حمل مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة الذي استضافه العراق، يوم 28 أغسطس 2021، عدة رسائل حول عودة العراق إلى التفاعل الإيجابي مع محيطيه العربي والإقليمي كنتاجٍ للسياسة الخارجية التي اتبعها رئيس الوزراء “مصطفى الكاظمي”. إذ جمع المؤتمر دول الجوار العراقي، كالأردن، والسعودية، والكويت، وتركيا، وإيران، علاوة على مصر، والإمارات، وقطر، وفرنسا، وجامعة الدول العربية، ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي. فإلى أي مدى يمكن التعويل على هذا المؤتمر كمنصة للحوار الإقليمي؟.
رسائل إيجابية
(*) حضر مؤتمر بغداد عدد من الدول التي تقف على طرفي نقيض فيما يتعلق بسياساتها في المنطقة، وهو ما يُعد إنجازًا في حد ذاته، إذ استهدف “الكاظمي” من ذلك جني ثمار سياساته خلال الشهور الماضية، والعلاقات التي أقامها مع مختلف الفاعلين في المنطقة عبر جمعهم على طاولة واحدة، وهو ما يُعد اختراقًا لحالة الجمود التي اتسمت بها علاقات بعض هذه الدول. كما استهدف أيضًا البناء على الدور الذي اضطلعت به بغداد خلال الشهور الفائتة كمحور جامع لمختلف المشاريع بالمنطقة، ووسيط يمكن الوثوق به بين القوى المتنازعة، خاصة إيران والدول العربية، وهو ما ظهر في المشاورات التي استضافتها بغداد في أبريل 2021 بين السعودية وإيران، وذلك لإيجاد أرضية مناسبة للحوار الإقليمي.
(*) تحمل اللقاءات الجانبية التي عُقدت بين الحاضرين على هامش مؤتمر بغداد أهمية كبيرة قد تفوق رمزية جمع الأضداد وما اتفقوا عليه في البيان الختامي، خاصة تلك اللقاءات التي كانت بين البلدان التي كانت حتى وقت قريب في حالة خلاف. من هنا تأتي أهمية لقاءات مثل لقاء الرئيس “عبدالفتاح السيسي” وأمير قطر الشيخ “تميم بن حمد آل ثاني”، وكذلك اللقاء بين نائب الرئيس الإماراتي رئيس الوزراء الشيخ “محمد بن راشد آل مكتوم” والأمير القطري، وهما أرفع لقاءين بين مسئولي مصر والإمارات من جانب وقطر من جانب آخر منذ مقاطعة الرباعي العربي للدوحة عام 2017، وهو ما يعد تتويجًا لمسار المصالحة الذي بدأ في قمة العلا (يناير 2021). هذا علاوةً على اللقاء الذي جمع الشيخ “محمد بن راشد” ووزير الخارجية الإيراني “حسين أمير عبداللهيان”.
(*) على الرغم من أن الاختراق الأكبر الذي كان يُعوّل على مؤتمر بغداد إحداثه بين السعودية وإيران بعقد مباحثات مباشرة بين وزيري خارجية البلدين لم يتحقق، فإن هذه هي المرة الأولى التي يشارك فيها كبار مسئولي البلدين على طاولة مباحثات واحدة منذ عام 2016. علاوة على ذلك، فقد تحدث وزير الخارجية الإيراني مع نظيره السعودي “فيصل بن فرحان” على هامش المؤتمر، ووعده باستئناف الاتصالات بين البلدين، وهو اللقاء الأول منذ انتخاب الرئيس الإيراني الجديد “إبراهيم رئيسي”.
(*) قال وزير الخارجية العراقي “فؤاد حسين” إن اللقاءات المباشرة بين السعودية وإيران في بغداد والتي بدأت في أبريل الماضي ستتواصل لحين حل كل الخلافات. وأكّد سفير إيران لدى بغداد “إيرج مسجدي” أن الجولة الرابعة من المحادثات بين إيران والسعودية سوف تنعقد، وأن “لدى طهران شعورًا جيدًا تجاه الجولة المقبلة لتحقيق نتائج جيدة”. وهو ما يعد استمرارًا للدور الذي اضطلعت به بغداد منذ فترة بغية تخفيض حدة التوترات في المنطقة.
