أدى إعلان “روبرتو فيكو” Roberto Fico، رئيس مجلس النواب الإيطالي (الغرفة الأدنى)، في 29 نوفمبر الماضي (2018)، تعليق العلاقات الدبلوماسية مع البرلمان المصري؛ إلى إثارة اهتمام المتابعين لملف “جوليوريجيني”، بشكل خاص، والعلاقات المصرية-الإيطالية بشكل عام. كما أثار القرارالعديد من التساؤلات حول مغزى وتوقيت القرار، والأسباب التي دفعت إلى اتخاذه بصورة منفردة وفجائية، وإذا ما كان هذا القرار يُمثل توجهًا جديدًا من جانب الحكومة الإيطالية في التعامل مع مصر بشأن قضية “ريجيني”، ومن ثمَّ يُنذر ببداية تدهور في العلاقات بين البلدين، أم إن فهمًا أدقّ لهذا القرار يحتم وضعه في سياقآخر؟
الحقيقة أن المتابع للصحافة الإيطالية يجد أيضًا أن هذا القرار لم يكنمفاجئًا فقط للمصريين، بل كان مفاجئًا أيضًا للعديد من الإيطاليين أنفسهم، بمنفيهم مسئولون سياسيون بالحكومة الإيطالية نفسها. فقد جاء عنوان مقال صحيفة”الفوليو” IL Foglio عن هذا القرار: lapolitica estra fai da te di Roberto Fico، أو”السياسة الخارجية كما تصنعها بنفسك لروبرتو فيكو”. ووصفت صحيفة “المانيفستو”IL Manifesto هذا القراربأنه “هزة” للحكومة الإيطالية.
ومما لا شك فيه، فإن هذا التناول يدعو إلى تفحص ملابسات إصدار هذا القرار ودلالاته المستقبلية على العلاقات المصرية-الإيطالية بقدرٍ من التوازن بين التقدم في قضية “ريجيني” من جانب، والانقسام الإيطالي الداخلي وموقع قضية “ريجيني”بالنسبة للرأي العام من جانب آخر.
لقد جاء هذا القرار عقب الزيارة الأخيرة لمجموعة القضاة الإيطاليين لمصرخلال الأيام السابقة، وهي الزيارة العاشرة من نوعها. ووفقًا للقضاة الإيطاليين فإن التحقيقات لم تنتهِ حتى الآن إلى نتائج جديدة.
ومع ذلك فإن هناك ثلاثة أمور يجب ملاحظتها عند النظر إلى القرار المعلن من جانب رئيس مجلس النواب الإيطالي، نُشير إليها فيما يلي:
– الأول: أن مضمون القرار نفسه به قدر من “الغرابة”؛ فمن غيرالمعتاد في العلاقات الدولية أن يتم تعليق العلاقات بين البرلمانات، أو بالأحرى بين المستوى الأدنى للبرلمان ونظيره في دولة أخرى، كإجراء “عقابي”.والدلالة المهمة لهذا هو عدم نجاح البرلمان (الإيطالي) في الضغط على الحكومة لتبنيإجراءات عقابية تجاه مصر بشأن قضية “ريجيني”، فلجأ “فيكو” إلى اتباع “سياسة خارجية” موازية بهدف إحراج الحكومة الإيطالية ومحاولة الضغط عليها للتعاطي مع هذا القرار. بمعنى آخر، فإن القرار قد لا يتجاوز كونه محاولة برلمانية للتضييق على الحكومة الإيطالية لمحاولة إجبارها على ممارسة نوع منالضغط على مصر في هذا الملف. لهذا يرى البعض أن ما أعقب قرار التعليق من قيام وزيرالخارجية “أنتسيو موافيرو” (وهو الزميل الحزبي لفيكو)، باستدعاء السفيرالمصري لإبلاغه بضرورة التحرك الجاد في تحقيقات قضية “ريجيني”، ليس إلامحاولة لاحتواء أو كبح جماح قرارٍ غير متفق عليه في الداخل الإيطالي بين الجانبينالتشريعي والتنفيذي.
