في تصعيد جديد للحرب الروسية الأوكرانية، أقدمت موسكو على ثلاث خطوات بهدف دعم موقفها في مواجهة الهجوم المضاد الذي قامت به القوات الأوكرانية وإستعادت من خلاله معظم الأراضي التي كانت القوات الروسية قد إستولت عليها في بداية الحرب في مقاطعة خاركيف في الشمال وبعض الأراضي من مقاطعة خيرسون في الجنوب.
كانت أولي هذه الخطوات، وتطبيقا لمبدأ الدفاع عن حقوق الروس والناطقين بالروسية، إعلان الرئيس الروسي عن ضم أربع مناطق أوكرانية تسيطر عليها روسيا حاليا إلى الإتحاد الروسي، وهم ؛ دونيتسك،لوغانسك، زاباروجيا وخيرسون، يمثلون ١٥٪ من مساحة أوكرانيا. وقد جاء ذلك بعد إجراء إستفتاء بين سكان هذه المناطق وعلي غرار ما تم في شبه جزيرة القرم عام ٢٠١٤.
الخطوة أو الإجراء الثاني، كان الإعلان عن إستدعاء ٣٠٠ الف من الأحتياطي البالغ عددهم ٢ مليون. وقد حفلت وسائل التواصل الإجتماعي بتصوير الطوابير على الحدود مع جورجيا وفنلندا وكازاخستان حيث عبر أكثر من ٢٠٠ ألف مواطن روسي حدود بلادهم خوفا من قيام السلطات المحلية بتجنيدهم. في حين شهدت بعض المدن الروسية مظاهرات مناوئة لحملة التجنيد هذه كانت أعنفهم في داغستان، فضلا عن عدة حوادث إطلاق نار في بعض مراكز التجنيد. كما تداولت وسائل الإعلام الغربية تقارير صحفية تتحدث عن إعتقال أكثر من ١٣٠٠ شخص من المعارضين لهذه الخطوة.
إلا أن أكثر ما أثار قلق الغرب وتخوفه، كانت الخطوة الثالثة، والتي جاءت في خطاب الرئيس بوتين في ٢١ سبتمبر الماضي والذي أعلن فيه عن ضم هذه المقاطعات الأربع سالفة الذكر، والذي ذكر فيه أنه ” إذا تعرضت وحدة أراضي بلادنا للتهديد، فسنستخدم بلا شك كل الوسائل المتاحة لحماية روسيا وشعبنا، وهذا ليس مجرد كلام“. وهو ما تم تفسيره بأنه تهديد مبطن بإستخدام الأسلحة النووية في الدفاع عن أراضي هذه المقاطعات الأربع، مثلها مثل الدفاع عن بقية أراضي الإتحاد الروسي.
هذا، وقد أكد الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف- والذي يشغل حاليا منصب نائب رئيس مجلس الأمن الروسي- نفس المعني وبشكل أكثر وضوحا حين صرح بدوره أن لموسكو الحق في الدفاع عن نفسها بالأسلحة النووية إذا تم تجاوز حدودها. وهو الأمر الذي يتفق مع العقيدة النووية الروسية والتي تذهب إلى إستخدام الأسلحة النووية في حالة الاعتداء على الاتحاد الروسي باستخدام الأسلحة التقليدية، ويكون فيه وجود الدولة في خطر.
وأخيرا، جاء تصريح الزعيم الشيشاني رمضان قديروف، المتحالف مع موسكو وتحارب قواته في أوكرانيا، بالمطالبة بإستخدام الأسلحة النووية التكتيكية، ليزيد من تخوف البعض من إقدام موسكو فعلا على إستخدام مثل هذه الأسلحة، خاصة مع توالي تقدم القوات الأوكرانية وإنسحاب القوات الروسية وكان أخرها من مدينة ليمان في مقاطعة لوغانسك بالدونباس، وهو ما دفع قاديروف إلي تصريحه هذا.
