رغم التراجع النسبي لوتيرة النزاعات والاشتباكات القبلية التي تشهدها دارفور، في الأعوام التالية على سقوط نظام البشير في 2019، وما تبع ذلك من محاولات لمعالجة جذور المشكلات التي يعاني منها الإقليم، عبر مسار دارفور كجزء من اتفاق جوبا للسلام 2020؛ إلا أن وتيرة العنف أخذت منحى تصاعديًا على مدار العام الماضي، وصولًا إلى الموجة الأخيرة من أحداث العنف التي يشهدها تحديدًا إقليم غرب دارفور، خلال الأسابيع الأخيرة الماضية.
اتساع نطاق العنف
تجدد الصراع في دارفور بشكل واسع بين المكونات القبلية، مع تباطؤ تنفيذ اتفاق السلام، وكذلك استمرار عوامل العنف والنزاع بين المجتمعات المحلية، حيث لا ينفصل النزاع الأخير في غرب دارفور عن غيره من النزاعات الممتدة في كافة أرجاء الإقليم، والممتدة لأكثر من عام. وازدادت وتيرة الاشتباكات في المنطقة منذ ديسمبر من العام الماضي على وجه التحديد، حيث وقعت اشتباكات في العاشر من ديسمبر راح ضحيتها حوالي 250 شخصًا، وبحلول الثلاثين من الشهر نفسه كان الانفلات الأمني يسيطر على أنحاء الإقليم، وذلك نتيجة للصراع بين القبائل العربية والمساليت على الملكية في السوق المحلية. وتصاعدت وتيرة الاشتباكات بين القبائل منذ الثاني والعشرين من إبريل الماضي، حيث اندلعت الاشتباكات القبلية بين العرب والمساليت في محلية كرينك غرب دارفور، والتي أدت إلى مقتل العديد على يد مسلحين مجهولين.
وامتدت الاشتباكات الأخيرة بين العرب والمساليت، إلى مدينة الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور، في التاسع من مايو الجاري، بعد آخر جولة من الاشتباكات التي جرت في أواخر إبريل الماضي في محلية كرينك، وأدت المواجهات الأخيرة إلى وقوع أكبر عدد من الضحايا تجاوز 300 قتيل، وفقًا لبعض التقديرات، وفي الاشتباكات التي وقعت في إبريل قتل ما لا يقل عن 200 آخرين، وهي أعداد تفوق نسبيًا أعداد الضحايا التي وقعت في الاشتباكات المنفردة على مدار العام الماضي، في جميع أنحاء الإقليم. وتصاعد عدد القتلى نتيجة الهجوم المنظم على الممتلكات العامة والخاصة وهدم وتدمير المنازل، كما امتد الصراع إلى القرى المحيطة، بما في ذلك مدينة الجنينة التي شهدت هجمات على الأحياء والمؤسسات العامة، وكذلك وقوع اشتباكات وحوادث قتل فردية، يقال إنها مدفوعة بالثأر لما وقع من ضحايا بين القبائل والعائلات.
وعلى الرغم من أن النزاع يبدو ظاهريًا نزاعًا بين القبائل العربية ونظيرتها الإفريقية، إلا أنه يرتبط بمحركات وعوامل تاريخية ومحلية مرتبطة بالنزاع على السلطة والموارد المحلية، بما في ذلك نزاعات الثأر القبلي والنزاعات بين المزارعين والرعاة، والتي تأخذ بعدًا قبليًا نظرًا لانتماء المزارعين لقبيلة والرعاة لأخرى.
تردي الأوضاع الإنسانية
تشير التقديرات إلى نزوح حوالي 450 ألف شخص خلال العام الماضي وحده، وخلال الأحداث الأخيرة نزح عشرات الآلاف من الأشخاص، جراء الهجمات واسعة النطاق على الأفراد والممتلكات حيث لم يتم تحديد عدد النازحين بشكل دقيق، لكن في المجمل أدت الاشتباكات إلى تهجير أهالي القرى ونزوح السكان بشكل جماعي، على نحوٍ يفاقم من أزمة النزوح واللجوء القائمة بالفعل.
ووفقًا لاستعراض الاحتياجات الإنسانية لعام 2022، يعيش ما يقدر بنحو 487000 شخص في محلية كيرينك، بما في ذلك 146700 نازح. ووفقًا للتقديرات فإن حوالي 265،700 شخص في الولاية في حاجة إلى مساعدات إنسانية في عام 2022، حيث كان أكثر من 73000 شخص في كيرينك يعانون من انعدام الأمن الغذائي بين أكتوبر 2021 وفبراير 2022. وفي مدينة الجنينة، يعيش ما يقدر بنحو 646000 شخص، بما في ذلك 126700 نازح، فيما يحتاج حوالي 371،500 شخص في الولاية إلى مساعدات إنسانية في عام 2022، بينما عانى أكثر من 129100 شخص في الجنينة من أزمات الأمن الغذائي بين أكتوبر 2021 وفبراير 2022.
وجاءت الأحداث الأخيرة لتفاقم الوضع الإنساني الصعب في المنطقة بالأساس، حيث علقت المنظمات الإنسانية والغذائية عملها في المنطقة، في ضوء نصائح مفوض الدولة للشئون الإنسانية وكالات الإغاثة بالابتعاد عن الأضواء وتقليل أي تحركات، على أن تعاود تلك المنظمات عملها بعد هدوء الوضع، وهو الوضع الذي يؤثر على 62،850 نازحًا في بلدة كيرينك وقريتي مريات وأمتجوك القريبتين منها، حيث نصح. كما تتعرض معسكرات اللاجئين في المنطقة للهجمات من قبل المليشيات والأفراد، حيث أصيب عدد من الأفراد في هجوم على معسكر “كلمة” أكبر معسكرات اللاجئين في دارفور بغرب السودان، مما جدد المخاوف من استمرار نزيف الدم في الإقليم الذي يشهد اضطرابات أهلية خطيرة لعقود ممتدة.
