أعلن صندوق النقد الدولي، في السابع من أبريل، عن التوصل إلى اتفاق مبدئي مع السلطات اللبنانية على خطة تمويل بقيمة تبلغ 3 مليارات دولار على مدار 46 شهرًا أو حوالي أربع سنوات، ولكن الاتفاق ينتظر موافقة نهائية من إدارة الصندوق ومجلسه التنفيذي بعد تنفيذ كل الإجراءات الخاصة ببرنامج الإصلاح الاقتصادي الذي يهدف إلى إعادة بناء الاقتصاد وإعادته إلى مسار النمو المستدام مع نشاط أقوى للقطاع الخاص، واستعادة الاستدامة المالية، وتعزيز الحوكمة والشفافية، وإزالة العقبات أمام النمو المنشئ للوظائف، وزيادة الإنفاق الاجتماعي والإنفاق على إعادة الإعمار بالتوازي مع إعادة هيكلة الدين العام الخارجي التي ستؤدي إلى مشاركة كافية من الدائنين لإعادة الدين إلى حدود مستدامة وسد فجوات التمويل.
وانطلاقًا من إدراك السلطة اللبنانية الحاجة الملحّة للشروع في برنامج إصلاح متعدد الأبعاد لمعالجة التحديات الجمة التي تواجه الاقتصاد، تقوم خطة السلطات بالتعاون مع صندوق النقد على خمس ركائز أساسية:
أولًا- إعادة هيكلة القطاع المالي لكي تستعيد البنوك مقومات الاستمرار وقدرتها على تخصيص الموارد بكفاءة لدعم التعافي.
ثانيًا- تنفيذ إصلاحات مالية تضمن بقاء الدين في حدود مستدامة وخلق حيز للاستثمار في الإنفاق الاجتماعي وإعادة الإعمار والبنية التحتية.
ثالثًا- إصلاح المؤسسات المملوكة للدولة، ولا سيما قطاع الطاقة، لتقديم خدمات ذات جودة دون استنزاف الموارد العامة.
رابعًا- تعزيز أطر الحوكمة ومكافحة الفساد ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب عن طريق تحديث الإطار القانوني لمصرف لبنان وترتيبات الحوكمة والمساءلة.
خامسًا- إقامة نظام للنقد والصرف يتسم بالموثوقية والشفافية.
توقيت حرج
جاء إعلان التوصل إلى اتفاقية مع صندوق النقد الدولي في توقيت حرج بالنسبة للاقتصاد اللبناني، حيث تزامن مع تصاعد الأزمات الاقتصادية خلال العامين الماضيين وبعد فشل المفاوضات لمرات عديدة خلال العامين الماضيين بسبب الخلاف بين البنك المركزي والبنوك التجارية والأحزاب الحاكمة حول حجم خسائر القطاع المصرفي وكيفية توزيعها، كما يتبين من النقاط الآتية:
• أنباء حول إفلاس الدولة: ترددت أنباء مغلوطة في الرابع من أبريل عن إفلاس الحكومة اللبنانية والمصرف المركزي بسبب تصريحات نائب رئيس الحكومة اللبنانية “سعادة الشامي” الذي سرعان ما نفى أن يكون مقصده إفلاس الدولة بالمعنى الحرفي، مؤكدًا أن حديثه اجتُزئ من سياقه حين كان يجيب عن سؤال متعلق بكيفية توزيع الخسائر الحالية على الحكومة ومصرف لبنان، كما نفى رئيس الحكومة اللبنانية “نجيب ميقاتي” وحاكم مصرف لبنان “رياض سلامة” صحة ما تم تداوله من أنباء عن الإفلاس، حيث أكد الأخير أن البنك لا يزال يمارس دوره الموكل إليه بموجب القانون، وأن ما يتم تداوله حول إفلاس البنك غير صحيح.
• تصاعد الأزمات الاقتصادية: رغم نفي خبر الإفلاس إلا أنه يدلل على مدى سوء الأوضاع الاقتصادية، حيث يواجه لبنان أزمة غير مسبوقة أدت إلى انكماش اقتصادي حاد وارتفاع مستويات الفقر والبطالة والهجرة. وتجسد هذه الأزمة –التي تمتد جذورها إلى انتهاء الحرب الأهلية في التسعينيات- مواطن ضعف مزمنة تولدت عن سنوات عديدة من السياسات الاقتصادية الكلية غير المستدامة كدعم سعر الصرف المبالغ فيه، والاعتماد على الديون ورؤوس الأموال الخارجية، مثل تحويلات العاملين بالخارج والاستثمار الأجنبي المباشر لتمويل عملية إعادة الأعمار، والتي تعتبر جميعها مصادر متذبذبة معرضة للتغير بشكل سريع، مع مشكلات حادة في المساءلة والشفافية وافتقار إلى الإصلاحات الهيكلية.