فاعلية مشروطة
يتوقف تقييم النجاح المستقبلي لمؤتمر بغداد والتعويل عليه كمنصة للحوار الإقليمي في المنطقة على عدد من العوامل التي تتعلق بإرادات دول المنطقة، وبالعراق، ومدى استمرار انخراطه الإيجابي في المنطقة، ومدى قدرته على ضبط التدخلات الخارجية في شئونه، ويمكن إجمال هذه العوامل فيما يلي:
إرادةُ دول المنطقة تجاوزَ خلافاتها: إذ إن مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة بما تضمنه من حضور رفيع المستوى لقوى متناقضة قد يعد إشارة ضمنية من هذه الدول على إرادتها خفضَ التصعيد القائم بالإقليم، وإعلاء مساحات الدبلوماسية والحوار على المساحات الصراعية التي ميزت أنماط تفاعلاتها وعلاقاتها خلال السنوات الماضية، والعمل وفق إطار احتوائي لمختلف المخاوف والمصالح للتوصل إلى صيغة تعايش مشترك، ولا سيّما مع توجه الولايات المتحدة إلى فكّ الارتباط التدريجي بقضايا الصراع في الشرق الأوسط، والتركيز على أهداف أخرى هي حالة التنافس مع الصين وروسيا وأقاليم جغرافية أخرى يأتي في مقدمتها آسيا والمحيط الهادئ. وإذا صدقت هذه الإشارة فيمكن حينها التعويل على مثل هذه المؤتمرات في تعزيز حالة التلاقي والحوار بين قوى المنطقة.
قدرة العراق على ضمان سيادته: وهي تُعد عاملًا مهمًا في إمكانية استمرار التعويل مستقبلًا على بغداد كوسيط إقليمي وساحة للحوار بين دول المنطقة؛ إذ لا يمكن ذلك إذا ما استمر التدخل الأجنبي في شئون العراق، سواء كان هذا التدخل عن طريق إيران من خلال التوجهات السياسية أو قدرة المليشيات الولائية على اختراق منظومته الأمنية ووأد أي مساعٍ إصلاحية، خصوصًا مع توقعات استمرار هذا النفوذ داخل المشهد السياسي العراقي ما بعد الانتخابات المقبلة؛ أو كان التدخل عن طريق تركيا من خلال العمليات العسكرية المتواصلة في شمال العراق، وسياسة أنقرة وطهران في الضغط على العراق من خلال ملف المياه، وهو ما قد يفضي -في النهاية- إلى تقويض مساعي العراق لاستقلالية القرار والنأي بالذات عن التجاذبات الإقليمية، وبالتالي إضعاف قدرته على ضبط هذه التجاذبات وتخفيض حدة التوترات.
توجهات الإدارة الإيرانية الجديدة: إذ إن جزءًا غير قليل من فاعلية مؤتمر بغداد واللقاءات التي تستضيفها العاصمة العراقية يتوقف على السلوك الذي من المتوقع أن تسلكه إيران خلال الفترة المقبلة فيما يتعلق بإدارة خلافاتها في المنطقة، وخاصة فيما بعد التوصل إلى اتفاق مع القوى الغربية بشأن برنامجها النووي، والذي سيمثل إضافة لقدرات طهران النوعية على المستويات السياسية والدبلوماسية والعسكرية، والتي يمكن أن تؤدي إلى تراجع التوجه نحو الحوار مع دول المنطقة، وزيادة مساحات الغرور السياسي لديها، والعمل على استغلال هذه القدرات في ممارسة نفوذ أكبر في بعض الملفات العالقة مثل اليمن وسوريا ولبنان، فضلًا عن العراق ذاته.
مسار العلاقات العربية-التركية: إذ تمثل التدخلات التركية في كلٍّ من سوريا والعراق وليبيا أحد أهم العوامل التي تعترض طريق تسوية الخلاف القائم بين أنقرة وعدد من العواصم العربية، وفي مقدمتها القاهرة. وسيتوقف الأمر على ما يمكن أن تتخذه تركيا من خطوات إيجابية في هذا الإطار يمكن أن تصب -في النهاية- في صالح تعزيز الأمن الإقليمي، وإتاحة الفرصة بشكل أكبر لإجراء حوار فعّال بين تركيا والقوى العربية والإقليمية لحلحلة التشابكات والبدء في مسار تعاوني.
(*) إجمالًا، لم يكن من المتوقع أن يفرز مؤتمر بغداد واقعًا إقليميًا جديدًا، لكنه -في الوقت ذاته- قد يمثل نواة يمكن البناء عليها لتكريس دور بغداد كوسيط إقليمي بين دول المنطقة، فالمؤتمر ساحة بديلة للاجتماعات الثنائية والثلاثية بين الدول المتضادة حتى لو تغير مكان انعقاده بشكل دوري مع ثبات إطاره العام، وترسيخ مبدأ الحوار بين هذه الدول المتصارعة، إضافة إلى التعامل ببراجماتية سياسية فيما يتعلق بالمسائل الخلافية، سواء التي تخصّ قضايا المنطقة أو القضايا الثنائية بين القوى الإقليمية بدلًا من التنازع الأيديولوجي والجيواستراتيجي.