مارست أثيوبيا أكبر قدر ممكن من التعتيم على أحداث الحرب التي شنتها على إقليم “تجراي”، عبر قطع الكهرباء والاتصالات والبث اللاسلكي بمختلف أنواعه، ظنا منها أن هجومها العسكري سيستغرق أيام أو أسابيع على الأكثر، للإطاحة بالحكومة المحلية ومن ثم تنصيب حكومة موالية لأديس ابابا، تعود بعدها الأمور لمجاريها ويحقق آبي أحمد نصرا سياسيا في طريق نسف الفيدرالية ونقل منظومة الحكم إلى الطبيعة المركزية. وفي طريق تحقيق ذلك تحقق له الحرب الخاطفة والكاسحة رغبة الانتقام من عرقية “التجراي”، باعتبارها العدوة اللدودة لمشروعه السياسي فضلا عن تقويض مساحات النفوذ الذي تتمتع به، العرقية التي ظلت لعقود طويلة قابضة على مقاليد الحكم والسيادة والثروة في ربوع أثيوبيا على اختلاف أقاليمها.
حسابات آبي أحمد ارتبكت بعد الشهر الأول من هذه الحرب، وبدا الانزلاق إلى مستنقع التداعي يحمل يوميا ما يؤكد أن الأمور تسير على غير ما جرى التخطيط له. فقد كانت السيطرة الزائفة على “ميكيلي” عاصمة إقليم التجراي، الذي حاول آبي أحمد أن يروجه في البداية كانتصار عسكري وايذانا بالسيطرة الأمنية على المشهد الأمني، يخفي حقيقة أن عاصمة الإقليم جرى إخلاء القادة التيجرانيين عنها، حيث لجأوا إلى الجبال من أجل إدارة حرب استنزاف ممتدة ضد قوات آبي أحمد. عبر عن هذا التكتيك بشكل واضح “دبراسيون جبرميكائيل” زعيم “جبهة تحرير تجراي” والقائد الفعلي للإقليم، في قوله عن القوات الحكومية “إن وحشيتهم تزيد من عزمنا على محاربة هؤلاء الغزاة حتى النهاية”. زعيم الجبهة لم يكن يبالغ في قدرات الإقليم وقدامى القادة العسكريين، الذين يديرون هذا الأمر منذ نوفمبر الماضي ولأربعة أشهر كاملة وصولا لليوم، فهؤلاء هم من خاضوا حرب العصابات التي استمرت 17 عاما،تمكنوا بعدها من السيطرة على السلطة في العاصمة الفيدرالية أديس أبابا في عام 1991، ليستأثروا بعد ذلك على المناصب القيادية في الجيش وأجهزة المخابرات،قبل أن يقوم رئيس الوزراء آبي أحمد بعزلهم وإبعادهم عندما تولى منصبه في عام 2018.
بسبب الأحداث التي جرت في غضون اقتلاع “التجراي” من سيطرتهم على مفاصل الأجهزة القوية في البلاد، طوال العامين الماضيين حين شعرت هذه القومية أن الصدام مع نظام الحكم الجديد قادم لا محالة، كان هناك عمليات تجنيد وتدريب واسعة تدور في مدن إقليم التجراي بهدف الاستعداد لهذا الصدام الوشيك. وقدر المراقبون أن الإقليم وقيادات جبهة التحرير العسكرية المخضرمة، لديهم القدرة على حشد أكثر من (200 ألف مقاتل) من الميليشيات إلى القوات الخاصة في الحكومة الإقليمية، أمام عدد يقارب (150 ألف عسكري) هي القوة الفاعلة في صفوف الجيش الفيدرالي الأثيوبي. وإزاء تعويض هذا التفاوت العددي والخلل في القدرات والتسليح لصالح قوات الإقليم، ارتكب آبي أحمد “الخطيئة الاستراتيجية” الأهم في إدارة هذا الصراع، وهي فتح باب التعاون مع الجارة الإريترية كي تقدم المساندة العسكرية للقوات الحكومية، من أجل الاسراع بسحق قدرات التجراي واستعادة السيطرة على عاصمتهم، وتقويض سلطات الجبهة واسترداد معسكرات قاعدة القيادة الشمالية العسكرية، التي استولت عليها مقاتلو الجبهة في الفصل الأول من الصراع، وهي توصف بأنها أكبر قيادة عسكرية إقليمية للجيش الفيدرالي.
