السياسة الدفاعية في مفهومها العام تعني “الإطار الذي يحدد اتجاهات الاستراتيجية العسكرية وخطوطها العامة، وهي حلقة الاتصال بين الجانب المدني والجانب العسكري في الدولة، وهي التي تنظم وتنسق العلاقة بين مختلف السياسات التخصصية بالدولة وبين القوة العسكرية ودورها واستخدامها وحجمها وصولًا لتحقيق الهدف السياسي العسكري للدولة”. بعبارة أخرى، فإن السياسة الدفاعية هي الكيفية التي تنفذ بها السياسة العامة للدولة في المجال العسكري.
وتتعدد المدارس الفكرية في تعريف مفهوم السياسة الدفاعية، فهناك اتجاه ينتمي للمدرسة الشرقية في الدراسات الأمنية لتعريفها بشكل مترادف مع مفهوم السياسة العسكرية؛ بينما الاتجاه الذي تتبعه المدرسة الغربية هو اعتبارها مساحة التقاطع بين السياسة العامة للدولة وسياستها العسكرية، لتكون هي السياسات التنفيذية للسياسة العسكرية للدولة. ولعل هذا التداخل والخلط بين المفهومين يعود للطبيعة المزدوجة لها التي تجمع بين البعدين العسكري والسياسي.
مفهوم السياسة الدفاعية
هناك العديد من التعريفات التي تقدمها الأدبيات الأمنية لمفهوم “السياسة الدفاعية”، لتوضيح خصوصيتها وتمييزها عن غيرها من المفاهيم، خاصة مفهوم السياسة العسكرية ومفهوم الدفاع، ومن أهمها:
- السياسة الدفاعية هي: “السياسة التي تهدف إلى رسم وتطوير كافة الوسائل الكفيلة بتأمين الحفاظ على السيادة الوطنية، وهذه السياسة يُجرى تخطيطها وفقًا لإرادة الحكام التي تحاول مواجهة كل خطر يهدد الدولة ومصالحها الحيوية”.
- السياسة الدفاعية هي: “الإطار الذي يحدد اتجاهات الاستراتيجية العسكرية وخطوطها العامة”.
- السياسة الدفاعية هي: “الاستراتيجية التي يحددها صانع القرار لاستخدام القوة، ويحدد من خلالها طبيعة السياسات المتبعة مع الحلفاء أو مع الأعداء”.
- السياسة الدفاعية هي “حلقة الاتصال بين الجانب المدني والعسكري في الدولة، وهي التي تنظم وتنسق العلاقة بين مختلف السياسات التخصصية بالدولة وبين القوة العسكرية، ودورها واستخدامها وحجمها وصولًا لتحقيق الهدف السياسي العسكري للدولة”. بمعنى أن، السياسة الدفاعية هي الكيفية التي تنفذ بها السياسة العامة للدولة في المجال العسكري.
العناصر الأساسية لمفهوم السياسة الدفاعية
دراسة وإدراك السياسة الدفاعية لدولة ما، لا يكتمل بدون التعرف على العناصر الأساسية التي ترتكز عليها هذه السياسة، وهي:
أولًا- القوة البشرية: القوة البشرية بالنسبة للسياسة الدفاعية هي القوات المسلحة سواء حجمها، أو توزيعها على الأفرع الرئيسية، أو تشكيلاتها، بالإضافة إلى سياسة التجنيد المتبعة في الدولة. فمن حيث الحجم تهتم دراسة السياسة الدفاعية بمعرفة حجم القوة البشرية النظامية والاحتياط في المجال العسكري، ونسبة هذا الحجم لإجمالي عدد سكان الدولة موضوع الدراسة. أما التشكيل بمعنى توزيع الدولة لقواتها المسلحة على أسلحتها المختلفة فإن دراسة السياسة الدفاعية تهتم به؛ لأن ذلك التشكيل يعكس الاحتياجات الاستراتيجية للدولة وفقًا لأهداف السياسة الدفاعية. كذلك فإن معرفة نظام التجنيد في الدولة موضوع الدراسة سواءً من حيث سن التجنيد الإجباري، ونوع المجندين وغيره من الأمور يفيد في دراسة سياستها الدفاعية.