– الثاني: أن “فيكو” اتخذ القرار في وقت غاب فيه رئيس الوزراء “جوزيبيكونتي” عن المشهد لحضوره قمة مجموعة العشرين في الأرجنتين. وقد أحجم “كونتي”عن التعليق المستفيض على قرار “فيكو”، واكتفى بالتأكيد على أن الحكومة سترى ما يجب أن تتخذه من إجراءات بعد عودته إلى روما.
– الثالث: لا بد من الأخذ في الاعتبار أن قضية “ريجيني” تمثل قضية رأي عام في إيطاليا. وهناك ضغط كبير تتعرض له المؤسسات السياسية والحزبية من جانب الرأي العام الإيطالي، وقطاعات مجتمعية وبرلمانية واسعة، وكذلك اهتمام خاص منجانب القضاة الإيطاليين المعنيين بالقضية، الأمر الذي يعني أن للقضية أبعادًا داخلية لا يُمكن إغفالها.
وليست هذه المرة هي الأولى التي يُحرِج فيها “فيكو” الحكومةبتعبيره عن مواقف لا تُعبر عن موقف الدولة الإيطالية، فقد حدث هذا مؤخرًا عندماأدلى “فيكو” بتصريحات حول موقف الدولة الإيطالية من خطة الأمم المتحدة بخصوص الهجرة المعروفة بالـGlobal Compactfor Migration، وهو ماأثار جدلًا داخليًّا واسعًا. لهذا، جاء استنكار عددٍ من السياسيين والحزبيين الإيطالين لقرار “فيكو” المنفرد بتعليق العلاقة مع البرلمان المصري. فعلى سبيل المثال، قال “جويدو كروسيتو” في تغريدة على تويتر إن “رئيسمجلس النواب يُدشن لسياسة خارجية خاصة به وحده ومختلفة عن السياسة الخارجية لدولته”. كما ذهبت صحيفة “الفوليو” إلى وصف “فيكو” بـ”المنشق”Dissidente لتبنيه هذا القرار بصورة منفردة.
واقع الأمر، وبعيدًا أيضًا عن هذا الجدل الداخلي، من المستبعد بمنطق الواقعية السياسية التي لطالما ميزت السياسة الخارجية الإيطالية، أن تتبنى الدولة الإيطالية سياسات عقابية تجاه مصر، في ضوء تثمين الحكومة الإيطالية للدور السياسي والأمني لمصر في المنطقة، وفي وقت تتطلع فيه إلى التعاون معها في مشروعات مستقبلية، خاصة في مجال الطاقة، وتعول على التعاون الوثيق معها خاصةً في الأزمة الليبية، وهو ما ظهر مؤخرًا في إجرءات التحضير أو في فعاليات ونتائج مؤتمر باليرمو بخصوص ليبيا التي كان للوساطة المصرية قدر كبير فيها. وهذا ما أكده “دي مايو”Luigi Di Maio (نائب رئيس الوزراء ووزير التنمية الاقتصادية والعمال والسياسات الاجتماعية) الذي استبعد قيام الحكومة الإيطالية بفرض عقوبات اقتصادية على مصر، حيث ذهب إلى أن الشركات الإيطالية تتمتع بقدر كبير من الاستقلالية في علاقاتها التجارية، وبالتالي ليس من المتوقع اتخاذ أي إجراء من جانب الدولة الإيطالية لتقييد عمل تلك الشركات، خاصةً أن بعضها من المقرر أن يشارك في الثالث من ديسمبر الجاري (2018) في معرض الدفاع المصري Egyptian Defense Expo. لكن “مايو”،ربما في محاولة لكسب الوقت لغياب “كونتي” عن المشهد، وكذلك لضرورة التعاطي الدبلوماسي مع أزمة قرار “فيكو”، صرح لوكالة الأخبار الإيطالية TG-Com24، عقب قراررئيس مجلس النواب، بأن الحكومة ستنتظر حتى نهاية العام الجاري لترى من الجانب المصري أي تطور جاد في التحقيقات حول القضية.