ثمانى سنوات بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، ومازال الحدث موضوعا للنقاش والجدل والتقييم. يرى البعض أن يناير أتاح فرصة لتحول ديمقراطي، وأن هذه الفرصة تم إهدارها فى أثناء التطورات التى تلت ذلك. شخصيا لا أظن أن يناير أتاح فرصة حقيقية لتحول ديمقراطي، فيناير لم يكن أكثر من سراب خدع البعض فاعتبره فرصة ديمقراطية، غير أن الديمقراطية لها شروط لم يتوافر أغلبها فى مصر فى تلك اللحظة من عام 2011. هناك نوعان من الشروط للتحول الديمقراطي، يتعلق النوع الأول بالظروف الموضوعية وخصائص المجتمع، فليست كل المجتمعات جاهزة للديمقراطية بنفس القدر، إنما تحدث الديمقراطية حينما ينضج الاقتصاد والطبقات وبنية المؤسسات والثقافة والقيم.
على الجانب الآخر هناك الشروط المتعلقة بالعلاقة بين أجنحة النخبة بقسميها الحاكمة والمعارضة، وبالطريقة التى تجرى بها عملية الانتقال، وهو ما أركز عليه فى هذا المقال. فى التجارب الناجحة للتحول الديمقراطى حدث التحول عندما انقسمت النخبة الحاكمة بين محافظين متمسكين بمواصلة تركيز السلطة فى يد النخبة الحاكمة، وتضييق هامش الحريات العامة، وإصلاحيين متأثرين بالقيم الديمقراطية والليبرالية، ويخشون من عواقب إطالة أمد الحكم السلطوي. يحدث هذا فى الوقت الذى يحدث فيه انشقاق مماثل فى صفوف المعارضة، بين متشددين يريدون الإطاحة بالنظام الاجتماعى والاقتصادى والسياسى بطريقة ثورية، ومعتدلين يريدون إصلاح النظام القائم وليس الإطاحة به.
ينجح التحول الديمقراطى عندما ينجح الإصلاحيون فى إضعاف المحافظين داخل نخبة الحكم، وعندما ينجح المعتدلون فى تهميش المتشددين فى أوساط المعارضة؛ وعندما يتحالف الإصلاحيون من الحكام، مع المعتدلين من المعارضين، من أجل إحداث إصلاح سياسى ديمقراطى يحافظ على المقومات الأساسية للنظام الاجتماعى والاقتصادى وعلى القيم الأساسية للدولة والمجتمع. التحول الديمقراطى هو عملية إصلاحية، أما الثورات فإنها تأتى فى الأغلب بنظم سلطوية جديدة، وفى الخبرة المصرية فإن كل تحرك جماهيرى كبير تبعته انتكاسة للديمقراطية.
حدث فى هذا فى حريق القاهرة يناير 1952، وانتفاضة يناير 1977، وحدث أيضا فى الخامس والعشرين من يناير. التحول الديمقراطى الناجح هو عملية إصلاح تعاقدى متفق عليه بين الإصلاحيين المعتدلين فى الحكم والمعارضة، وليس ثورة تطيح بما هو قائم، بطريقة عشوائية تفتح الباب لصراعات أكثر مما تتيح الفرصة لتفاهمات. شيء من هذا لم يحدث فى الخامس والعشرين من يناير، الأمر الذى يشير إلى أنه لم تكن هناك فرصة حقيقية للتحول الديمقراطى فى يناير قبل ثمانية أعوام. فالتمييز بين المحافظين والإصلاحيين فى نخبة الحكم لم يكن قد نضج بعد، ولم تنجح المعارضة فى التمييز داخل صفوفها بين الثوريين الانقلابيين الراديكاليين من ناحية والإصلاحيين السلميين المعتدلين من ناحية أخري، و بدلا من التفاهم الإستراتيجى والاتفاق التعاقدى بين المعتدلين والإصلاحيين فى الحكم والمعارضة من أجل عزل الحكام المحافظين والمعارضين الراديكاليين، بدلا من هذا اصطف المعارضون فى كتلة كبيرة واحدة بلا معالم، وتم إهدار كل فرصة للتفاهم مع الإصلاحيين داخل الحكم؛ الأمر الذى انتهى بوقوع البلاد فى يد الإخوان الراديكاليين، وما تلى ذلك من تدخل الجيش لإنقاذ البلاد من خطر الفاشية الدينية.
