شهدت الأسواق العالمية في الأسبوع قبل الأخير من يناير أسبوعًا كان الأسوأ منذ أكثر من عام، إذ يبدو أن عام 2022 يطل بمخاوف أخرى تزيد على المخاوف المعتادة التي تعايش معها المستثمرون والخاصة بفيروس كورونا، حيث إن سياسات الصقور أصبحت تلوح في الأفق، ويرى الكثيرون أن أعوام الرخاء والسياسات النقدية التوسعية انتهت، ومعدلات التضخم العالمية تفرض واقعًا جديدًا على صانعي السياسات النقدية، والاتجاه نحو عام أكثر تشديدًا. فكيف ستؤثر السياسة الانكماشية (الصقور) على أسواق المال؟!كان لوباء كورونا تأثير كبير على المستوى الدولي، حيث خفضت البنوك المركزية أسعار الفائدة، بل وقدمت برامج مكثفة من التيسير الكمي، حيث قدمت الحكومات إعفاءات ضريبية وإعانات بطالة، وأجلت سداد الديون للأفراد والشركات، وكان الهدف من تلك الإجراءات محاولة احتواء الانكماش الاقتصادي المتوقع أن تسببه تلك الجائحة نتيجة لحالات الإغلاق الجزئي التي فرضتها الدول. وكان لكل تلك السياسات التوسعية آثار كبيرة، حيث أثقلت كاهل الدول بالديون، وارتفعت أسعار الأصول ومنها الأسهم في الأسواق المالية عالميًا، لكن يبدو أن صنبور التمويل أوشك على الإغلاق، وما إن لوحت البنوك المركزية بمخاوف وتهديدات التضخم حتى بدأت الاخبار المالية الإيجابية تتحول إلى سلبية في الداخل والخارج، وحيث إن الأسواق المالية عادة ما تسبق البيانات الاقتصادية وتعكس المخاوف المحدقة فقد شهدت الأسواق العالمية أسبوعًا لم تشهده منذ أكثر من عام، حيث تراجعت أسهم التكنولوجيا بالبورصة الأمريكية بشكل كبير، وبالطبع أثّرت على بقية القطاعات الأخرى. كانت موجة البيع العنيفة التي شهدتها شركة نتفلكس والتي تسببت في تراجع السهم بنسبة 22% بعد أن حذرت الشركة في بيان أرباحها الأخير من تباطؤ أعداد المشتركين لديها ثم انتشرت الحمى إلى باقي الأسهم بقطاع التكنولوجيا، مما دفع مؤشر Nasdaq لتحقيق أكبر خسارة بنسبة 7.6% خلال تعاملات أسبوع واحد، وهو أكبر انخفاض أسبوعي منذ أن ضربت جائحة كورونا الأسواق المالية في مارس 2020. وبذلك يكون المؤشر في طريقه لتحقيق أسوأ أداء شهري منذ الأزمة المالية في عام 2008، وهو ما دفع المضاربين إلى الهروب من السوق خوفًا من تشديد الأوضاع المالية. من جانب آخر، رافق ذلك الانخفاض انخفاض كبير في مؤشر S&P 500 (مؤشر يمكن من خلاله متابعه أداء سوق الأوراق المالية الأمريكي، وهو يضم 500 شركة ويبلغ رأسمال الشركات المقيدة به 50 ترليون دولار)، لكن هل بالفعل للسياسات النقدية كل ذلك التأثير على الأسواق المالية؟! ولماذا يخشى المستثمرون أسعار الفائدة المرتفعة لتلك الدرجة؟!