لم يدرك آبي أحمد في البداية أن خطيئته تلك ربما ستتسبب قريبا جدا، في فقدانه منصبه بعد أن فتحت الصراع على بوابات من الجحيم، ربما ذهبت مراهنته على العداء التاريخي للرئيس الإريتري “أسياس أفورقي”، الذي خاض حربا حدودية مريرة مع إثيوبيا عندما كانت تحت سيطرة جبهة تحرير تيجراي. لكن الأمر وإن مثل عامل تحفيز للإريتريين في البداية،إلا أنه سرعان ما تجاوز ذلك سريعا إلى ايقاظ العداء الكامن ضد الدولة الأثيوبية، وهو ما جعل الفعل الإريتري يتجاوز ما كان مستهدفا من مجرد فتح جبهة خلفية على الإقليم المجاور، إلى انخراط عميق ومؤثر وبأعداد من قوات الجيش الإريتري لم يتمكن أحد حتى الآن من تحديد عددها، ولا أبعاد تمددها داخل الأراضي والجبهات الأثيوبية التي فتحت على مصرعيها. فقد كان لافتا على نحو كبير أن القوات العسكرية الإريترية التي ترتكب الفظائع والمذابح الواسعة، في مدن إقليم التجراي الملاصق لحدودها وأشهرها مذابح مدينة “أكسوم” التي كشف عنها مؤخرا، ظهرت في جبهة أخرى تبعد آلاف الكيلومترات عن حدودها مع أثيوبيا، داخل الأراضي السودانية التي تستولى عليها أديس أبابا، ويخوض الجيش السوداني حربا شرسة من أجل استردادها وتأمين مواطنيه الذين يتعرضون جراءها لانتهاكات واسعة.
القوات المسلحة السودانية كشفت منذ أيام؛ وهي تعلن نجاحها في استرداد بعض المناطق من أراضيها المستولى عليها، أنها كانت تواجه قوات من الجيش الأثيوبي ومن الجيش الإريتري سويا. وهذا يفسر بشكل جلي أن التوغل الإريتري تجاوز مداه بصورة كبيرة، ويضع حقيقة يتناولها الأثيوبين همسا فيما بينهم، أن الجيش الإريتري وقياداته وجنوده هم من يقودون المشهد اليوم في أديس أبابا، وفي غيرها من المناطق التي بدأ سكانها يسربون الصور والمقاطع المصورة لفظائع ترتكبها القوات الإريترية. كافة التقارير الصادرة مؤخرا عن المنظمات الإنسانية، فضلا عن تقارير أجهزة الاستخبارات الأوروبية والأمريكية التي لجأت إلى طائرات “الدرونز”، كوسيلة وحيدة لتوثيق وجمع المعلومات حول ما يجري في هذا الظلام، خلف الستار السميك الذي تفرضه أثيوبيا على الأحداث اليومية التي تضرب مدنها وسكانها المدنيين. بدأت تحمل نبرة مغايرة وقفزت أريتريا لتحتل صدارة الاتهامات بارتكاب الفظائع الإنسانية غير المسبوقة، ولم تخل مناشدة رسمية وغير رسمية من مطالبة أسمرة بخروج قواتها العسكرية من أثيوبيا بشكل عاجل، ولعل ما جرى نشره على وسائل الإعلام العالمية حديثا من تقارير صادرة عن “منظمة العفو الدولية” تتحدث عن “الضباع” التي نهشت جثث الضحايا، في مدينة “أكسوم” لم تأت على ذكر الجيش الأثيوبي بقدر ما نقلت مئات من الشهادات عما تعرض له المدنيين من أعمال قتل واسعة، على أيدي عناصر عسكرية نظامية من الجيش الإريتري بملابسهم الرسمية وآلياتهم.
يقابل هذه الأحداث التي انزلقت بالمشهد الإثيوبي إلى حضيض من الظلام الدامس، نفيا تاما من كلا الدولتين عن وجود قوات إريترية داخل أثيوبيا، ويرجع البعض ممن هم غير موالين لآبي أحمد هذا النفي، إلى أن إريتريا أصبحت الآن هي الحاكم الفعلي وصاحبة اليد العليا في إدارة المشهد العسكري برمته، في إقليم تجراي وخارجه بعد أن خرج الأمر عن سيطرة آبي احمد بشكل كامل، بل هناك ما هو أبعد من ذلك مما يدور عن خضوع رئيس الوزراء الأثيوبي إلى ما يشبه “الإقامة الجبرية”، بعد أن نزعت عنه كافة الصلاحيات في التعامل مع مجريات الأحداث السياسية والعسكرية. وبالفعل الرجل بعيد عن وسائل الإعلام منذ شهور طالت فيها عمر الأزمة الداخلية، والانفلات الواسع الذي أصبح لا يسمح لأحد بالإجابة عن سؤال الساعة، هل دخل آبي أحمد نفق الاستعداد للإطاحة به في انقلاب قصر أو عسكري أيهما أقرب، بعد أن أصبح أسياسي أفورقي المحرك الأقوى للأحداث والقابض على سلطتها، وقبلا أين بالفعل “آبي أحمد” صاحب جائزة نوبل للسلام من كل ما يجري ؟!