استطاعت الدول العربية في مؤتمر مراجعة معاهدة عدم الانتشار النووي لعام ١٩٩٥ تضمين قرار خاص بإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية وباقي أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط كجزء من صفقة التمديد اللانهائي للمعاهدة. وبعد مرور ثلاثين عاماً على هذا القرار، ما زال ملف إخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية يراوح مكانه، وأصبحت الدول العربية حبيسة التحرك في مسار لن يؤدي إلى أي نتائج إيجابية، مما يستدعي ضرورة إعادة التقييم والتفكير في مقاربات مختلفة.
ثلاثون عاماً من الدوران في حلقة مفرغة
مثل مؤتمر المراجعة لعام ١٩٩٥علامة فارقة في تاريخ المعاهدة بسبب حلول موعد انتهائها في ذلك العام، ووجود رغبة دولية في تمديدها بصورة لا نهائية. ورأت الدول العربية في ذلك الأمر فرصة لوضع قضية إخلاء المنطقة من الأسلحة النووية على جدول أعمال مؤتمرات المراجعة. وبالفعل نجحت الدول العربية في عقد ” صفقة” توافق بمقتضاها على التمديد اللانهائي للمعاهدة مقابل تضمين ما درج على تسميته “بقرار الشرق الأوسط” في مخرجات المؤتمر. وقد دعا القرار الذي تبته الدول الوديعة – الولايات المتحدة وروسيا والمملكة المتحدة – “جميع دول الشرق الأوسط” إلى الانضمام إلى معاهدة عدم الانتشار النووي، والامتناع عن تطوير أو حيازة أسلحة نووية أو أية أنواع أخرى من أسلحة الدمار الشامل. غير أن الدول العربية لم تستطع الإشارة إلى إسرائيل بالاسم، باعتبارها الدولة النووية الوحيدة في المنطقة، والتي يعتقد حيازتها لما بين ٨٠ – ٢٠٠ رأس نووي حسب أغلب المصادر. وفي أعقاب المؤتمر، سارعت باقي الدول العربية التي لم تكن موقعة بالتوقيع على المعاهدة، ظناً منها أن هذا الموقف سيؤدي إلى كسب التأييد الدولي، وممارسة الضغط على إسرائيل، خاصة من الدول الراعية للقرار التي تعهدت بدعم جهود إنشاء المنطقة الخالية.
وفي مؤتمر المراجعة التالي عام ٢٠٠٠، أصبحت كل دول المنطقة موقعة على المعاهدة ما عدا إسرائيل التي ظلت خارج المعاهدة بدون أية التزامات قانونية. وعلى ذلك ضغطت الدول العربية لذكر إسرائيل بالاسم في الوثيقة الختامية للمؤتمر ومطالبتها بالانضمام لمعاهدة عدم الانتشار، وإخضاع جميع منشآتها لنظام الضمانات للوكالة الدولية للطاقة الذرية. وفي المقابل، طالبت الولايات المتحدة تسمية العراق كدولة غير ملتزمة بتنفيذ اتفاق الضمانات الخاص بالوكالة الدولية للطاقة الذرية. ورغم أن الدول العربية اعتبرت ذكر إسرائيل بالاسم نتيجة إيجابية للمؤتمر، بالإضافة إلى الخطوات ال١٣ التي تم اعتمادها لنزع السلاح النووي، إلا أن ما حدث في نهاية الأمر هو تأكيد ما تم ذكره سابقاً دون اتخاذ أي خطوة عملية أو اعتماد آلية تنفيذ في اتجاه انشاء المنطقة الخالية من الأسلحة النووية.
وفي ضوء تغير السياق السياسي في المؤتمر التالي عام ٢٠٠٥، وقع انقسام حول جدول الأعمال، حيث أصرت الدول العربية على ادراج قرار الشرق الأوسط كبند مستقل، بينما رأت الدول الكبرى ضرورة التركيز على ملفات الانتشار النووي الخاصة بإيران وكوريا الشمالية، وتجاهل الالتزامات التي تم اعتمادها في مؤتمري ١٩٩٥، و٢٠٠٠. وبالتالي فشل مؤتمر المراجعة لعام ٢٠٠٥ ولم تصدر وثيقة ختامية تعبر عن توافق المجتمع الدولي تجاه القضايا المتعلقة بالانتشار النووي.