شكل رقم 1: أداء مؤشر ناسداك 100, ومؤشر S&P 500 بالولايات المتحدة الأمريكية
السياسة النقدية
يشير مصطلح السياسة النقدية المتشددة أو يسميها البعض (سياسة الصقور) إلى سعي البنوك المركزية عالميًا إلى تقليل الطلب على النقود وذلك من خلال رفع أسعار الفائدة وتقليل برامج شراء الأصول المالية، حيث ترفع أسعار الفوائد المرتفعة من تكلفة الاقتراض، ومن ثم تقلل من إنفاق المستثمرين والاستثمار ومن ثم انخفاض معدلات النمو الاقتصادي بالبلاد، لذا فهي تُسمى سياسة نقدية انكماشية، حيث إن اتخاذ البنك المركزي قرارًا برفع أسعار الفائدة يعني أن البنوك التجارية أو العاملة في السوق ستضطر إلى دفع معدلات فائدة أعلى للحصول على قرض من البنك المركزي، ومن ثم فإنها ترفع السعر الأساسي، وعليه تقوم البنوك التجارية برفع أسعار الاقتراض والادخار الخاصة بها، ومن ثم يصبح الاقتراض أكثر تكلفة للمستثمرين والمستهلكين، فيُقلل أصحاب الأعمال من الاقتراض والتوسع، من ثم يقل العرض. ومن الناحية الأخرى يُقلل المستهلكون من الاقتراض بغرض الاستهلاك فيقل الطلب. على الجانب الآخر، يُصبح الادخار أكثر جاذبية حيث إنه يدفع معدلات فائدة مرتفعة على الودائع، ومن ثم يميل الأفراد إلى ادخار الجزء الأكبر من دخولهم بدل إنفاقها. أثر آخر يمكن لارتفاع أسعار الفائدة أن تسببه هو جذب المزيد من الأموال الساخنة للاستثمار في الأصول المالية (أذون الخزانة والسندات الحكومية) المغرية والتي تقوم بدفع معدلات فوائد سخية، وعليه يؤدي ذلك إلى ارتفاع سعر الصرف العملة، ومن ثم تكون منتجات الدولة مسعرة بشكل أعلى، وهو ما يدفع الصادرات للانخفاض ويقلل من القدرة التنافسية للشركات، وهو ما قد يدفع بعض الشركات إلى اللجوء لإعادة هيكلة إطار التكاليف الخاص بها ليكون أكثر فاعلية من خلال خفض التكاليف. عمليات السوق المفتوحة أيضًا إحدى أدوات السياسة النقدية التي يمكن أن تتبعها البنوك المركزية بهدف التأثير على الأسواق من خلال الدخول في الأسواق كبائع للسندات الحكومية طويلة الأجل للقطاع المصرفي، ومن ثم خفض السيولة لدى البنوك، ومن ثم خفض قدرة البنوك على الإقراض. يمكن للبنك المركزي أيضًا رفع الحد الأدنى لنسبة الاحتياطي، وهو الأمر الذي يجبر البنوك على الاحتفاظ بمزيد من السيولة، لكن عمليًا لا يتم استخدام تلك الأداة بشكل متكرر.
شكل رقم ٢: تطور سعر الفائدة بالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي
عادةً ما يتم النظر إلى أسعار الفائدة الحقيقية عند وضع السياسات النقدية بالبلاد. فعلى سبيل المثال، إذا كان التضخم 2% ومعدل الفائدة الاسمي 3% فإن معدل الفائدة الحقيقي هو 1% (الفارق بين سعر الفائدة الاسمي ومعدل التضخم). تاريخيًا لم تكن السياسات النقدية بالدول فعالة للدرجة المتوقعة، فقد لا تؤدي أسعار الفائدة المرتفعة إلى السيطرة على التضخم، وقد يستغرق الأمر شهورًا قد تمتد إلى 18 شهرًا. أمر آخر هو أن سبب التضخم أمر هام للغاية في تلك المعادلة، حيث يمكن أن يكون سبب التضخم ارتفاع أسعار عوامل الإنتاج، مثل ارتفاع أسعار النفط والمعادن والسلع الأساسية، ومن ثم قد تؤدي السياسة النقدية المتشددة إلى انخفاض النمو الاقتصادي، ومن ثم ارتفاع معدلات البطالة.
توجد العديد من العوامل التي تحدد فعالية السياسة النقدية يمكن تبسيطها في مجموعه نقاط، منها دقة توقع معجل التضخم المتوقع، حيث إن سياسة تحديد سعر الفائدة عادة ما تحاول استباق معدلات التضخم. مرونة الطلب على الفائدة أمر هام أيضًا، فإذا كانت ثقة المستهلكين بالاقتصاد قوية فإن ذلك يعني استمرار معدلات الاستهلاك مرتفعة كما هي حتى مع رفع أسعار الفائدة حيث إنهم يتوقعون جني المزيد من المال ومن ثم فهم على استعداد للاقتراض بمستويات أعلى من الفائدة، ومن ثم فهو ليس متكافئ التأثير على سلوك المستهلكين. متغير آخر وهو أن تغيير أسعار الفائدة يؤثر على قيمة العملة ويرفع من قيمتها ومن ثم يتسبب في مشاكل للمصدرين والتأثير سلبيًا على العجز التجاري، ومستويات الدين الحكومي. أمر آخر حيث إن المستويات المرتفعة من الدين الحكومي تدفع أسعار الفائدة لأعلى نظرًا لأنها ترغب في تحفيز الناس على شراء السندات الحكومية. وقد تكون معدلات الفائدة عديمة الجدوى في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، في اليابان خفضت الحكومة من أسعار الفائدة لتصل إلى المستوى الصفري، ومع ذلك ظل الاستهلاك عند معدلات ما قبل التخفيض نتيجة لسلوك المواطن الياباني الذي يميل إلى الادخار.
