شكّل الهجوم المسلح الذي تبناه تنظيم “داعش” على مركز شرطة في واحة تازربو جنوب شرقي ليبيا، يوم السبت 24 نوفمبر 2018، والذي أسفر عن مقتل تسعة أشخاص، واختطاف عدد من المواطنين، مؤشرًا دالًّا على تصاعد التهديد الداعشي داخل ليبيا، لا سيما وأن الهجوم اعتُبر الثاني خلال شهر، إذ كان مسلحون تابعون للتنظيم قد أغاروا أواخر شهر أكتوبر الماضي (2018) على مركز أمني في بلدة الفقهاء بمنطقة الجفرة وسط ليبيا، القريبة من جبال الهروج، والتي تشير تقديرات غربية وليبية متعددة إلى تحصن فلول “داعش” فيها بعد فرارها من سرت.
ويعبّر الهجومان عن مسار متصل نسبيًّا مع نمط الهجمات الداعشية، خلال عامي 2017 و2018، وإن تنوعت أهدافها، لكن ظلت نطاقاتها الجغرافية تركز أكثر على مناطق الاتصال بين جنوب ووسط ليبيا، وهو ما يُثير تساؤلًا حول دوافع “داعش” لنشر وتوسيع رقعة تهديداته، وما إذا كان ذلك يستهدف تكرار تجربة سرت التي تم القضاء عليها نهاية 2016، أم يبحث عن نمط سيطرة جديد يتلاءم مع السياقات الراهنة في الصراع الليبي؟
ملامح العودة ومحفزاتها
ينطلق الوجود الداعشي الراهن في ليبيا من بقايا فلول التنظيم التي فرت، سواء بعد الهزيمة في سرت غربًا، أو بنغازي شرقًا. إذ اتجهت تلك الفلول -وفق تقديرات متطابقة- إلى المناطق الجبلية والصحراوية في جنوب ووسط ليبيا، فيما صدرت تصريحات لرئيس التحقيقات في مكتب النائب العام الليبي في فبراير 2018 تُشير إلى أن الدواعش شكلوا “جيش الصحراء” بعد فرارهم من سرت. وأخذت ملاحقة أولئك الفارين، الذين تتضارب التقديرات حول عددهم ما بين المئات حينًا والآلاف أحيانًا أخرى، ثلاثة اتجاهات أظهرت مؤشرات متصاعدة حول عودة تهديد “داعش” في ليبيا، نوجزها فيما يلي:
– الاتجاه الأول: هو ما أبرزته الهجمات الجوية الأمريكية (قيادة أفريكوم) المتفرقة على مدار العامين الماضيين من ملاحقة قيادات “داعش” أو استهداف معسكرات تدريبية، سواء في صحراء جنوب شرق وغرب سرت وجنوب شرق بني الوليد القريبة من طرابلس، أو مناطق قريبة من الهلال النفطي. ولعل آخرها كان في أغسطس 2018 عندما استهدفت الطائرات الأمريكية قياديًّا داعشيًّا في منطقة بني الوليد.
– الاتجاه الثاني: اختراق العناصر والخلايا النائمة الداعشية لمدن غرب ليبيا لشن هجمات انتحارية في طرابلس أو مصراتة، كما الحال في تفجيرات مجمع المحاكم في مصراتة في أكتوبر 2017، أو مقر لجنة الانتخابات الليبية في طرابلس في مايو 2018، أو المؤسسة الوطنية للنفط في طرابلس في سبتمبر 2018.
– الاتجاه الثالث: بروز اشتباكات بين مجموعات داعشية والجيش الوطني الليبي، خاصة بعد سيطرة الأخير على مناطق رئيسية في الجنوب والوسط (كتمنهنت، وبراك الشاطئ، والجفرة، وغيرها) خلال النصف الثاني من عام 2017، إثر تراجع القوة الثالثة التابعة لمصراتة، وهو ما برز في الهجوم على مركز أمني في أغسطس 2017 في واحة الفقهاء جنوبي الجفرة.
وعبّرت تلك الاتجاهات الثلاثة عن مؤشرات على معاودة “داعش” لأنشطته الإرهابية في ليبيا، ودللت أيضًا على إشكاليتين جوهريتين تشكلان معًا محفزًا لتلك العودة.
– الإشكالية الأولى: أن إزاحة أو أبعاد التهديدات الإرهابية دون الإجهاز عليها كليًّا، كما جرى في سرت خاصة، وفّر لفلول التنظيم القدرة على التكيف والانتقال إلى مرحلة جديدة ولو بصيغ مختلفة، انطلاقًا من المناطق الصحراوية والأودية المعزولة والهشة أمنيًّا في جنوب ووسط ليبيا، من قبيل: تشكيل خلايا إرهابية انتشارية كامنة وأخرى نشطة، أو المراهنة على انتقال أفراد التنظيم إلى نمط الإرهاب الفردي.
