“الصمت يجعل الأمور أكثر تعقيدًا وخطورةً”. وردت هذه العبارة في طيات تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” مؤخرًا ردًّا على الفوضى التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، وعدم القدرة على التدخل لتنظيم عملها، حتى وصل الأمر إلى ما وصفته الصحيفة العريقة بدقة قائلة: “إن فكرة تجريد الأفراد من إنسانيتهم يمكن أن يضع مجموعات معينة خارج نطاق التعاطف، ويجردهم من الحماية الأخلاقية، مما يُسهل من القدرة على إيذائهم”.
كثير من المخاوف تُطل برأسها اليوم عند الحديث عن عملية تنظيم وسائل التواصل الاجتماعي على المستويين الدولي والمحلي. ففي العواصم الكبرى، حيث كانت مهد ثورة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، تبدو القضية شديدة التعقيد والتشابك، بما يجعل عملية فرض قوانين أو صدور تشريعات منظِّمة لها مسألة في غاية الصعوبة. بينما يقبع العالم المتلقي للتكنولوجيا في دول أخرى في حالة ترقب لما سوف يسفر عنه الجدل القانوني في دول المنشأ التي صدّرت للعالم “فيسبوك” و”تويتر” و”إنستجرام” وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي الشهيرة، والنقاشات المستفيضة في المجتمعات الغربية حول مستقبلها.
بعد عملية الهجوم على معبد يهودي في ولاية نيوجيرسي الأمريكية في شهر نوفمبر الماضي (٢٠١٨)، ظهرت مقالات ودراسات عديدة حول خطر وسائل التواصل الاجتماعي، ودورها في نشر خطاب الكراهية ومعاداة السامية. فيما لم تَلْقَ كل الدعوات السابقة حول ضرورة الوقوف أمام خطابات الكراهية، والتحريض على العنف؛ اهتمامًا مثلما حدث مع حادثة نيوجيرسي الأخيرة.
ينصبّ النقاش العالمي اليوم على كيفية الوصول إلى صيغة عملية موثوق بها تُعلي من شأن الشراكة بين المواطنين عبر الإنترنت ومنصات وسائل التواصل الاجتماعي لمواجهة خطاب الكراهية، وهي الصيغة التي لن تكون فاعلة دون شراكة حقيقية من أصحاب المصلحة المباشرة، وهم: منظمة الأمم المتحدة، والحكومات، وصناع التكنولوجيا، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص.
لقد صارت وسائل التواصل الاجتماعي، باعتبارها مصدرًا للأخبار، محط اهتمام الجهات التنظيمية في سائر دول العالم. فعلى سبيل المثال، يعتمد ثلثا الأمريكيين على تلك الوسائل كمصدر للأخبار. وهي بخلاف الصحافة المطبوعة، أو الإعلام المرئي أو المسموع، لا تنظمها الحكومة الفيدرالية. وقد أثارت زيادة الوعي العالمي بالأخبار المزيفة المخاوف بشأن الاستخدام غير المنظم لها كمصدر إخباري رئيسي.
ولهذا، يُناقش الكونجرس الأمريكي بالفعل العديد من مشاريع القوانين منذ الانتخابات الرئاسية عام ٢٠١٦، التي تهدف إلى تنظيم وسائل الإعلام الاجتماعية، ومنع الأخبار المزيفة. وقد دفعت إمكانية تدخل الحكومة العديد من المواطنين إلى التساؤل حول ما إذا كان التنظيم هو الطريقة الأكثر فعالية لمعالجة قضية الأخبار المزيفة.
جدل التنظيم
يعتقد مؤيدو تنظيم الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي أن الأمر يتعلق بالسماح للأشخاص بالحصول على معلومات “موثوق بها” من وسائل التواصل الاجتماعي، ويرون أن شركاتها تحتاج إلى المساءلة عن السماح بنشر الأخبار المزيفة على مواقعها. ويمكن للقواعد التنظيمية أن تجعل الجمهور أكثر قدرةً على التعرف على المعلومات المزيفة بشكل أيسر وأسهل. كما يمكن أن تطلب اللوائح التنظيمية من منصات التواصل الاجتماعي -من بين أشياء أخرى- أن يكون هناك رعاة مرئيون للإعلانات السياسية، والمقالات الإخبارية المنشورة، بشكل يعزز من مصداقية هذه المنابر كمصادر للمعلومات.
