بينما تستمر إثيوبيا في الدوران في دائرة مفتوحة من المفاوضات بخصوص سد النهضة مع كل من مصر والسودان، تُفاجئنا مؤخرًا بطلب فتح مفاوضات جديدة مع السودان لتسوية مشاكل الحدود بينهما، بما يمهد لدائرة مفاوضات مفتوحة أخرى، ولم تطلب إثيوبيا ذلك إلا عندما تحرك الجيش السوداني لطرد المزارعين الإثيوبيين الذين تؤمّنهم مليشيات عسكرية داخل الأراضي السودانية قبل أكثر من خمسة وعشرين عامًا مع بدايات عام 1995 إبان حكم الرئيس السابق عمر البشير، حيث تفجر الموقف بهجرة حوالي 50 ألف لاجئ، حيث أعلن وزير خارجية السودان الحالي عمر قمر الدين من إقليم تيجراي الإثيوبي خلال الحرب الأهلية: “إن الحكومة السودانية استعادت الموقف على الحدود بين البلدين بعد تبادل لإطلاق نيران المدفعية والهاون بين الجانبين عبر الحدود”.
وبينما تريد إثيوبيا أن تحتكم في ترسيم الحدود إلى اتفاقية عام 1902 بينها وبين بريطانيا المحتلة لكلٍ من مصر والسودان والتي وقعت نيابه عنهما؛ ترفض إثيوبيا حقوق السودان ومصر المائية في النيل الأزرق بصفتهما دولتي المرور والمصب، وعدم إقامة أي منشآت عليه (مثل سد النهضة) إلا بموافقتهما كنص المادة الثانية من ذات الاتفاقية (1902)، حيث ترفضها إثيوبيا هنا بدعوى أنها (اتفاقية الاستعمار)، بينما كان الاستعمار لمصر والسودان وليس إثيوبيا! وهو ما يجب أن نعود معه لظروف وملابسات تلك الاتفاقية الجدلية. حيث كانت بريطانيا تحتل كلًا من مصر والسودان، وتضعه تحت حكم ملك مصر والسودان منذ يناير 1899، وترفع عليه العلم البريطاني! كحكم ثنائي لزيادة الفرقة والضغينة بين البلدين الشقيقين نهجًا لسياسة فرق تسود، بينما تتحالف إثيوبيا مع إيطاليا وتتلقى منها مساعدات عسكرية بعد فشل فرنسا في استقطابها.
وقد ظلت إثيوبيا (الحبشة) بقيادة ملكها (منيليك الثاني) تتمدد غربًا داخل الأراضي السودانية وحول النيل الأزرق وتجاوزت سدي القضَارِف والرُصِيرصْ في اتجاه الخرطوم ووادي مِدني، وتم اكتشاف ذلك بواسطة دورية مشتركة بريطانية سودانية مصرية بقيادة الميجور (الرائد) البريطاني (كوينْ) عام 1891، حيث كانت الدورية تتتبع مجرى النيل الأزرق لتأمين تدفق الفيضان خلال الخريف من كل عام. وكان التمدد الإثيوبي قد شمل إقليمي (جامبيلا، وبني شَنْقول) حيث سد النهضة الحالي، بالإضافة إلى منطقة (الفَشَقة) وتعني أرض مثلثية الشكل بين فرعي نهر كما في أفرع نهري النيل الأزرق وعطبرة، حيث تتشكل فشقات كبرى وصغرى، وقد استغلت إثيوبيا انشغال السودان بالصراع بين “المهدي” وبريطانيا الذي وصل مداه بإعدام بريطانيا لمعظم اُسرة المهديين الذين كان يتجمع العديد من السودانيين لديهم، خوفًا من ثورتهم ضدها.
وهنا فرض الموقف نفسه، فإما أن تنسحب إثيوبيا طواعيةً إلى داخل حدودها وتحل المشكلة، أو ترفض، أو تعرض الانسحاب الجزئي، وهنا كان أمام بريطانيا خياران: الأول، أن تُجيّش جيشها وجيش كل من السودان ومصر لإجبار إثيوبيا على الانسحاب الكامل إلى داخل حدودها وترك مناطق الفشقة وإقليمي جامبيلا وبني شنقول، خاصة أن الجيش المصري كان يملك خبرة قتال قرب تلك المناطق عندما قام في العهد العثماني تحت قيادة (كتشنر) بطرد الفرنسيين من منطقة (فاشورة) جنوب شرق السودان.