وقد بلغت تلك الأزمات ذروتها بحلول نهاية عام 2019 مع تسارع تدفقات رؤوس الأموال إلى خارج البلاد، الأمر الذي ساهم في عجز لبنان عن سداد ديونه البالغة قيمتها 1.2 مليار دولار في مارس 2020، لتتفاقم الأزمة جراء جائحة كورونا وحادث انفجار مرفأ بيروت في أغسطس 2020 الذي ترتب عليه خسائر اقتصادية تتراوح بين ثلاثة مليارات دولار إلى خمسة مليارات دولار. هذا بالإضافة إلى تفاقم أزمة المحروقات خلال عام 2021 التي أدت إلى انقطاعٍ تامٍ في التيار الكهربائي عقب خروج أكبر محطتين للكهرباء (الزهراني، ودير عمار) عن الخدمة بسبب نفاد الوقود وتراجع قدرة توليد الطاقة إلى أقل من 200 ميجاوات.
وأخيرًا، ألقت الحرب الروسية-الأوكرانية بظلالها على الاقتصاد اللبناني المتأزم بالفعل، حيث ساهمت في زيادة الضغوط المفروضة على الحساب الجاري والتضخم بسبب تراجع إمدادات الغذاء والوقود وارتفاع أسعارهما عالميًا. وكنتيجة حتمية لجميع ما سبق، انكمش الناتج المحلي الإجمالي خلال عام 2020 بنحو 20.3% مقارنة بحوالي 6.7% في عام 2019، كما يُبين الشكل الآتي:
الشكل 1- معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي اللبناني (%)
كما تراجع الاحتياطي النقدي اللبناني بوتيرة سريعة منذ يناير 2020 وحتى فبراير 2022 بنحو 56% من 28.96 مليار دولار إلى 12.75 مليار دولار، وهو المستوى الأقل خلال الفترة محل الدراسة، بفعل تخارج الاستثمارات الأجنبية وارتفاع فاتورة الواردات، كما يُبين الشكل أدناه:
الشكل 2- الاحتياطي النقدي اللبناني شهريًا (مليار دولار)
وانطلاقًا من مبدأ “التضخم المستورد”، ونظرًا لارتفاع أسعار الغذاء العالمية لأعلى المستويات على الإطلاق بسبب التوترات الروسية-الأوكرانية، ارتفع مؤشر أسعار المستهلكين بحوالي 714.5% من 118 نقطة في يناير 2020 إلى 961.15 نقطة في فبراير 2022، حيث تبلغ نسبة واردات المواد الغذائية من إجمالي واردات السلع حوالي 19.7%، كما يوضح الشكل الآتي:
الشكل 3- مؤشر أسعار المستهلكين شهريًا (نقطة)
وعلاوةً على ذلك، ارتفعت نسبة الدين الخارجي للناتج القومي الإجمالي إلى 212% بحلول أواخر 2020 مقارنة بحوالي 144% خلال 2019، وبنحو 126% خلال 2010 كما سجل الدين العام اللبناني زيادة ملحوظة ناهزت 6.5 مليارات دولار، ليصل إلى نحو 92 مليار دولار.
عقبات قائمة
تمكّن الإعلان عن توقيع الاتفاق الأوّلي بين لبنان وصندوق النقد الدولي من توليد انعكاسات إيجابية على الأسواق النقدية والمالية المحلية رغم التفاؤل الحذر من إمكانية التزام الحكومة ومجلس النواب بالاستجابة السريعة لإقرار حزمة القوانين الإصلاحية في المجالين المالي والمصرفي، فضلًا عن تطبيق الخطوات الإجرائية التكميلية للانتقال إلى مرحلة إبرام الاتفاقية النهائية بشكل رسمي، حيث يستلزم الاتفاق النهائي تنفيذ الركائز الخمس الإصلاحية المذكورة سلفًا وذلك عن طريق موافقة البرلمان على موازنة 2022، وقيام مصرف لبنان بتوحيد أسعار الصرف، والانتهاء من التدقيق ذي الغرض الخاص المتعلق بوضع الأصول الأجنبية لدى مصرف لبنان، للبدء في تحسين شفافية هذه المؤسسة الرئيسية. وفي هذا الشأن، يواجه لبنان العديد من التحديات لتحقيق تلك الأهداف، والتي يُمكن استعراضها على النحو الآتي:
• الانتخابات النيابية المقبلة: ينتظر الشعب اللبناني إجراء انتخابات نيابية في الخامس عشر من مايو المقبل، وهو الأمر الذي يعني أن البلاد لن تبدأ في الإجراءات الإصلاحية إلا بعد إجراء الانتخابات وما يتبعها من تشكيل حكومة جديدة للتخفيف من حدة حالة عدم الاستقرار السياسي التي تشهدها لبنان منذ سنوات حيث لا تستطيع الحكومة الحالية أن تلزم غيرها بخطوات محددة. وعلاوة على ذلك، تظل احتمالات قيام حكومة جديدة بإدخال إصلاحات جادة لإطلاق مساعدات وقروض بمليارات الدولارات ضئيلة، حيث من المرجح أن تؤجل النخب السياسية أي تغييرات كبيرة لتقليل الضرر الذي يلحق بمصالحها الشخصية والحزبية. وحتى في حالة الموافقة على تنفيذ تلك الخطوات فإن المساعدات الخارجية العاجلة لن تكون كافية للتغلب على التحديات المتزايدة في البلاد دون استعداد النخب اللبنانية لإجراء إصلاحات اقتصادية وسياسية شاملة. ولهذا يُنظر إلى الانتخابات التشريعية على أنها عقبة أمام تنفيذ الاتفاق.