ثانيًا- الإنفاق العسكري: يُقصد بالإنفاق العسكري الجزء المخصص من موارد وإمكانات الدولة للاستخدامات العسكرية، ويندرج تحت الإنفاق العسكري كل من: الإنفاق الدفاعي المباشر (مرتبات وأجور العاملين في المؤسسة العسكرية، الصناعات العسكرية، استيراد الأسلحة ومكوناتها)، والإنفاق الدفاعي غير المباشر (الدفاع المدني، بيع المعدات، المساعدات العسكرية). وتتحدد أولويات الإنفاق العسكري وفقًا للأهداف التي تحددها السياسة الدفاعية للدولة.
ثالثًا- نظم التسليح: يشهد العالم تطورًا تكنولوجيًا في كافة المجالات بشكل متلاحق، والحياة العسكرية من أكثر المجالات التي يتضح فيها هذا التطور؛ ولذا يتردد كثيرًا أن هناك ثورة تكنولوجية في الشئون العسكرية، الأمر الذي يجعل نظم التسليح في تطور مستمر. ولأن كل دولة تحاول أن تحصل على النظم التي تناسبها استراتيجيًا واقتصاديًا، فإن التعرف على هذه النظم أمر ضروري لمعرفة مدى الاتساق بين التهديدات التي تواجه السياسة الدفاعية والأهداف التي تحددها لمواجهة هذه التهديدات، وبين الأسلحة التي تستخدمها لتحقيق هذه الأهداف.
رابعًا- العلاقات العسكرية: يقصد بهذه العلاقات التعرف على علاقات الدولة موضع الدراسة مع القوى الأساسية إقليميًا ودوليًا، وبحث إذا كانت هذه العلاقات تعاونية أم صراعية. ودراسة هذه العلاقات تعكس مدى اعتماد الدولة على علاقاتها الخارجية في تنفيذ أهداف سياستها الدفاعية.
خامسًا- التوازن العسكري: يمكن اعتبار التوازن العسكري محصلة لعناصر السياسة الدفاعية التي سبق ذكرها –القوة البشرية، نظم التسليح، الإنفاق العسكري، العلاقات العسكرية– حيث إن هذه العناصر تحدد شكل التوازن العسكري بين الدولة التي تدرس سياستها الدفاعية، وبين الدول الأخرى سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي. وقد يؤدي سعي الدولة لتغيير التوازن العسكري القائم إلى تعديل أو تغيير سياستها الدفاعية، من خلال تغيير أحد العناصر السابقة أو كلها.
مفهوم السياسة العسكرية
يمكن تعريف السياسة العسكرية بأنها “جميع الإجراءات المتخذة من قبل قيادة سياسية أو عسكرية لتحقيق هدف طويل المدى في الزمان والمكان، بحيث يضفي البعد الزماني والمكاني للهدف نوعًا من الثبات والتوازن للإجراءات العسكرية التي تُتخذ لتحقيق ذلك الهدف”.
وهناك مجموعة من العوامل التي تُبني عليها السياسة العسكرية، يمكن إيجازها فيما يلي: الهدف المراد تحقيقه، الإمكانيات المتيسرة، طبيعة الطرف المُعادي.
والسياسة العسكرية تقترب من مفهوم الاستراتيجية العسكرية التي تمثل أعلى درجات العسكري والإجرائي، وهي تعني الاستراتيجية أو السياسة التي توجه الحرب (ولكنها لا تحدد هدف الحرب)، وتضع المخططات اللازمة لتحقيق الهدف من الحرب مهتدية في ذلك بمبادئ العقيدة العسكرية”. ووفقًا لهذا التصور فإن الاستراتيجية العسكرية لها ثلاثة مستويات؛ هي: المستوى الاستراتيجي، المستوى العملياتي، المستوى التكتيكي.
وبالتالي يتضح أن مفهوم السياسات العسكرية Militarism أو Military Politics، يرتبط بالفكر السياسي والعسكري معًا، ولها ارتباط أيضًا بمدى التغير في العلاقات الدولية، وما ينتج عنها من صراعات على المستويين الإقليمي والدولي. فالعلوم السياسة لم تضع الأسس النظرية لدراسة مفهوم مستقل يطلق عليه “السياسة العسكرية”؛ لكنها تُدرس في إطار الدراسات الأمنية لدولة ما، أو كجزء من سياساتها العامة. فالسياسة العسكرية ترتبط بالنطاقات الوطنية والإقليمية والعالمية (لارتباطها بالعلاقات الدولية)؛ لأن معاييرها تنبع من اندماج الفكر السياسي مع الفكر العسكري، وأيضًا نتيجة تطبيق الاستراتيجيات السياسية المتخصصة التي تحددها السياسة العليا للدولة.
