تشهد العلاقات الجزائرية الإسبانية حالة توتر غير مسبوقة على المستوى الدبلوماسي والسياسي وكذلك الاقتصادي، وذلك على خلفية قرار الرئيس الجزائري “عبد المجيد تبون” تعليق اتفاقية الصداقة والجوار الموقعة مع مدريد عام 2002، وكذلك إيقاف الاستيراد والتصدير من وإلى إسبانيا، وذلك في الثامن من يونيو 2022. ويأتي هذا التوتر في ضوء إعلان رئيس الوزراء الإسباني “بيدرو سانشيث” دعم مبادرة الحكم الذاتي التي تتبناها المملكة المغربية حيال قضية الصحراء الغربية، في سابقة هي الأولى من نوعها بعدما كانت مدريد تؤيد القرارات الأممية الخاصة بذلك الملف والداعمة لحق تقرير المصير للشعب الصحراوي.
ولعل تلك القرارات وحالة التصعيد الجزائري تؤشر على محورية قضية الصحراء الغربية في أجندة السياسة الخارجية الجزائرية، خاصة وأنه قد سبق وأن قامت الجزائر بسحب سفيرها من مدريد للتشاور على خلفية الإعلان الضمني لإسبانيا بتأييدها مقترح الحكم الذاتي في مارس 2022، مما يبرهن على تصاعد التوتر بين البلدين.
سياق ودوافع متباينة
إن القرار الجزائري بتعليق العمل باتفاقية الصداقة والجوار مع إسبانيا، وكذلك إعلان جمعية المصارف الجزائرية حظر الاستيراد من إسبانيا، يأتي لأسباب ودوافع متعددة تتمثل في الآتي:
- تغييرات موازين القوى في ملف الصحراء الغربية: يشهد ملف الصحراء الغربية تبدلات استراتيجية متراكمة منذ إعلان الجانب الأمريكي (خلال فترة الرئيس دونالد ترامب) اعترافه بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية في مقابل إعادة استئناف العلاقات المغربية الإسرائيلية، وتلا ذلك اعترافات متعددة من جانب قوى إقليمية وأوروبية ويأتي على رأس الأخيرة كل من ألمانيا وإسبانيا بما يؤدي إلى تقلص فرص الدعم الجزائري في ذلك الملف، وعدولًا عن القرارات الأممية السابق إصدارها في هذا الشأن، علاوة على مساعي المغرب لإدراج الصحراء الغربية ضمن تدريبات المناورات العسكرية المعروفة باسم “الأسد الإفريقي” لعام (2022)، بمشاركة عدد من الدول الإفريقية وتحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
- إيجاد البدائل: إن القرار الإسباني يأتي في أعقاب ضمان مدريد الوصول للغاز الأفريقي عبر البوابة المغربية، وذلك من خلال خط غاز أنابيب نيجيريا – المغرب، في ضوء قيام الحكومة النيجيرية بالتصديق على دخول شركة البترول الوطنية النيجيرية في اتفاقية مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “سيدياو” لبناء هذا الخط في السادس من يونيو 2022، مما يقلل بصورة خاصة ملف الغاز كورقة ضغط جزائري.
- ممارسة الضغط: لعل القرار الإسباني وما سبقه من قرارات مماثلة من ألمانيا حيال الاعتراف بالطرح المغربي لملف الصحراء الغربية، يُشكل وسيلة ضغط على الجزائر خاصة في ضوء تقاربها المتزايد مع روسيا، وكأحد تكتيكات تبدل السياسات دون الافتقار لشركاء استراتيجيين لهم في المنطقة والمتمثل في المغرب.
- عودة العلاقات المغربية الإسبانية وتصفية القضايا العالقة: لعل التطور الراهن في الموقف الإسباني تجاه قضية الصحراء الغربية، ناجم عن عودة العلاقات الثنائية مع المغرب وإعادة فتح الحدود المشتركة من ناحية، ومن زاوية أخرى الرغبة الإسبانية حول طرح ملف ترسيم الحدود البحرية وإنهاء ذلك الملف، وبرز ذلك في إعلان كلا البلدين بدء محادثات وجولات تفاوض تشمل المياه الإقليمية وتعيين الحدود البحرية، لذا يمكن القول إن تبدل الموقف جاء نتيجة للمقايضات والتفاهمات السياسية المشتركة حول القضايا النوعية لكل من الرباط ومدريد.