• خبرة التجارب السابقة: تتشابه بعض شروط النسخة الحالية من مفاوضات صندوق النقد الدولي مع النسخ السابقة التي فشلت الحكومات اللبنانية المتعاقبة في الوفاء بها، حيث أعربت المديرة العامة للصندوق “كريستالينا غورغييفا” العام الماضي عن استعداد الصندوق لمضاعفة جهوده لمساعدة الاقتصاد اللبناني في حالة تشكيل حكومة مستقرة وتنفيذ بعض الإصلاحات الهامة، مثل استعادة الملاءة المالية وسلامة النظام المالي، ووضع ضمانات مؤقتة لتجنب استمرار تدفقات رأس المال إلى الخارج، مع وضع شبكة أمان اجتماعي موسعة لحماية الأشخاص الأكثر ضعفًا.
وبناءً عليه قللت الأوساط الاقتصادية من قيمة الخطوة التي توصلت إليها السلطات اللبنانية مع صندوق النقد الدولي مؤكدين أنه من الصعب تنفيذ الشروط التي وضعها الأخير في ظل تعقد المشهد الاقتصادي والسياسي حيث لم تستطع الحكومة من قبل تنفيذ أي إجراء إصلاحي كتوحيد سعر الصرف أو محاربة الفساد والإرهاب بسبب عدم الاستقرار السياسي وعدم الاتفاق على رؤية واضحة لإعادة الهيكلة ولهذا فمن الممكن أن تتكرر التجربة مرة أخرى.
• صعوبات عملية تدقيق حسابات البنك المركزي: رغم أهمية خطوة تدقيق حسابات المصرف المركزي اللبناني كونها تتيح الكشف عن الأخطاء الجوهرية وتساعد على تقييم مختلف للخسائر المالية وتوثيق الأدلة والدعم للجهات القضائية في عملية المحاسبة القانونية، إلا أنها واجهت عرقلة شديدة خلال السنوات الماضية تفاقمت حدتها عند انسحاب شركة “ألفاريز آند مارسال” المتخصصة في استشارات إعادة الهيكلة رسميًا من إجراءات التدقيق الجنائي لحسابات مصرف لبنان المركزي في أواخر نوفمبر 2020 بسبب عدم تلقيها المعلومات اللازمة لإتمام المهمة، وعدم تمكنها من الحصول على المستندات المطلوبة لتنفيذ مهمتها، ليستمر الأمر على هذا النحو، حتى وقعت الحكومة نهاية عام 2021 عقد التدقيق الجنائي مع الشركة لتقدم الشركة التقرير المبدئي ضمن مهلة 12 أسبوعًا من تاريخ مباشرة فريق عمل الشركة وذلك بعدما أقر البرلمان قانونًا يرمي إلى رفع السرية المصرفية عن حسابات المصرف المركزي والوزارات والإدارات لمدة عام تنتهي في ديسمبر المقبل.
ورغم ذلك فإن مهمة الشركة قد واجهتها العديد من العقبات تجلت في اتهام الرئيس اللبناني “ميشال عون” حاكم المصرف المركزي بتعمد عرقلة التدقيق المستقل الذي جعله المانحين الأجانب شرطًا لتقديم المساعدة، هذا إلى جانب تعنت موظفي البنك المركزي بشأن تبادل البيانات، بالإضافة إلى رفض البرلمان تمديد إجراء رفع قوانين السرية المصرفية.
وفي الختام، لا يُمكن إنكار أهمية الانفراجة التي حدثت في المحادثات اللبنانية مع صندوق النقد الدولي، حيث أرسلت إشارات إيجابية للمجتمع الدولي بأنها تستلزم وفاء الحكومة بتعهداتها بشكل سريع، ومحاولة التوافق على إيجاد حلول للمعوقات المذكورة آنفًا حتى يتم الانتقال إلى المرحلة الثانية من هذا الاتفاق وهي الاتفاقية النهائية.