– الإشكالية الثانية: وتتعلق بالسياق المغذي لعودة “داعش” من قبيل: تعثر تسوية الصخيرات، وانقسام السلطة بين حكومتين في الشرق والغرب، والنزاع على الموارد، وغياب قوة عسكرية موحدة، وعدم اكتمال المصالحات الاجتماعية والقبلية. وبفعل هذه العوامل، بدا الإرهاب الداعشي أو حتى نظيره القاعدي في ليبيا يشبه الدورة غير منقطعة التدفق، طالما أن مغذياتها لا تزال حاضرة.
سيطرة رمادية
مع معاودة أنشطة “داعش”، بلور التنظيم ميدانيًّا عبر هجماته المتكررة تكتيك الإرباك للخصوم لاستنزاف قدراتهم ونشر الرعب بين السكان المحليين في نطاق جغرافي واسع بغية الإخضاع والقبول الاضطراري. وتجاوز هدف هذا التكتيك الفكرة السائدة حول إمكان تكرار تجربة التوطن في سرت إلى محاولة الانتقال الداعشي لرسم معالم سيطرة رمادية gray control. بمعنى آخر أن التوطن الإرهابي يتم عبر الحركة المستمرة لا الثبات في نطاق جغرافي مضطرب، بما يتيح لعناصر التنظيم الاختباء وبناء معسكرات متحركة ينطلق منها لشن هجمات مباغتة.
ويُعزَى هذا النمط إلى سعي “داعش” إلى عدم دفع كلفة التوطن الثابت على بقعة جغرافية لإقامة دولة الخلافة المزعومة، والتي كان من ضمنها “ولاية فزان” (الجنوب)، في ظل الملاحقة الجوية الأمريكية لعناصر التنظيم، ورجوح كفة موازين القوى الميدانية في الجنوب لصالح الجيش الوطني الليبي، مقارنة بحلفاء حكومة الوفاق أو مصراتة. أضف إلى ذلك أن الجنوب الليبي يُمثّل منصة لوجيستية وتدريبية للتنظيمات الإرهابية، سواء الداعشية أو القاعدية الفارة من الضغوطات في الشرق الأوسط والساحل الإفريقي، بخلاف إمكانية تمويل أنشطة “داعش” عبر أنشطة الهجرة غير الشرعية والجريمة المنظمة المزدهرة في الجنوب. والأهم أيضًا أن نمط السيطرة المرنة في جنوب ليبيا قد يوفر فرصًا أكبر لداعش، سواء للانتشار والتمدد في الساحل الإفريقي، أو الفرار التكتيكي إلى ما وراء الحدود الجنوبية، حال تعرضه لضغوطات عسكرية بالمنطقة.
ويوفر هذا الإطار -نسبيًّا- فهمًا لدلالات الهجمات الداعشية الأخيرة، سواء في واحتي تازربو أو الفقهاء، ومدى اتصالها مع هجمات أخرى للتنظيم. فقد عبرت بدرجة أو أخرى عن مساعي “داعش” لرسم نفوذ ميداني متحرك أكثر من رغبة التوطن لعدم ملاءمتها للملابسات الراهنة للصراع الليبي. ومن أبرز تلك الدلالات ما يلي:
1- النطاق الجغرافي للهجمات الأخيرة، فإذا كانت واحة تازربو قريبة من الكفرة في الجنوب الشرقي، بينما الفقهاء في وسط ليبيا أقرب للجنوب الغربي، فإن ذلك يشي بمحاولة بناء شريط جغرافي في المناطق الصحراوية المحاذية لكل من شرق وغرب ليبيا، خاصة إذا تم ربط هذين الهجومين بطبيعة النطاق الجغرافي لهجمات أخرى للتنظيم في عامي 2017 و2018، سواء في جنوب سرت أو النوفلية أو الوادي الأحمر وجنوب أجدابيا وجنوب السدرة وغيرها.