حدث التحول الديمقراطى فى المجتمعات التى شهدت تحالفا بين المعتدلين والإصلاحيين، وهو التحالف الذى دخل فى صراعين، أولهما ضد المحافظين المعادين للتغيير فى نخبة الحكم، والثانى ضد المعارضة الراديكالية المتشددة، أما فى الحالة المصرية فلم يكن هناك تحالفات من أى نوع، لكن كانت هناك مناورات قصيرة الأمد ساذجة وانتهازية. بالمقابل هيمن على عملية الانتقال السياسى فى مصر عدة صراعات لم تؤد سوى إلى تشتيت الأفكار والجهود وإرهاق الشعب. كان هناك صراع حول اقتسام الثروة، ومن مظاهره الإضرابات التى دخلها عمال القطاع الخاص، وعمليات تشكيل النقابات المستقلة. لكن الشكل الأهم للصراع على الثروة لم يكن صراعا طبقيا بالمعنى المعروف، وإنما كان صراعا من أجل الحصول على نصيب أكبر من المال العام. أتحدث عن الصراع الذى دار من أجل رفع رواتب موظفى الدولة، ومن أجل تعيين العمال المؤقتين فيها، وكذلك مطالبة حملة الماجستير والدكتوراه بالحصول على وظائف حكومية. لقد أثبتت هذه الصراعات مرة أخرى عمق التشويه الذى حدث للبناية الطبقية فى مصر بسبب تضخم جهاز الدولة، وبسبب تحول البيروقراطية إلى أكبر قوة اجتماعية منظمة فى البلاد، فكانت هى الرابح الأكبر فى ثورة يناير.
كان هناك أيضا صراع بين الشباب والشيوخ، فقد لبست ثورة يناير ثوبا شبابيا، وانتابت كثير من الشباب موجة غرور بشأن قدراتهم الثورية غير المسبوقة التى بررت لهم التعالى على الجيل الأكبر سنا من السياسيين والمثقفين. لقد نجح الشباب فى إسقاط النظام فى أول تجربة سياسية لهم، الأمر الذى أطاح برءوسهم وجعل من الصعب التفاهم معهم. الصراع بين الشباب والشيوخ فى جانب كبير منه هو صراع بين الشباب الرافضين للتأطير والقيادة السياسية، والشيوخ المنظمين فى أحزاب ومنظمات حاولت إدخال بعض النظام على الفوضى التى ضربت المشهد السياسى بعد الثامن والعشرين من يناير. كان هناك أيضا الصراع بين المدنيين والعسكريين، وهو الصراع الذى خاضه الشباب الفوضويون الرافضون للسلطة، أى سلطة، ومعهم آخرون يساريون وليبراليون ركزت رؤيتهم على السلطوية الكامنة فى الجيش على حساب مؤهلات الجيش الوطنية التى لا شك فيها.
لكن الصراع الأكثر خطورة هو ذلك الصراع الذى حدث بين الإسلاميين من ناحية، والليبراليين والوطنيين من ناحية أخري، بين أنصار الدولة الدينية من ناحية، وأنصار الدولة المدنية من ناحية أخري؛ بين أنصار الأممية الإسلامية العابرة للحدود، وبين الوطنيين المصريين المتمسكين بمصر وطنا نهائيا كاملا فى ذاته، دون حاجة للالتحاق بكيانات أخرى إسلامية أو عربية، رغم أن الإسلام والعروبة جزء من هويته. كان هذا هو الانقسام الأكثر أهمية فى ثورة يناير، وكانت القوى الدينية هى الأكثر تصدرا للمشهد، وعندما يحدث ذلك فإن الديمقراطية تكون حلما بعيد المنال.
*نقلا عن صحيفة “الأهرام”، بتاريخ ٢٤ يناير ٢٠١٩.