ومن المعروف أن لدي روسيا أكبر ترسانة نووية في العالم، حيث تملك ٥٩٧٧ رأسا نوويا مقارنة ب ٥٤٢٨ لدى الولايات المتحدة الأمريكية. وتبلغ القوة التدميرة في المتوسط لكل رأس أو قنبلة نووية حوالي ١٠٠٠ كيلو طن. علما أن القنبلة النووية التي تم ضرب مدينتي هيروشيما ونجازاكي بهما في اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية كانت تبلغ حوالي ١٥ كيلو طن فقط. وقد أشار بوتين إلى أن أستخدام واشنطن لهذه القنابل يعد سابقة، في إشارة أخرى إلى أنه يحق له أيضا إستخدام مثل هذه الأسلحة النووية إذا لزم الأمر.
وبجانب هذه الأسلحة الإستراتيجية، يوجد ما يسمي بالأسلحة أو القنابل التكتيكية، وهي أصغر حجما وتبلغ قوتها التدميرية من كيلو طن واحد لأصغرها إلى حوالي ١٠٠ كيلو طن لأكبرها، وتمتلك روسيا منها حوالي ٢٠٠٠ قنبلة. ورغم قوتها التدميرية المحدودة مقارنة بالأسلحة الإستراتيجية الأخرى، إلا أنها في نهاية الأمر أسلحة نووية، وليست تقليدية. ويكون إستخدامها تصعيدا كبيرا من قبل الطرف المستخدم له.
وقد جاء رد الفعل الغربي سريعا وحاسما، ففي تحد واضح للتهديدات الروسية، وقع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في اليوم التالي على خطاب بوتين على وثيقة طلب إنضام بلاده سريعا إلى حلف الناتو. في حين حذر جاك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأمريكي، من مغبة الإقدام على مثل هذه الخطوة واعلن عن توصيل رسائل إلي روسيا بالنتائج الكارثية التي ستتعرض لها روسيا في حال إستخدامها لهذه الأسلحة، ودون تقديم مزيد من الشرح. كما صرح جون بايدن في وقت لاحق بأن نظيره الروسي فلاديمير بوتين “لم يكن يمزح” عندما أطلق تلك التهديدات. وأضاف أنه “يوجد للمرة الأولى منذ أزمة الصواريخ الكوبية ( ١٩٦٢ ) تهديدا مباشرا باستخدام أسلحة نووية إذا استمرت الأمور على المسار الذي تسير عليه الآن ”.
ورغم ذلك، يستبعد المراقبون حاليا قيام بوتين بإستخدام السلاح النووي التكتيكي قبل أن يستنفذ أولا عدد من الخيارات الأخرى مثل إستدعاء مزيد من قوات الإحتياط في موجة ثانية وثالثة ورابعة من التعبئة الجزئية، وربما وصولا إلي التعبئة العامة الكاملة، وهو ما يعني الإنتقال رسميا من مرحلة ”العملية العسكرية الخاصة ” حاليا إلى إعلان حالة الحرب الصريحة. ويدعم هذا التقدير ما جاء في خطاب بوتين من وصف الصراع الدائر حاليا في أوكرانيا علي إنه لم يعد صراعا روسيا مع نظام نازى في كييف، ولكنه أصبح صراعا وجوديا بين روسيا من جانب وعلى الجانب الأخر دول الغرب بأكملها، هذا الغرب الذي يريد تدمير روسيا وتقسيمها. ويرى أصحاب هذا التقدير أنه في هذه الحالة لا يستبعد معها قيام روسيا بتوجيه ضربات خارج أوكرانيا إلى أحدى دول الناتو وخاصة بولندا، وهو الأمر الذي صرح معه الرئيس الأمريكي جون بايدن وبكل وضوح أن الولايات المتحدة ستدافع عن كل شبر من دول حلف الناتو. وقد كرر سكرتير عام حلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرج نفس المعني من قيام الحلف بالتصدي لأي عمل عسكري روسي محتمل ضد إحدي دول الحلف.