وأشارت التقارير إلى انتقال المصابين لتلقي العلاج في مستشفيات مدينة الجنينة، في الوقت الذي لا يمتلك فيه بعضها القدرة على تلقي المصابين والتعامل مع الإصابات، بما يعكس تفاقم الأوضاع الصحية في الإقليم، كما يسهم غلق الأسواق والطرق، نتيجة فرض حظر التجوال، في الحيلولة دون وصول المواطنين للأسواق، في ظل الأوضاع الاقتصادية والغذائية والظروف الصعبة التي يعاني منها سكان الإقليم.
تردي الأوضاع الأمنية
أدت أحداث العنف الأخيرة إلى اضطراب الأوضاع الأمنية، نتيجة القتل والتدمير الذي تعرضت له المؤسسات والجهات الرسمية في المنطقة، حيث تعرض مركز شرطة كرينك للاحتراق وكذلك تعرض مستشفى كرينك للهجوم مما جعلها خارج الخدمة، وقد تم نهب المكتب المحلي، مع تعرض الكثير من المؤسسات والمنازل للهجوم والنهب، مع امتداد العنف كذلك إلى القرى المجاورة.
وتزامن وقوع تلك الأحداث مع حالة من الفراغ الأمني الذي يعاني منه الإقليم، بعد انسحاب بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام “يوناميد” من دارفور، وكذلك البطء الذي يعتري عملية تشكيل القوات المشتركة التي نصّ عليها اتفاق جوبا للسلام، لحفظ الأمن في الإقليم. وقد اشتكى والي الإقليم، الجنرال خميس عبد الله أبكر، من اتساع نطاق الفراغ الأمني، نتيجة انسحاب القوات النظامية من الإقليم، في الوقت الذي يفتقد فيه والي الإقليم الولاية على تحريك قواته من حركة تحرير السودان للمساهمة في تثبيت الأمن في الولاية.
وأدى هذا الوضع الأمني إلى انعقاد مجلس الأمن والدفاع السوداني وقرر في اجتماع طارئ، برئاسة رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان، تعزيز الوجود الأمني بولاية غرب دارفور بعد الأحداث التي شهدتها المنطقة، كما كلف المجلس وفدًا سياديًا بالوقوف على الأحداث في غرب دارفور. وبالفعل قامت الحكومة بإرسال تعزيزات عسكرية، حيث نشرت القوات المسلحة السودانية كتيبة من نيالا بجنوب دارفور إلى الجنينة، إلى جانب العمل على تشكيل قوات مشتركة لحفظ البلاد مع اقتراب الموسم الزراعي، وتوازى مع تلك الجهود الأمنية، بعض المبادرات المحلية، التي قادها زعماء القبائل لإحلال السلام بين العرب والمساليت، حيث تمّ توقيع وثيقة لوقف العدائيات بين المكونات المحلية، لكن على الرغم من تلك الجهود، لا تزال حوادث القتل الفردية والمتفرقة تهدد باتساع نطاق العنف.
أثار هذا الوضع بدوره ردود الفعل من جانب الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ومطالبتهما بضرورة الإسراع في تشكيل وتدريب قوات حفظ أمنية مشتركة من قبل القوات المسلحة السودانية والحركات المسلحة بموجب اتفاق جوبا للسلام. وفي هذا السياق، أعلن رئيس اللجنة العسكرية العليا للترتيبات الأمنية لمسار دارفور، اللواء الركن علاء الدين عثمان، عن قرب تخريج الدفعة الأولى من قوات الحركات الموقعة على اتفاق جوبا للسلام، مشيرًا إلى أن الدفعة قوامها 2000 من مقاتلي الحركات المسلحة، الذين سيمثلون النواة لقوات حفظ الأمن في دارفور، التي يبلغ قوامها 12 ألف جندي مناصفة بين القوات المسلحة والحركات.
لكن حتى الآن، لا تزال هناك عقبات تحيط باتفاق السلام نفسه وليس فقط بآليات تنفيذ بنوده، منها تحفظ المكونات المحلية على ترتيبات اتفاق السلام، الذي حاز فيه بروتوكول تقاسم السلطة أولوية على غيره من أولويات إحلال السلام، علاوة على تورط بعض أعضاء الحركات المسلحة نفسها في الاشتباكات القبلية، بما يشير إلى أهمية الشروع في تنفيذ البروتوكولات المتعلقة بإحلال السلام والعدالة الاجتماعية، وكذلك تلك المتعلقة بتنظيم ملكية الأرض ومسارات المراعي، وتنظيم عودة اللاجئين والنازحين.
مجمل القول، تعود تلك الأوضاع الصعبة إلى عوامل تاريخية وهيكلية مرتبطة ببنية المجتمعات المحلية، نتيجة لانعدام التنمية المحلية في الإقليم، وتسييس النزاعات القبلية، لتأخذ أبعادًا مرتبطة بالصراع على اقتسام السلطة، لذلك فإن توقيع اتفاق السلام، وتراجع العمليات العسكرية التي تشنها الحركات المسلحة، لن يسهما وحدهما في إحلال السلم المجتمعي في دارفور، دون وجود آليات وإرادة حقيقة لتقاسم الثروة والسلطة بشكل عادل وتحقيق تنمية متوازنة في الإقليم.