الماضي بضغطٍ من تزايد معدلات الإنفاق العام بهدف احتواء تداعيات الوباء، وتراجع الإيرادات، لا سيما في الدول التي تعتمد على مصادر خارجية، كالسياحة وتحويلات العاملين بالخارج لتأمين الاحتياطي النقدي لديها. وبناءً على ذلك، تتزايد مخاطر عدم سداد الديون في تلك الدول مع تضاؤل مصادر النقد الأجنبي.
ويتناول هذا المقال حالات فنزويلا والأرجنتين وتركيا وأوكرانيا، باعتبارها من أكثر دول العالم التي تشهد مستويات مرتفعة من الديون الخارجية، فضلًا عن كونها من أكثر الدول المعرضة لمخاطر عدم القدرة على سداد الديون.
أولًا– فنزويلا
تعاني فنزويلا من أزمة اقتصادية غير مسبوقة في ظل ارتفاع معدل التضخم، وانهيار الاحتياطي النقدي، وتراجع قيمة العملة الوطنية. كل هذه الأمور تُعد مؤشرات على تدهور الأوضاع الاقتصادية للبلاد التي تعاني من تداعيات انهيار قطاع النفط –الذي يمثل أهم قطاعات الاقتصاد الفنزويلي– بسبب العقوبات الأمريكية الواسعة النطاق. وبحلول عام 2018، كان الدين الخارجي لفنزويلا قد وصل إلى 156 مليار دولار.
وفقدت العملة الفنزويلية (البوليفار السيادي) نحو 1326% من قيمتها خلال مدة تبلغ عامًا واحدًا فقط؛ حيث تراجعت قيمة البوليفار السيادي من 20.4 ألف وحدة مقابل الدولار بحلول أواخر أغسطس 2019 إلى 292.1 ألف بوليفار سيادي في الثلاثين من أغسطس 2020. وترجع أحد أسباب انهيار قيمة العملة إلى انخفاض الاحتياطي النقدي (انظر الشكل رقم 1).
ويتضح من الشكل السابق أن الاحتياطي النقدي (متضمنًا الذهب) تراجع بنحو 74.6% منذ عام 2010 حتى 2019؛ إذ تراجع من 29.6 مليار دولار إلى مستوى منخفض للغاية عند 7.5 مليار دولار. ويوضح الشكل رقم (2) تطور الاحتياطي خلال أول ستة أشهر من العام الجاري.
ويتضح من الشكل السابق أن الاحتياطي النقدي في فنزويلا شهد تفاوتًا منذ يناير 2020 حتى يونيو الماضي؛ إذ سجل أدنى مستوياته خلال أبريل عند 6.43 مليار دولار ليعاود الارتفاع مرةً أخرى بنحو 1.3% على أساس شهري إلى 6.48 مليار دولار.
ثانيًا– الأرجنتين
تخلَّفت الأرجنتين، في الثاني والعشرين من مايو الماضي، عن سداد دفعة من ديونها بقيمة 500 مليون دولار للمرة التاسعة في تاريخها منذ الاستقلال عام 1816، وللمرة الخامسة خلال آخر 20 عامًا، والثانية منذ عام 2000؛ حينما فشلت في سداد ديون بقيمة 100 مليار دولار في عام 2001.
وحذر صندوق النقد الدولي في عدة مناسبات من تدهور قدرة الأرجنتين على سداد خدمة ديونها، واصفًا أعباء الديون بأنها “لا يُمكن تحمُّلها”؛ حيث إن الاحتياطي النقدي الذي قد تحتاجه البلاد لسداد ديونها لم يَعُد ممكنًا من الناحية الاقتصادية، لا سيما في ظل تراجع قيمة البيزو الأرجنتيني الذي فقد 24% من قيمته منذ بداية العام؛ حيث سجل أدنى مستوياته على الإطلاق عند 73.81 مقابل الدولار الأمريكي بحلول السابع والعشرين من أغسطس. ويوضح الشكل رقم (3) تطور حجم الاحتياطي النقدي في الأرجنتين.
ويتبين مما سبق أن الاحتياطي النقدي (متضمنًا الذهب) لدى البنك المركزي الأرجنتيني، تراجع بنحو 13.37% منذ عام 2010 حتى 2019، من 52.2 مليار دولار إلى 45.22 مليار دولار، ثم انخفض العام الماضي بنحو 31.71% على أساس سنوي إلى 45.22 مليار دولار. أما عن الأداء الشهري خلال العام الحالي (فانظر الشكل رقم 4).
يتضح من الشكل السابق أن أداء الاحتياطي النقدي خلال النصف الأول من 2020 كان مذبذبًا؛ إذ شهد ارتفاعًا في بعض الشهور، وانخفاضًا في أخرى. وعلى الرغم من ذلك، كان الاتجاه العام لهذا المؤشر سالبًا.