وعليه، تأخد بعض الدوائر الغربية هذه التهديدات الروسية بمحمل الجد هذه المرة، مقارنة بالمرات السابقة، وعلي ضوء الوضع المتردي لبوتين في أوكرانيا. وتشير هذه الدوائر إلى أن التعبئة الجزئية التي سبق وأن أعلنها بوتين لن تحقق لموسكو ما ترجوه من نتائج قبل عدة أشهر، وهي الفترة التي تحتاجها هذه القوات الإضافية للإعداد والتدريب قبل إرسالهم لمياديين القتال. إلا أنه وفي ضوء الأداء المتدني للقيادات العسكرية الروسية حاليا في أوكرانيا فإن النتيجة المتوقعة لأداء هذه القوات الإضافية لن تختلف عن سابقاتها. ولذلك فحتى إذا لم يستخدم بوتين أسلحته النووية التكتيكية حاليا، إنتظارا أولا لما سيسفر عنه وصول القوات الروسية الجديدة إلى أوكرانيا، فإنه على الأقل يهدف إلي تخويف الغرب في هذه المرحلة لإبطاء وتيرة دعمه العسكري لأوكرانيا، الأمر الذي إن نجح فيه بوتين فسيعطيه فرصة لإلتقاط الأنفاس بعد هزيمة خاركيف وتحقيق نوعا ما من النصر التكتيكي، إلا أنه في النهاية سيجد نفسه في وضع يزداد فيها قناعة أنه لا خيار له سوى تنفيذ تهديداته النووية.
هذاالتهديد الروسي لم يحقق هدفه على الأقل في المدى القصير، إذ جاءت ردود الفعل الأولية بعكس ما كان يبتغيه بوتين، فقد أعلنت واشنطن عن تقديم ١٨ راجمة صواريخ جديدة من طراز”هيمارس ”، تضاف لل ١٦ راجمة التي تم تقديمها حتي الآن، والتي يعزو إليها الفضل في تحقيق الإنتصارات الأوكرانية الأخيرة. يتواكب مع ذلك أيضا بدء واشنطن تسليم الجيش الأوكراني منظومة الدفاع الجوي المعروفة بإسم ” ناساماز ” وهي منظومة دفاع جوي متقدمة متوسطة المدى تم تطويرها بين الولايات المتحدة والنرويج.
كما أعلنت ألمانيا بدورها أنها سترسل أول دفعة من أنظمتها الدفاعية الجوية “إي أر س تي” إلى أوكرانيا خلال الأيام القادمة لمساعدتها على صد هجمات الطائرات المسيرة، في رسالة مباشرة إلي موسكو بأن لا تعول على أن وقف إمدادات الغاز الروسي إليها سيغير من موقفها الداعم لأوكرانيا، وهو ما أكدت عليه أيضا وزيرة الدفاع الألمانية بقيامها بزيارة لكييف لإظهار التضامن الألماني مع الشعب الأوكراني. في ذات الوقت الذي عززت فيه دول الإتحاد الأوروبي من دعمها لأوكرانيا وفرضت مزيد من العقوبات الإقتصادية على روسيا، وتعالت الاصوات المطالبة بمصادرة الأصول الروسية المجمدة وخاصة من ودائع البنك المركزي والتي تقدر بحوالي ٣٠٠ مليار دولار.
الخلاصة أن هذا التهديد النووي الروسي لم يحدث النتائج التي كان بوتين يتوخاها، وخاصة مع ما تداولته بعض وسائل الإعلام الغربية من تقديرات لبعض العسكريين الأمريكيين المتقاعدين مثل دايفيد باتريوس، رئيس وكالة الإستخبارات الأمريكية سابقا، من أنه في حالة إستخدام بوتين للسلاح النووي حتى داخل أوكرانيا فقط، فإن رد الفعل سيكون بتدخل عسكري حاسم من قبل حلف الناتو لتدمير جميع القوات الروسية علي الاراضي الاوكرانية والأسطول الروسي في البحر الاسود. وهو ما يعني، في حالة صحة هذا الكلام، دخول الولايات المتحدة الأمريكية ومن ورائها دول حلف الناتو رسميا في الحرب ضد روسيا. وهي ذات الدول التي كانت تعارض إمداد أوكرانيا ببعض أنواع الأسلحة الهجومية المتطورة خشية من رد الفعل الروسي وعدم الرغبة في الدخول في مواجهة مباشرة معها. وهو ما يعني أن إحتمالات خروج هذه الحرب عن السيطرة أكبر من إحتمالات السيطرة عليها بحرب نووية محدودة كما يريدها الغرب أو موسكو.