على الجانب الآخر، يرى المعارضون أن إبقاء وسائل الإعلام الاجتماعية خارج الأطر التنظيمية هو حماية لحقوق حرية التعبير. ويجادلون كذلك بأنه إذا تم منح الحكومة سلطة تنظيم الإعلام الاجتماعي، فيمكنها أيضًا التدخل في تنظيم الخطاب الذي تعتبره مهينًا للمسئولين الحكوميين. ويعتقد الرافضون للتدخل القانوني أن تنظيم وسائل الإعلام الاجتماعية من شأنه أن يؤدي إلى الانتقاص من الحريات دون أن يؤثر التدخل التنظيمي على تقليل كم الأخبار المزيفة.
خطاب الكراهية
أشارت دراسة حديثة إلى أن “خطاب الكراهية، حتى وإن لم يصل إلى عتبة التحريض على العنف، يمكن أن يكون ضارًّا، ويعزز المعتقدات السلبية والمتحيزة في المجتمع”. ومن ثمّ، لم يعد خطاب الكراهية مجرد كلمات عابرة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، ولكنه ينتقل إلى دائرة الفعل. والأمثلة كثيرة من أول مخاطبة شرائح بعينها مثلما يفعل تنظيم “داعش” الإرهابي، مرورًا بعمليات التجنيد للانضمام لمثل تلك التنظيمات الإرهابية، وصولًا إلى تبني أفكار العنف نتيجة التعرض المتنامي لخطاب الكراهية على الإنترنت.
ما سبق، لا ينفي بأي حال من الأحوال أن منصات وسائل الإعلام الاجتماعية أصبحت اليوم إحدى الأدوات القوية لمنع نشوب الصراعات، وتسهيل الحوار بين الناس من مختلف الثقافات والأديان. لكن الجانب المظلم من هذه المنصات قد تسبب في الكثير من الجدل والخوف.
نقاط ضعف في التوجه العالمي
هناك بعض أوجه الضعف في المناقشة الحالية المتعلقة بكيفية مواجهة خطاب الكراهية، يمكن إيجازها فيما يلي:
أولًا: تجاهل جهود الأمم المتحدة أو عدم الترحيب بها على الرغم من التصريحات المعلنة للحكومات عن دعم المبادرات العالمية الرامية لتنظيم عمل مواقع التواصل الاجتماعي، ووضع الشركات المالكة لتلك المواقع موضع المسئولية.
ثانيًا: أن الموازنة بين مسئوليات أية شركة عملاقة في مجال التواصل الاجتماعي تجاه المجتمع، وواجبات تلك الشركة تجاه المستثمرين في أسهم تلك الشركة، قد أثبت أنها مسألة صعبة على أرض الواقع. والتركيز على التوازن المحتمل بين تحسين “السلامة والأمن” على أي منصة تواصل اجتماعي، والحفاظ على “نمو وربحية” المستخدم لتلك الوسائل، أو المستثمر في أسهمها؛ تبدو مسألة ليست هينة، وتحتاج إلى مزيدٍ من الجهد لبلورة إطار لا يُلحق الضرر بالجميع.
ثالثًا: أن نشر “الأخبار المزيفة” بشكل متزايد يرسل إشارات سلبية إلى المجتمع الدولي مفادها: أن وجود رسالة موحدة ضد إساءة استخدام منصات وسائل الإعلام الاجتماعية أمر بعيد المنال في المستقبل القريب، وهي من عواقب انتشار تلك المنصات المختلفة بدون التوصل إلى أطر عالمية موحدة تحدد عملها.
رابعًا: غياب الإرادة بشأن التوصل إلى تحديد معنى كل من خطاب الكراهية، وقبل ذلك، معنى الإرهاب، خاصة في الفضاء الإلكتروني. فهذه التعريفات ضرورية للإجابة على الأسئلة: ما الذي يدعو إحدى وسائل التواصل الاجتماعي إلى توصيف محتوى محدد باعتباره يحمل رسالة تحض على الكراهية؟ وما الذي يدفعها إلى الامتناع عن توصيف المحتوى بأنه تحريضي؟
خامسًا: غياب أولوية تثقيف القائمين على توصيل الرسالة عبر وسائل الإعلام أو تثقيف الجمهور. ويعتقد كل الشركاء في أزمة مواقع التواصل الاجتماعي اليوم أنه مصلحة مشتركة للجميع.
والسؤال اليوم لم يعد: هل يمكن تنظيم وسائل التواصل الاجتماعي؟ بل تطور ليصبح: كيف يمكن تنظيم وسائل التواصل الاجتماعي؟.