ومن ثمّ فإن الموعد الذي أشار إليه البنك الفيدرالي الأمريكي والذي نوّه فيه إلى وجود احتمالية لإقدامه على رفع أوّلي لسعر الفائدة في اجتماعه في مارس المقبل في غضون الأيام الحالية، هو أمر هام للغاية بالنسبة للمستثمرين، حيث إنهم توقعوا أن يبدأ الفيدرالي برفع بواقع 0.25% لمعدل الفائدة، مع توقعهم أن يقوم الفيدرالي بتلك الجولة مرتين إلى ثلاث مرات خلال العام الجاري (عام 2022) خاصة مع استمرار معدل التضخم في الارتفاع عالميًا، ومنها في الولايات المتحدة الأمريكية دون وجود ردود حاسمة من جانب محافظي البنوك المركزية التي يقع ضمن أولى أولوياتهم الحفاظ على استقرار الأسعار.
شكل رقم ٣: معدل التضخم وسعر الفائدة بالولايات المتحدة الأمريكية
وفقًا للوضع الحالي للولايات المتحدة الأمريكية ووفقًا لما سبق عرضة فإن معدل الفائدة الحقيقية هو سالب 6.75%، وهو ما يعني أن من يحتفظ بالدولار الأمريكي في الولايات المتحدة الأمريكية يخسر 6.75% من القيمة الشرائية لأمواله كل عام، وبالطبع لن تقوم الولايات المتحدة برفع أسعار الفائدة إلى مستوى يساوي معدل التضخم، لكنها ستقدم على تلك الخطوة لتجذب السيولة من السوق ومن ثم تعود الأسعار للاستقرار بشكل أفضل.
هل الصورة مظلمة لتلك الدرجة؟
ليست الصورة مظلمة لتلك الدرجة، فعلى الرغم من توقع صندوق النقد الدولي في تقديره “آفاق الاقتصاد العالمي” الصادر في يناير من عام 2022 انخفاض معدل النمو في الاقتصاديات الكبرى (الولايات المتحدة الأمريكية، والصين، وكندا، والمملكة المتحدة، ومنطقة اليورو) والذي بدوره يخفض النمو العالمي إلى 4.4%، منخفضًا بمقدار نصف نقطة مئوية عن توقعاته السابقة التي بلغت 4.9% خلال عام 2022، ثم معدل النمو بنسبة 3.8% في عام 2023، مع تأكيده أن الاقتصاد العالمي يواجه ضغوطًا تتمثل في اضطراب سلاسل التوريد، وارتفاع التضخم، وتشديد الأوضاع النقدية على المستوى العالمي والتي جعلت من الاقتصاد العالمي أضعف مما كان متوقعًا في بداية عام 2022.
وقد خالفت مصر ذلك الاتجاه، حيث رفع صندوق النقد الدولي توقعات النمو في مصر إلى 5.6% في العام المالي 2021/2022 مقابل ما توقعه سابقًا في أكتوبر من عام 2021 والذي توقع فيه نمو الاقتصاد بمعدل 5.2%، وفي حال النظر الى أداء سوق الأوراق المالية المصري من حيث انخفاض أسعار أسهم الشركات المدرجة به مقابل القيم المرتفعة للتسعير العادل لتلك الأسهم، فإن ذلك يطرح احتمال أن يكون أداء سوق الأوراق المالية المصري خلال العام الحالي أفضل من باقي الأسواق العالمية (انخفاض أقل من باقي الأسواق)، وهو ما أشار إليه العديد من الاقتصاديين لدى شركتي إدارة الأصول التابعتين لبنوك استثمار بي إن بي باريبا (الفرنسي) وجولدمان ساكس (الأمريكي)، اللتين تريان أن أسهم الأسواق الناشئة يمكن أن تتفوق في الأداء على نظيرتها من البلدان المتقدمة.