والخيار الثاني، أن تقبل بحلول وسط بأن تنسحب من جزء وتحتفظ بالآخر. وهو ما رجّحته بريطانيا لتجنب المشاركة في قتال ونزاع قد يمتد لسنين ويؤثر على تدفق الفيضان، والأهم هو انتظام الزراعة المصرية والسودانية التي تمد بريطانيا بالمواد الخام اللازمة للصناعات الغذائية وصناعة النسيج وصناعات أخرى. كما أنها أرادت استمالة إثيوبيا وتحسين العلاقة معها بعيدًا عن التنافس الفرنسي، وكذلك طلب مد خط سكة حديد بريطاني من السودان إلى أوغندا عبر إثيوبيا وبعيدًا عن مستنقعات جنوب السودان كالبند الرابع من اتفاقية 1902 أيضًا.
انتهت المفاوضات البريطانية الإثيوبية إلى انسحاب الأخيرة من منطقة الفشقات المستوية الخصبة، مع الاحتفاظ بإقليمي جامبيلا وبني شنقول (الغني بالذهب)، حيث سد النهضة الحالي، وهي منطقة غير مستوية تتدرج في الارتفاع كلما اتجهنا شرقًا وشمالًا لتتشكل منطقة جبلية مرتفعة تنحدر في اتجاه الحدود السودانية، حيث مكان السد على عمق 35-40 كم من الحدود السودانية الجديدة (حدود الاستعمار) طبقًا لاتفاقية 1902، وللوصول إلى تلك الاتفاقية وفي العام السابق 1901 تم تشكيل فريق عمل مشترك سوداني إثيوبي برئاسة الميجور البريطاني “كوينْ” لتحديد خط الحدود الجديد بين البلدين.
تم التحديد الرقمي المتسلسل بوصف جغرافي وطبوغرافي لسرعة الإنجاز، على أن يتم تعليم وترقيم تلك النقاط على الطبيعة بعد التوقيع على الاتفاقية، وهو ما تم بين الممثل البريطاني وملك إثيوبيا في 15 مايو 1902، ثم أصبحت نافذة المفعول بعد توقيع ملك بريطانيا وتسليمها رسميًا إلى ملك إثيوبيا بواسطة المفاوض والسفير البريطاني في أديس أبابا (هارنجتون) في 28 أكتوبر من العام نفسه 1902، حيث تم الشروع في ترقيم نقاط الحدود خلال عام 1903، وكان من المفترض أن يتم بناء تلك النقاط المُرقًمة لاحقًا بما يقاوم عوامل التعرية، ولكن يبدو أن ذلك لم يكتمل أو اندثر، ولم يتبق إلا نقاط المعالم الطبيعية، مثل نقطة الحدود بين السودان وإثيوبيا وإريتريا عند انفصالها (وادي الرويان-جبل ستيت) التي اعتدًت بها إثيوبيا طبقًا لاتفاقية 1902، بينما ترفض باقي معظم الخط المحدد لحدودها مع السودان طبقًا لذات الاتفاقية، كرفضها لما يخص سد النهضة.
بالعودة إلى بداية ولُبّ المقال، حيث بدأ نظام الحكم الجديد في السودان في العمل على استعادة وتأمين حدود الدولة وبسط سيادتها على كل ربوع السودان، حيث استفاد من دروس الماضي القريب المريرة، حيث فقد السودان الكبير جنوبه بحق تقرير المصير، نتيجة سياسات مذهبية خاطئة أرساها الرئيس الأسبق جعفر النميري، وكاد أن يفقد غربه في دارفور لولا تدارك الموقف وإدماج الإقليم وقياداته في الوطن الأم، وها هو يريد تحرير شرقه من التمدد الإثيوبي الجائر داخل أراضيه، الذي تزامن أغلبه مع حكم الرئيس السابق عمر البشير الذي بدأ عام 1989.