ثالثًا– أوكرانيا
أعلن رئيس الوزراء الأوكراني “دينيس شميهال” في أواخر مارس، أن العجز عن سداد الديون يعد احتمالًا واردًا أمام الحكومة إذا انقطع الدعم الخارجي من المؤسسات الدولية، موضحًا أن بلاده ستواجه مسألة التخلف عن السداد إذا لم يُقدِّم صندوق النقد الدولي الدعم اللازم. وخلال عام 2019 وحده، ارتفع إجمالي الدين الخارجي بمقدار 7 مليارات دولار إلى 121.7 مليار دولار.
أما الاحتياطي النقدي فقد انخفض بنحو 26.6% من 34.5 مليار دولار في 2010 إلى 25.3 مليار دولار بحلول عام 2019 (انظر الشكل رقم 5).
ويُلاحظ من الشكل السابق أن احتياطي أوكرانيا من النقد الأجنبي (متضمنًا الذهب)، تراجع أكثر من النصف في عام 2014 ليتراجع إلى ما دون مستوى عشرة مليارات دولار للمرة الأولى منذ عشرة أعوام. وقد حدث ذلك بسبب سحب السلطات العملات الأجنبية لدعم العملة الوطنية في ظل الصراع مع روسيا عقب ضمها شبه جزيرة القرم. ولكن مستويات الاحتياطي عاودت الارتفاع عقب ذلك لكن بوتيرة بطيئة حتى وصل إلى 25.3 مليار دولار مقارنةً بـ20.4 مليار سجلها خلال 2013 قبل الأزمة. وفيما يتعلق بالأداء الشهري.
ويتضح من الشكل السابق أن الاحتياطي النقدي سجل ارتفاعًا بحلول شهر يونيو 2020 إلى 28.5 مليار دولار، للمرة الأولى منذ عام 2012، بدعم من استلام الشريحة الأولى من صندوق النقد الدولي البالغة قيمتها 2.076 مليار دولار، وزيادة شراء العملات الأجنبية من قبل البنك المركزي الأوكراني، فضلًا عن تأمين مساعدات تمويلية من الاتحاد الأوروبي بقيمة 500 مليون يورو.
رابعًا– تركيا
تشهد تركيا أزمة اقتصادية على جميع الأصعدة؛ بدايةً من ارتفاع التضخم وانهيار الليرة وتراجع معدل النمو وتسجيل مستويات مرتفعة من عجز الموازنة، إلى تفاقم أزمة الديون الخارجية التي تشير البيانات الرسمية إلى أنها في طريقها إلى مزيد من السوء؛ حيث كشف البنك المركزي التركي أن الديون الخارجية المستحقة على تركيا في غضون عام أو أقل، وصلت إلى 169.5 مليار دولار في نهاية مايو الماضي، مرتفعةً نحو 5 مليارات دولار عن أبريل. ومثَّلت ديون القطاع العام 23.2% من الإجمالي، وديون البنك المركزي نحو 11.4%، بينما بلغت نسبة ديون القطاع الخاص 65.4%.
وأشار المعهد المالي الدولي، في بيان صادر في فبراير 2020، إلى خطورة تراكم الديون التركية بصورة تجعلها عاجزةً عن سداد نصف ديونها الخارجية القصيرة الأجل؛ بسبب تراجع الاحتياطي من العملات الأجنبية، وتسجيل الليرة التركية خسائر بصورة مستمرة؛ حيث فقدت أكثر من 40% من قيمتها خلال العامين الماضيين، فيما أعلن صندوق النقد الدولي أن تركيا تعتبر من الدول التي تعاني من تراجع احتياطي النقد الأجنبي إلى ما دون حد الكفاية؛ ما يدفعها إلى الركود الثاني في أقل من عامين (انظر الشكل رقم 7).
ويتضح من الشكل السابق أن الاتجاه العام لاحتياطي النقد الأجنبي (متضمنًا الذهب) هو اتجاه عام سالب؛ وذلك على الرغم من تسجيله ارتفاعًا خلال 2019 بنحو 12% على أساس سنوي من 92.98 مليار دولار إلى 104.15 مليار دولار (انظر الشكل رقم 8).
ويتضح من الشكل السابق أن حجم الاحتياطي النقدي انخفض بنحو 15.7% منذ بداية العام حتى يونيو الماضي من 102.5 مليار دولار إلى 86.35 مليار دولار.
وفي الختام، يمكن القول إنه مع تزايد مستويات الدين العام عالميًّا، ترتفع مخاطر عدم سداد هذه الديون، كما ذكرنا آنفًا، مع ما يترتب على ذلك من اختلالات اقتصادية داخل الدولة؛ أبرزها تراجع التصنيف الائتماني؛ ما يعني انخفاض ثقة المقرضين بقدرة الدولة على سداد خدمة ديونها، وارتفاع تكلفة الاقتراض فيما بعد، كما أن من الممكن أن يلجأ المقرضون إلى القضاء الدولي أو الحجر على أصول الدولة.