تبعات حرجة
إن التصعيد الدبلوماسي المتبادل بين الجزائر وإسبانيا، والالتفاف الأوروبي نحو دعم موقف مدريد والضغط على الجزائر للعدول عن قرار تجميد العمل بالاتفاقية المشتركة بين الجانبين، يحمل في طياته أبعادًا وتبعات سياسية واقتصادية وأمنية يمكن توضيحها في الآتي:
- الغاز كسلاح ضغط: بالرغم من عدم اتجاه الجزائر لوقف إمدادات الغاز لإسبانيا بموجب عقود التوريد الموقعة مع شركة سوناطراك الحكومية، إلا أن هناك تقارير تُفيد بأنه من المحتمل أن تراجع الشركة أسعار التوريد المتضمنة في العقود خاصة وأنها تقل عن الأسعار الراهنة للغاز، ومن المرجح أن يكون الغاز من أدوات إدارة الأزمة مع مدريد، خاصة وأنه وسيلة ضغط ملائمة للأوضاع في أوروبا عقب حالة التصدع الغربي مع روسيا، ولعل الاعتماد الإسباني الذي يتجاوز الــ90% من احتياجات الطاقة يأتي من الجزائر بنحو 8 مليارات متر مكعب عبر خط أنابيب الغاز البحري، وهو ما يعزز من جدوى تلك الورقة على مستوى إعادة النظر في الأسعار ولكن ليس الوقف التام لتصدير غاز، خاصة وأن لمدريد الحق في اللجوء إلى التحكيم الدولي في حال اتخاذ قرار وقف تصدير الغاز وذلك وفقًا لما أعلنته وزيرة الطاقة والتحول البيئي الإسبانية “تيريزا ريبيرا”، مما يعرض الجزائر لتحمل تعويضات مالية كبيرة.
- الهجرة غير الشرعية والاضطراب الأمني: إن أحد الملفات التي ستتأثر بقرار التصعيد المتبادل بين الجانبين يكمن في ملف الهجرة غير الشرعية، خاصة في ضوء تجميد العمل باتفاقية الصداقة والجوار الموقعة عام 2002 مع مدريد والتي تُنظم الملفات الأمنية وقضايا الهجرة، مما يفتح المجال واسعًا أمام تدفق موجات من المهاجرين غير الشرعيين كإحدى أوراق الضغط الجزائري على إسبانيا، وبرز ذلك عبر تلويح المسئولين الجزائريين في بدايات الأزمة (28 أبريل 2022) وتلميح مساعد وزير الخارجية المكلف بملف الصحراء والمغرب العربي “عمار بلاني” بتحمل العواقب الناجمة عن تبدلات الموقف.
- تصاعد العنف العسكري غير التقليدي في الصحراء: واحد من بين أهم انعكاسات ذلك التغيير هو تصعيد العنف في الصحراء الغربية بين جبهة البوليساريو وبين القوات الملكية المغربية، وهو ما برز في التهديد الواضح من زعيم جبهة البوليساريو “إبراهيم غالي” بتوسيع رقعة المعارك وذلك مطلع عام 2022، تبع ذلك إعلان المسئول عن الجيش الصحراوي “محمد الوالي أعكيك” بإطلاق تهديدات نحو إرسال آلاف الشباب لتنفيذ عمليات عسكرية في مدن الصحراء ونقل الحرب إلى داخل المناطق المغربية، وذلك في الثالث والعشرين من مايو 2022، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى حالة من عدم الاستقرار وتدهور الوضع أمنيًا في الصحراء الغربية، كما أن أحد التداعيات هو تراجع الوزن النسبي الذي كان يحظى به ملف الصحراء الغربية، حيث إن إسبانيا هي القوة المستعمرة السابقة للإقليم، وتغيير موقفها يعني تراجع المواقف المؤيدة للقرارات الأمية ذات الصلة بحق تقرير المصير، وسيؤثر بصورة كبيرة على الدول الداعمة للقضية، وسيكون هناك عدول عن موقفها ومن ثم دعم الطرح المغربي الخاص بالحكم الذاتي.