يجب على نظام الحكم الجديد في السودان أن يستعد لجولات وجولات من مفاوضات الدائرة المفرغة، التي وصفها أحد الباحثين السودانيين بـ”أنها مفاوضات من أجل المفاوضات، وليست مفاوضات من أجل الوصول إلى الهدف الذي يحمي حقوق الأطراف استشهادًا بمفاوضات سد النهضة منذ إعلان المبادئ عام 2015″. والمثال مؤخرًا حين تقابل في جيبوتي في ديسمبر الماضي 2020 رئيسا وزراء البلدين “حمدوك” و”آبي أحمد”، حيث عرض الأخير الانسحاب من الأراضي السودانية مقابل الحصول على تعويضات من السودان! أعتقد لأنه كان يحصل على ضرائب من الإثيوبيين العاملين والمحتلين للأراضي السودانية، وسوف يخسر تلك الضرائب! وإذا كان كذلك فهو عذر أقبح من ذنب.
مما سبق وبمقارنة فترة حكم الملك مينليك قديمًا ورئيس الوزراء آبي أحمد حاليًا، يمكن الخروج بعدد من النتائج، كالتالي:
1- الانتقائية في القانون أو الاتفاقية الواحدة، بأخذ ما يريد وترك ما لا يريد كما يتم مع اتفاقية 1902 المحفوظ إحدى نسختيها الأصلية في حفظ الوثائق البريطانية والموقعة باسم ملكى بريطانيا وإثيوبيا (حيث لم تكن هناك أمم متحدة بعد).
2- طبقًا للقانون الدولي، لا يتغير أثر ونفاذ الاتفاقيات والمعاهدات الدولية بتغير نظم الحكم بين أطرافها، إلا بموافقتهم جميعًا، وهو ما يجب أن تحترمه إثيوبيا، وليس التنصل بدعوى أنها اتفاقية الاستعمار! فقد احترمت كل من مصر وإسرائيل وثائق بريطانية وعثمانية عمرها عدة قرون، للتحكيم الدولي لتحديد تبعية نقطة طابا إلى مصر رغم أن مساحتها 4 كم مربع ضمن سيناء البالغ مساحتها 61 ألف كم مربع لإقرار سيادة الدولة على حدودها، وهو ما تسعى إليه الحكومة السودانية، ويجب أن تقبله إثيوبيا بالحوار الفعال أو التحكيم الدولي.
3- أن إثيوبيا تُلمح إلى أن السودان ما كان ليفعل ذلك (يطالب بحقوقه الحدودية) ما لم يكن هناك طرف ثالث يدفعه، في إشارة مُبطًنة إلى مصر، وهو بحث عن ذرائع أيضًا، لتلوم حكومة السودان الوطنية التي تبحث عن حقوقها الحدودية، حيث تفجر الموقف وزاد الطين بِلًة بنزوح حوالي 50 لاجئ تيجراني إلى السودان نتيجة الحرب الأهلية واجتياح الجيش الإثيوبي للإقليم المتاخم، وهو ما يحتاج معاونة السودان إفريقيًا ودوليًا.
استنادًا إلى ما سبق، يمكن الخروج بنتيجة مؤداها أن إثيوبيا كدولة فيدرالية تواجه مشاكل داخلية متعددة، سواء عرقية أو دينية أو أقلية أمهرية تتحكم في أغلبية أرومية كمثال، مما يهدد بتفكك بعض أقاليمها كما بدأ في إقليم تيجراي، فليس الأمثل أن تلجأ إلى التكتيك القديم بأن الدولة مهددة من الخارج، من أجل لُحْمَة الداخل في مواجهة تلك التهديدات، ولكن الأصوب هو مصارحة الشعب الإثيوبي بالحقائق واحترام القوانين والمعاهدات والمواثيق الدولية، سواء ما وقعت عليه سابقًا، أو ما استُحدث كالقانون البحري والأنهار العابرة للحدود، والأهم هو حسن الجوار في إطار القاعدة الذهبية التي يرددها الرئيس “عبدالفتاح السيسي” تجاه رفقائه في السودان وإثيوبيا، بأنه لا ضرر ولا ضِرار.