ثم عادت الدول العربية لتتمكن في مؤتمر المراجعة عام ٢٠١٠ من إحياء الالتزام بإنشاء المنطقة الخالية من أسلحة الدمار الشامل من خلال التوافق على عقد مؤتمر خاص يضم جميع دول الشرق الأوسط عام ٢٠١٢، وتحديد الدولة المضيفة. كما كلف المؤتمر الأمين العام للأمم المتحدة والدول الراعية للقرار بتعيين ميسر لبناء توافق مع الدول المعنية حول إجراءات وجدول أعمال المؤتمر.
ومع ورفض إسرائيل المشاركة في مؤتمر الشرق الأوسط – وبدعم من الولايات المتحدة أحد الدول الراعية لقرار عام ١٩٩٥- بذريعة أن الظروف الأمنية في المنطقة غير مناسبة، انسحبت مصر من المؤتمر التحضيري لمؤتمر المراجعة في جنيف عام ٢٠١٣ باعتباره تراجع عن الالتزام بقرار عام ١٩٩٥ومقررات عام ٢٠٠٠. ودخلت الدول العربية إلى مؤتمر المراجعة عام ٢٠١٥ وهي مصممة على عقد المؤتمر خلال ٦ شهور بعد انتهاء مؤتمر المراجعة. كما اقترحت روسيا عقد المؤتمر في موعد لا يتجاوز ١ مارس، ٢٠١٦، إلا أن عدم توافق الدول حول هذا الأمر أدى إلى فشل مؤتمر المراجعة لعام ٢٠١٥ وعدم تبني وثيقة ختامية للمؤتمر. لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تقدمت الولايات المتحدة بورقة عمل في المؤتمر التحضيري اللاحق تشير فيه إلى أن مؤتمرات المراجعة ليست هي المنبر المناسب لمناقشة قضية إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل، أي أن الولايات المتحدة – الدولة الراعية للقرار – تراجعت عن هذا المسار بعد عشرين عاما من التعهدات بدعم إنشاء المنطقة الخالية من الأسلحة النووية.
في مواجهة هذا التحول، أدرجت المجموعة العربية على جدول أعمال اللجنة الأولى للجمعية العامة للأمم المتحدة عام ٢٠١٨ بنداً لمشروع قرار يطالب الأمين العام للأمم المتحدة بعقد مؤتمر سنوي تكون مهمته صياغة معاهدة ملزمة قانوناً حول إقامة منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل. وقد تمت الموافقة على مشروع القرار بأغلبية ١٠٧ أصوات، وامتناع ٧١ صوت، ومعارضة الولايات المتحدة، وإسرائيل وميكرونيزيا. وكالعادة قاطعت إسرائيل المقاربة العربية الجديدة، كما أعلنت الولايات المتحدة أن هذا التحرك العربي سيؤدي للإضرار بالجهود الدولية لإقامة منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط.
وفي آخر مؤتمر للمراجعة عام ٢٠٢٢ (والذي تم تأجيله من عام ٢٠٢٠ بسبب وباء كوفيد)، سعت الدول العربية للحصول على دعم لدورات مؤتمر الشرق الأوسط، إلا أن مؤتمر المراجعة لم ينجح نتيجة اعتراض روسيا على فقرات تتعلق بالحرب في أوكرانيا، مما أدي إلى عدم تبني وثيقة ختامية للمؤتمر للمرة الثانية على التوالي.