- معاناة مزدوجة: إن قرار الجزائر بحظر الاستيراد من إسبانيا سيكبد الجانبين خسائر اقتصادية ليست بالقليلة، خاصة في ظل ما وصل إليه حجم المبادلات التجارية لمعدلات مرتفعة، حيث بلغت صادرات إسبانيا للجزائر خلال عام 2020 قرابة (2.107) مليار دولار، بينما بلغت الواردات نحو (2.762) مليار دولار، وفي حال التلويح بورقة الغاز الجزائرية فإن الضرر سيكون متبادلًا في ظل الاعتماد الجزائري على عائدات الغاز من إسبانيا في معالجة الأوضاع الاقتصادية الداخلية، وعلى مستوى إسبانيا التي تستورد قرابة 92% من إجمالي واردات الغاز من الجزائر سوف تشهد أزمة طاقة خاصة في ضوء امتداد تأثيرات الأزمة الروسية الأوكرانية.
- عزلة دبلوماسية أوروبية والبحث عن البدائل: من بين الانعكاسات الأخرى لخطوة التصعيد الجزائري الإسباني العزلة الدبلوماسية الجزئية/ النسبية للجزائر على مستوى الاتحاد الأوروبي، خاصة في ضوء دخول بروكسل على خط الأزمة وإبداء قلقها من القرارات الجزائرية ودعمها مدريد، وهو ما أدى إلى التنبيه بصورة كبيرة من اتساع نطاق الاضطراب والتصدع في العلاقات الجزائرية الأوروبية بصورة عامة، خاصة وأن العلاقات الجزائرية الألمانية تشهد بالفعل اضطرابًا على خلفية تأييد برلين للمبادرة المغربية.
أما على مستوى آخر فإن الجزائر سلكت مسارًا تعاونيًا جديدًا مع إيطاليا كأحد البدائل الحيوية عن إسبانيا وألمانيا، سواء كسوق تجاري أو كمستورد للغاز الجزائري، وتجلى ذلك في التباحث الراهن بين الجانبين لإعادة تفعيل مشروع الربط الكهربائي عن طريق الكابلات البحرية بين الجزائر (الشافية) وإيطاليا (سردينيا) بقدرة تصل لنحو 2000 ميجاوات، إلى جانب قيام الجزائر بزيادة إمدادات الغاز إلى إيطاليا بنحو 9 مليارات متر مكعب سنويًا وذلك في الحادي عشر من أبريل 2022، وهذا الأمر بمثابة مكسب مزدوج بين الجزائر التي تسعى لفك الارتباط بالقوى التقليدية (إسبانيا – فرنسا – ألمانيا) والبحث عن شراكات أوروبية جديدة، أما على مستوى إيطاليا فستكون الرابح الأكبر أوروبيًا جراء الأزمة المتصاعدة بين الجزائر وإسبانيا، خاصة في قطاع الطاقة والكهرباء.
مسارات معقدة
- احتواء وتدارك الأزمة: في إطار من الأهمية الجيواستراتيجية للجزائر في البحر المتوسط ودورها في معالجة قضايا الهجرة غير الشرعية بالتعاون مع دول الجوار الأوروبي، وفي إطار الأزمة الأوكرانية الروسية وتفاقم معادلة الطاقة عالميًا والتأثير البالغ على قطاع الطاقة في الدول الأوروبية جراء تلك الأزمة، سوف يدفع بروكسل للعب دور الوسيط من أجل إيجاد قنوات دبلوماسية لإيجاد حل لتلك الأزمة، كما أن رفض إسبانيا المشاركة في مناورات “الأسد الإفريقي” للسنة الثانية على التوالي في إشارة لرغبة إسبانيا لإيجاد توازن في علاقتها بين المغرب والجزائر وعدم الإضرار بمصالحها الاستراتيجية.
فضلًا عن القرب الجغرافي والمصالح الأمنية المشتركة خاصة فيما يتعلق بملف الهجرة غير الشرعية وعدم رغبة الدول الأوروبية في تعرض جبهتها الجنوبية لمزيد من الضغط عبر تدفقات موجات الهجرة في ظل الضغط الأمني والعسكري على الجبهة الشرقية لها على ضوء الأزمة الروسية الأوكرانية، إلى جانب التطمينات الجزائرية الخاصة باستمرارية تدفق الغاز لإسبانيا وعدم إيقافه كما جاء في تصريحات البعثة الجزائرية في مدريد، سيدفع إلى تهدئة الأزمة على المستوى القريب.