مفهوم الدفاع
ترادف بعض الأدبيات بين مفهوم الدفاع Defense ومفهوم السياسة الدفاعية Defensive policy، الدفاع يعني حماية القوات المسلحة وتغطيتها في أثناء الحرب، أو في أثناء الاشتباك، وصد أي هجوم عليها، ما عدا الحالات التي تبدأ فيها الدولة الهجوم، فيما عدا هذا يجب أن تكون القوات في وضع دفاعي يحمي أفرادها وأسلحتها بقدر الإمكان. والدفاع بهذا المعنى يتطلب عدة أمور؛ أهمها: عدم السماح لكل القوات بالاشتباك في الوقت نفسه. وعدم تعريض جبهة الاشتباك للقصف، فمن الضروري الاحتفاظ ببعض القوات في العمق سواء لتمثل مددًا للقوات المشتبكة، أو لتسحب الاشتباك لمنطقة أخرى، كما يمكنهم أن يهاجموا القوات المتسللة للعدو. واعتماد الدفاع من خلال الهجوم باعتبار أن ذلك هو الضمان الحقيقي لتأمين القوات، وتقويض توغل العدو، وهو ما يطلق عليه بعض العسكريين الدفاع الإيجابي، كبديل عن الدفاع السلبي الذي يكتفي بالصد والتأمين أمام قوات العدو. بالإضافة إلى إدراك أن الدفاع الناجح هو مزيج من السعي لتحقيق أهم الأهداف، من خلال أقصى توظيف للقوات والإمكانيات.
وبهذا المعني للدفاع، فإن الحرب الدفاعية من وجهة نظر كلاوفيتز “سياسيًا هي الحرب التي تخوضها الدولة سعيًا للاستقلال، أو لتحرير أراضيها من الاحتلال. وعسكريًا هي الحرب التي تستعد لها الدولة لمواجهة العدو في المسرح الذي أعد لهذا الغرض”. فالدفاع في معناه الواسع لا يعني انتظار العدو ثم مواجهته، بل يعني التحضير والاستعداد للمواجهة مع ظهور أي نوايا للهجوم لدى العدو، أو مع حصوله على أسلحة ومعدات جديدة. وعامة، يتفق الخبراء العسكريون على أن الدفاع – الناجح- هو مرحلة أولى فقط في المواجهة تنتهي برد الاعتداء، ولكن يجب أن يتبع ذلك تطويرًا للدفاع ليصبح هجومًا على العدو، حتى لا يفشل الدفاع.
ومن خلال هذه العناصر للسياسة الدفاعية يتضح اختلافها عن السياسة العسكرية؛ فالسياسة الدفاعية هي المدخل السياسي لدراسة السياسة العسكرية، ولا ينفي ذلك الطبيعة المزدوجة لها (الجانب العسكري، والجانب السياسي). فالسياسة الدفاعية هي الخطوات التي تُنفذ لتحقيق السياسة العامة للدولة في المجال العسكري (التي تعبر عنها السياسة العسكرية). فكل منها يشكل أحد مستويات الاستراتيجية العسكرية –كما سبق– وبالتالي فهما مختلفان.
كما يختلف مفهوم السياسة الدفاعية عن مفهوم الدفاع؛ والدفاع بهذا المعنى لا يظهر إلا في حالة الاشتباك العسكري الفعلي أو الاستعداد له، حتى وإن كانت الخطط الدفاعية موجودة باستمرار. لكن السياسة الدفاعية تختلف عن ذلك فهي إجراءات مستمرة، لتنفيذ مصالح الدولة كما ترسمها السياسة العسكرية، وفقًا للأهداف التي يحددها الأمن الوطني سواء وقت الاشتباك الفعلي أم لا.
يمكن القول، إن الأمن القومي للدولة هو الإطار العام والهدف الأشمل للدولة، وعند الانتقال للأمن في بُعده العسكري تظهر السياسة العسكرية التي تعبر عن الأهداف العامة التي يجب السعي إليها لتحقيق الأمن العسكري، ثم ننتقل إلى مستوى التنفيذ أو لترجمة هذه الأهداف العامة عسكريًا إلى خطوات تنفيذية، بدءًا بتحديد التهديدات ثم الأهداف المرحلية لمواجهتها وكيفية تنفيذ هذه الأهداف، هذا التنفيذ يجري عن طريق السياسة الدفاعية بمختلف عناصرها.