ورغم استمرار مقاطعة إسرائيل والولايات المتحدة لأعمال مؤتمر الشرق الأوسط، أصرت الدول العربية على المضي قدماً في هذا المسار، وعقدت خمس دورات للمؤتمر كان آخرها في نوفمبر ٢٠٢٤ شاركت فيها الدول العربية وإيران وفرنسا والصين وروسيا والمملكة المتحدة، وبعض الوكالات المتخصصة. ولم تملك الدول العربية أمام هذا الوضع إلا أن تطالب ببذل جهود “لإقناع وحث” إسرائيل والولايات المتحدة على المشاركة، وأوصت لجنة كبار المسئولين التابعة لجامعة الدول العربية المنعقدة في القاهرة في يناير ٢٠٢٤ بتشكيل فريق اتصال مفتوح العضوية تم تكليفه للتواصل مع الدولتين.
احتمال نجاح إخلاء المنطقة من الأسلحة النووية من خلال مؤتمرات المراجعة
أظهرت خبرة الثلاثين عاماً الماضية أن مؤتمرات المراجعة لم تعد المسار الذي يمكن تحقيق تقدم من خلاله لإخلاء المنطقة من الأسلحة النووية، وأصبحت الالتزامات التي حصلت عليها الدول العربية في المؤتمرات السابقة – التي لا تشارك فيها إسرائيل وتتأثر بالسياق السياسي – مجرد قرارات يغيب عنها آلية التنفيذ.
ولا ينتظر في ظل ازدواجية تطبيق المعايير أن تشهد مؤتمرات المراجعة تقدماً في ملف إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل. وكما ورد في تقرير الدورة الخامسة من أنه “لا يتم تطبيق الركائز الثلاث للمعاهدة بالتوازي، بل يتم إعطاء الأولوية لركيزة عدم الانتشار النووي، وإهمال ركيزتي الاستخدام السلمي، ونزع السلاح”، بما يعنى أنه يتم منع أية دولة من تطوير قدرات نووية وتضييق مسار الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، مع عدم تطبيق أية التزامات خاصة بنزع السلاح النووي.
كما أنه لا ينتظر أن يكون هناك تقدم من خلال مؤتمرات المراجعة في هذه الأجواء التي تتسم بتزايد أجواء الصراع وفقدان الثقة في آليات عدم الانتشار، وهو الأمر الذي في لجوء روسيا للتهديد باستخدام أسلحة نووية بعد حربها في أوكرانيا، وتصاعد أصوات في الخليج تدعو إلى امتلاك رادع نووي رداً على تطوير البرنامج النووي الإيراني.
والأهم أنه لا يمكن توقع احراز تقدم لإخلاء المنطقة من الأسلحة النووية من خلال معاهدة قانونية لا تشارك في صياغتها الدولة النووية الوحيدة في المنطقة، وتقاطعها الولايات المتحدة. يضاف إلى ذلك أن قواعد اتخاذ القرار التي تم الاتفاق عليها في الدورة الأولى لمؤتمر الشرق الأوسط اشترطت موافقة كل دول المنطقة بالإجماع لإقرار الموضوعات الإجرائية والموضوعية. أي أن الدول العربية اشترطت لاعتماد المعاهدة موافقة إسرائيل التي لا تعترف بالمؤتمر. وبالطبع يمكن التنبؤ بأن إسرائيل سترفض المعاهدة التي ستقضي الدول العربية سنوات في صياغتها، لنعود بعد ذلك إلى إعادة المحاولة من جديد، وترك الأمن الإقليمي رهينة في مؤتمرات المراجعة.
مقترح مقاربة بديلة
لطالما رفضت إسرائيل الانضمام إلى معاهدة عدم الانتشار النووي بذريعة أنها دولة صغيرة تواجه تهديداً وجودياً في محيط من “الأعداء”، وتصر على عدم مناقشة هذا الملف قبل حل النزاعات الإقليمية. كما اتخذت إسرائيل من البرنامج النووي الإيراني غطاءً لتهربها من أي مقاربة لإخلاء المنطقة من الأسلحة النووية. ويمكن الزعم بأنه منذ صدور قرار الشرق الأوسط أخذت فكرة التهديدات التي تذرعت بها إسرائيل في التضاؤل تدريجياً بعد سقوط الأنظمة في العراق وسوريا وليبيا وانهاء مشروعاتهم لأسلحة الدمار الشامل، بالإضافة إلى تقويض القدرات العسكرية لجماعات “محور المقاومة” في المنطقة. كما بدأت في هذه الآونة محادثات بشأن الملف النووي الإيراني يمكن أن تؤدى إلى تسوية تنهي فكرة التهديد الذي تعللت به إسرائيل للتهرب من محادثات اخلاء المنطقة من الأسلحة النووية.
