سبقنى الدكتور محمد كمال إلى إثارة هذا الموضوع المهم بمقالته القيمة بعنوان حوار السياسة الخارجية المنشورة فى ٢٧ يوليو الماضى، والتى عرض فيها لوجهتى النظر المختلفتين بشأن تضمين أو استبعاد قضايا السياسة الخارجية من الحوار الوطنى، ويؤسس أنصار الاستبعاد رأيهم على أن السياسة الخارجية المصرية موضع توافق وطنى، وأن قضاياها ذات طبيعة معقدة تحتاج تفكيراً رشيداً مبنياً على معلومات قد لا تكون متوافرة للمتحاورين، فضلاً عن أن ارتباطها بالأمن القومى يجعل من الأفضل عدم مناقشتها علناً، بينما يرى أنصار التضمين أن الحوار مع التوافق قد يفضى لتعزيز مساندة الدولة وتثقيف الرأى العام بشأن المواقف المصرية، وأن غير المتخصصين يمكن أن يسهموا فى الحوار مع تعزيزه بخبرات أكاديمية وعملية متخصصة، كما أن السياسة الخارجية تحتاج أحياناً تفكيراً من خارج الصندوق المؤسسى المنشغل بإدارة الأزمات اليومية، وأضاف أنه مما يعزز وجهة النظر الثانية ما يجرى فى الساحة الدولية من إرهاصات لتحولات فى النظام الدولى عالمياً وإقليمياً تحتاج بلورة رؤية إستراتيجية للتعامل معها. والحقيقة أننى أتفق مع الدكتور كمال فيما ذهب إليه وأضيف استغرابى من فكرة أن الحوار لا يكون إلا بين المختلفين، فمن الحقيقى أن توجهات السياسة الخارجية المصرية موضع إجماع وطنى وأن النموذج الذى تقدمه مصر فى سياستها الخارجية جدير بالإعجاب والاحترام والمحاكاة، ولكن من قال إن الحوار لا يكون إلا حول الأهداف فقط؟ ألم يكن هناك إجماع على ضرورة إزالة السد الترابى على الضفة الشرقية للقناة قبل حرب أكتوبر ودار الحوار عميقاً حول الوسيلة المثلى لذلك حتى جاء المهندس باقى زكى يوسف بفكرته العبقرية فاعتمدتها القيادة العسكرية ثم السياسية؟ ألم يسهم جندى مصرى نوبى بسيط بحل عبقرى لمشكلة اختراق إسرائيل للاتصالات العسكرية المصرية قبل حرب أكتوبر؟ وبالتالى فإن فكرة نفى الحوار بسبب التوافق وأن غير المنخرطين فى دوائر صنع القرار مباشرة ليس بمقدورهم المساهمة الفاعلة فى تحقيق الأهداف تبدو فكرة غير مقنعة.
ولنطبق الأفكار السابقة على أكثر قضايا السياسة الخارجية المصرية حيوية للمصالح الوطنية وهى «سد النهضة» وأقواها تعبيراً عن الإجماع الوطنى وعن الثقة فى إدارة القيادة السياسية لها، ونعلم مدى التشدد الإثيوبى فيها والجدل الذى دار حول السبل المختلفة لحلها، وهنا يمكن للحوار أن يقدم مساهمات بالغة الإيجابية فى بيان الأوراق التى تملكها مصر فى هذا الصدد وكذلك مقترحات التحرك الدبلوماسى مع المتبنين وجهة النظر الإثيوبية ومع المحايدين بل ومع الأصدقاء الذين قد تأتى مواقفهم على غير ما نتوقع ونأمل، وأيضاً بخصوص دوائر هذا التحرك ومستوياته وآلياته، ووضع خطة لبناء شبكة العلاقات اللازمة لتعويض النقص المائى إن حدث، أى العلاقات مع دول الوفرة المائية التى يمكن أن تصدر لمصر محاصيل أساسية قد تتأثر بالنقص المائى المحتمل، ثم نأتى إلى التحرك الداخلى الذى قد يراه البعض أقل أهمية وأراه على العكس لأن الداخل هو جبهتنا التى نتحكم فيها بإجراءات ترشيد استخدام مياه الرى والشرب، وهنا مثلاً ثمة حوار بين من يرون أن الوسيلة المثلى لتقليل الفاقد فى مياه الرى هى تبطين الترع ومن يرون أنها استخدام الأنابيب وهكذا، كذلك هناك أفكار رائدة بشأن تقليل الفاقد فى مياه الشرب بالذات، والمجال رحب لمساهمة البحث العلمى فى مواجهة تحدى النقص المائى سواء بتقليل تكلفة تحلية المياه أو استنباط محاصيل أكثر إنتاجية وأقل شراهة للماء وغير ذلك، وثمة نقاط معينة لا يجوز الحديث فيها علناً، ليس فقط فى سد النهضة لأن الحديث الصريح فيها قد ينطوى على حساسيات بالغة، ولن يكون منع الحوار فيها مفيداً بحال لأن المفترض أن يفضى إلى فهم أفضل وحلول أكثر كفاءة، ولا أعتقد أن سرية الحوار فى هذه النقاط تؤثر على ديمقراطيته فالمهم هو المحتوى والفائدة التى ستنجم عنه، وما ينطبق على جدوى الحوار حول سد النهضة ينطبق بالتأكيد على غيره من القضايا.
ويبقى أن الساحة الدولية تشهد كما أشار الدكتور كمال إرهاصات لتحولات جذرية عالمياً وإقليمياً، وتكفى الإشارة للاستقطاب الراهن بين الولايات المتحدة من جهة وبين كل من روسيا والصين من جهة أخرى، وهو استقطاب قد يتطور على نحو خطير من ناحية، وقد يشهد من ناحية أخرى عودة لسياسات من ليس معنا فهو علينا، وصحيح أن مواقف مصر فى هذا الصدد واضحة، ومن يستمع إلى كلمة الرئيس فى قمة جدة وفى لقائه الأخير بطلبة الكلية الحربية يشعر بالاطمئنان إلى الفهم السليم الكامل والحريص على المصالح الوطنية المصرية لأعقد القضايا الدولية، لكن التطورات التفصيلية للأمور وما يمكن أن ينجم عنها من تحديات لابد أن تكون موضعاً لاستشراف علمى يساعد دوائر صنع القرار المصرية على وضع رؤيتها موضع التنفيذ، أما البيئة الإقليمية فحدث عنها ولا حرج، حيث تشهد إرهاصات تغيير جذرى فى نماذج تفاعلات أطرافها الرئيسية، وتكفى الإشارة إلى التطور فى نموذج التفاعلات العربية مع دول المحيط الإقليمى الرئيسية من تبعية هذه الدول للتحالف الغربى تماماً إلى تمرد جزئى على هذه التبعية، ومن علاقات عربية عدائية معها إلى بداية تحولات تصطدم بالمصالح العربية أحياناً، ويكفى إلقاء نظرة على تطور العلاقات العربية مع كل من إسرائيل وإيران وتركيا لإدراك مدى التعقد الحالى للساحة الإقليمية وتهديد بعض نماذج التفاعلات فيها للمصالح المصرية، والحاجة من ثم إلى بلورة رؤية متكاملة للتعامل معها حفاظاً على الدور الإقليمى لمصر، ومن هنا أهمية رفد الجهود الشاقة المخلصة التى تبذلها القيادة السياسية ودوائر صنع القرار بخلاصة رؤى الجماعة الوطنية المصرية فى القضايا الخارجية الحيوية لأمن مصر ومصالحها ومستقبلها.