- التصعيد المتبادل وتفاقم الأزمة: لقد حمل قرار الجزائر بتجميد المبادلات التجارية مع إسبانيا تبعات متعددة، تبعه اتخاذ قرارات تصعيدية من جانب إسبانيا تجلت في قيام الحكومة الإسبانية بتقديم شكوى أمام الاتحاد الأوروبي ضد الجزائر حيال الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها، وبرز ذلك في زيارة وزير الخارجية الإسباني “مانويل آلباريس” إلى بروكسل والتباحث مع نائب رئيس المفوضية الأوروبية المسئول عن السياسة التجارية في الاتحاد، علاوة على اعتزام شركة سوناطراك الجزائرية بمراجعة أسعار الغاز في التعاقدات التوريدية لإسبانيا مع تحرك إسباني للانخراط منفردًا أو تحت مظلة الاتحاد الأوروبي لدعم خط أنابيب الغاز بين نيجيريا والمغرب كما تمت الإشارة إليه أعلاه. إلى جانب الافتقاد للمبادرة والوساطة الأوروبية لحل ذلك الخلاف، وبدا ذلك واضحًا من التقارب الملحوظ بين الجزائر وإيطاليا كما تمت الإشارة إليه أعلاه، فضلًا عن انتهاج فرنسا سياسة النأي بالنفس حيال التصدع الراهن في العلاقات الجزائرية الإسبانية، وإسراع باريس للتواصل مع الجزائر عبر وزيرة الخارجية الفرنسية “كاثرين كولونا” ووزير الخارجية الجزائري “رمضان لعمامرة” في الرابع عشر من يونيو 2022 للتأكيد على متانة العلاقة الجزائرية الفرنسية وإعادة تنشيط تلك العلاقات في العديد من المجالات.
السابق يُنذر بصورة كبيرة بتصاعد وتيرة الأزمة على المستوى المنظور، مما يؤثر على الأمن الإقليمي في تلك المنطقة وسيقلل من جهود الجزائر لمراقبة الهجرة غير الشرعية التي انخفضت خلال الفترة الأولى من عام 2022 بنحو 35%، كما يُنذر بحدوث حالة استقطاب وتجاذب إقليمي شمال إفريقي وأوروبي وبروز سياسة المحاور الوظيفية بصورة غير مباشرة تشمل (المغرب – إسبانيا – ألمانيا) من ناحية (الجزائر – فرنسا – إيطاليا) من ناحية أخرى.
وفي التقدير؛ فإن الإجراءات التصعيدية التي باتت تنتهجها الجزائر في تفاعلها مع قضية الصحراء الغربية وبصورة أخص تجاه الدول الأوروبية التي بدلت مواقفها ودعمت بصورة مباشرة أو ضمنية مبادرة الحكم الذاتي المطروحة من جانب الرباط، يبرهن حجم المساحة التي توليها الجزائر لذلك الملف في سياساتها الخارجية وكذلك مدى التشبث الجزائري بحتمية إقرار المصير للشعب الجزائري في إطار من المنافسة الإقليمية مع المغرب في الإقليم المغاربي، ولعل ذلك ستكون له تكلفة جيوسياسية في إطار التوازنات الإقليمية الأوروبية داخل هذا الإقليم، وستتحمل الجزائر أبعاد ذلك التصعيد خاصة في ظل تراجع الدعم والزخم الذي كانت تحظى به الجمهورية العربية الصحراوية وكذلك جبهة البوليساريو من قِبل الدول الأوروبية من ناحية، ومن ناحية أخرى سوف تتقلص مساحة التحرك والتفاعل الجزائري الأوروبي.
![](https://pinterest.com/pin/create/button/?url=https%3A%2F%2Fecss.com.eg%2F20383%2F&media=https://ecss.com.eg/wp-content/uploads/2022/08/banderas-4-scaled-1-1.jpeg&description=تشهد العلاقات الجزائرية الإسبانية حالة توتر غير مسبوقة على المستوى الدبلوماسي والسياسي وكذلك الاقتصادي، وذلك على خلفية قرار الرئيس الجزائري "عبد المجيد تبون" تعليق اتفاقية الصداقة والجوار الموقعة مع مدريد عام 2002، وكذلك إيقاف الاستيراد والتصدير من وإلى إسبانيا، وذلك في الثامن من يونيو 2022. ويأتي هذا التوتر في ضوء إعلان رئيس الوزراء الإسباني "بيدرو سانشيث" دعم مبادرة الحكم الذاتي التي تتبناها المملكة المغربية حيال قضية الصحراء الغربية، في سابقة هي الأولى من نوعها بعدما كانت مدريد تؤيد القرارات الأممية الخاصة بذلك الملف والداعمة لحق تقرير المصير للشعب الصحراوي.){kind=link}