ومن هذا المنطلق، يجب على الدول العربية الإعداد لهذه المرحلة الجديدة، وبدء مناقشة مرحلة ” ما بعد الاتفاق النووي الإيراني” مع الولايات المتحدة وباقي الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن. ويمكن في هذا السياق اقتراح مقاربة جديدة تتبنى نهج تدريجي يبدأ بالدعوة لمحادثات للأمن الإقليمي في المنطقة كمرحلة انتقالية يتم فيها التوصل إلى “تفاهمات أمنية” / إجراءات بناء ثقة، تمهيداً للانتقال إلى مسار اخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل لاحقاً. ويمكن لاحقا مناقشة أنواع هذه التفاهمات/ الإجراءات، وكيفية ربطها أو فصلها عن ملفات سياسية مثل عملية السلام والتطبيع.
وقد حاول كتاب مثل “Salik Naeem” و “Nir Hassid” طرح فكرة تطبيق إجراءات بناء ثقة في الشرق الأوسط أولا بدلاً من الدخول في مرحلة المطالب مباشرة. إلا أن الكاتبان اقترحا إجراءات تتعلق بالقدرات العسكرية وهو ما نرى ضرورة تجنبه في المرحلة الأولى من المحادثات الأمنية لتجنب تكرار فشل تجربة محادثات نزع السلاح والأمن الإقليمي ACRS التي عقدت عقب مؤتمر مدريد عام ١٩٩١. ويمكن الادعاء أن بدء واستمرار تلك المحادثات هو في حد ذاته إجراء بناء ثقة يؤدى إلى خفض التوتر في المنطقة بغض النظر عن النتائج، حيث أن التصعيد العسكري يبدأ فقط عندما تتوقف المحادثات.
وتأسيساً على ما سبق يمكن اقتراح اتخاذ الخطوات التالية في الفترة المقبلة:
- الإعلان عن نية الدول العربية كسر التوافق في مؤتمر المراجعة القادم بما يؤدي لعدم تبني وثيقة نهائية للمؤتمر طالما استمر تجاهل مشاغل دول المنطقة ومقررات مؤتمري ١٩٩٥، ٢٠٠٠، ليكون المؤتمر القادم هو المؤتمر الثالث على التوالي الذي يفشل في احراز أي تقدم ويهدد بانهيار آلية منع الانتشار ونزع السلاح النووي.
- ترتيب اجتماع بين الدول العربية وإيران لبحث جهود إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل في مرحلة ما بعد تسوية الملف النووي الإيراني، وفي ضوء مقاطعة إسرائيل والولايات المتحدة لدورات مؤتمر الشرق الأوسط.
- إجراء محادثات مع الولايات المتحدة، وباقي الأعضاء الدائمين (بصورة فردية أو جماعية)، لنقل شواغل دول المنطقة بشأن تنفيذ قرار الشرق الأوسط واستكشاف وجهات النظر المختلفة حول المرحلة المقبلة.
- اقتراح بدء محادثات حول الأمن الإقليمي تضم الدول العربية وإيران وإسرائيل وبمشاركة الدول الكبرى، كمرحلة انتقالية بهدف التوصل إلي توافق حول إجراءات متدرجة تتصاعد حسب درجة التقدم المحرز.
- تحدد الأطراف نفسها خلال المحادثات نوع هذه الإجراءات، على ألا تشمل القدرات العسكرية، ولا يتم اختيارها من قائمة مسبقة الإعداد أو من تجارب مناطق أخرى.
- تنتقل دول المنطقة من مرحلة محادثات الأمن الإقليمي إلى مسار إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل عندما يتم احراز التقدم الذي تراه دول المنطقة ضروري لحل معضلة الأمن.
الخبير في الدراسات الأمنية