2- أنماط الهجمات المسلحة، وتركزت حول نمطين، أحدهما يتم عبر القيام بهجمات وغارات جماعية بسيارات دفع رباعي خاصة ضد النقاط الأمنية، كما حدث في الهجومين الأخيرين تازربو والفقهاء ومن قبلهما الهجوم على بوابة كعام الأمنية شرق طرابلس في أغسطس عام 2018، وكذلك هجمات أخرى في جنوبي سرت وأجدابيا في عام 2017. أما النمط الثاني فيتم داخل عمق الغرب الليبي “عبر من يدعوهم التنظيم بالانغماسيين”، كما جرى في طرابلس ومصراتة تجاه مقر لجنة الانتخابات أو المؤسسة الوطنية للنفط. ويلاحظ أن النمط الأول من الهجمات عادة ما يشهد اختطاف مواطنين، إما بغرض تجنيدهم أو مبادلتهم بالمعتقلين الدواعش في سجون ليبيا.
3- أنماط الأهداف الميدانية الداعشية، حيث تتعدد أهداف الهجمات الداعشية ما بين مهاجمة مراكز الشرطة، وموانئ وحقول النفط، وسرقة ممتلكات ومؤن المواطنين وغيرها، في مسعى لإضعاف السيطرة الأمنية لكلٍّ من الجيش الوطني الليبي أو حلفاء حكومة الوفاق المتنازعين على جنوب ليبيا، وإن كان الاستهداف الأكبر يظهر ضد الجيش في الهجومين الأخيرين في تازربو والفقهاء، بحكم أنهما يقعان في مناطق تحت سيطرة الحكومة المؤقتة. إضافةً إلى أن اقتراب هجمات “داعش” من الهلال النفطي في وسط ليبيا يمثل ضغطًا على المورد الاقتصادي الرئيسي للبلاد. ولعله لوحظ في أعقاب الهجوم على المؤسسة النفطية الليبية في سبتمبر 2018، أن “داعش” اعتبر -في بيانٍ منسوب له- أن “حقول النفط التي تدعم “الصليبيين” تُعد أهدافًا مشروعة للمجاهدين”، على حد زعمه.
عوائق مطروحة
بيد أن ذلك الاتجاه الداعشي البازغ نحو إنتاج نمط سيطرة رمادية أو مرنة في وسط وجنوب ليبيا يواجَه بجملة من العوائق الرئيسية تصعّب على التنظيم تنفيذ تكتيكاته، منها على سبيل المثال لا الحصر:
1- تحوّل الجنوب إلى ورقة حسم في الصراع الليبي، فعلى الرغم من اتفاق الأطراف الليبية في اجتماع باليرمو الأخير على تفعيل الخطة الأممية الجديدة التي تقضي بعقد مؤتمر وطني جامع في يناير 2019، ثم يليه عقد انتخابات؛ إلا أن الورقة الميدانية لأطراف الصراع في هذا البلد تظل عنصرًا حامسًا في ظل عدم الثقة بين أطراف النزاع في بلوغ الاستحقاقات السياسية لأهدافها أو حتى القبول بنتائجها. وبينما يبدو إقدام الجيش الليبي على اقتحام طرابلس مُستبعدًا نسبيًّا لعوائق أبرزها الدعم الأوروبي لحكومة الوفاق، فإن اتجاهه الأرجح هو تعزيز وتوسيع سيطرته الميدانية في الجنوب الليبي إذا ما علمنا أن الجيش الليبي أعلن في أكتوبر 2018 عن عملية حوض مرزق للقضاء على الإرهاب والجريمة المنظمة. ومع تصاعد هجمات “داعش” الأخيرة، قد تأخذ عمليات الجيش الليبي زخمًا أكبر في الجنوب في المرحلة القادمة، إما لتوسيع سيطرته الحالية، أو تقزيم هجمات الدواعش المتصاعدة، أو الضغط على حلفاء حكومة الوفاق التي تسعى بدورها لاجتذاب حلفاء الجنوب كما بدا من إطلاق حكومة الوفاق الليبي حملة لإنقاذ المنطقة خلال اجتماع باليرمو الأخير.
2- تصاعد التدخلات الخارجية في جنوب ليبيا، إذ تشهد المنطقة تصاعدًا للتدخلات الخارجية، سواء الأمريكية أو الإيطالية أو الفرنسية، إما لمكافحة الإرهاب العابر للحدود الذي يربط جنوب ليبيا بالساحل الإفريقي، أو لمنع الهجرة غير الشرعية، أو حتى بغرض الحفاظ على استثمارات الطاقة، لا سيما وأن منطقة الجنوب تنتج تقريبًا ربع النفط الليبي وتحوي موارد معدنية، بخلاف اكتشافات الغاز. وبالتالي، تشكّل المصالح الدولية والإقليمية في الجنوب عقبة أمام الاتجاه الداعشي لتعزيز نفوذه، خاصة أنه رافقها عسكرة إقليمية لملاحقة الإرهابيين عبر قوة الساحل الإفريقي (موريتانيا، مالي، النيجر، تشاد، بوركينافاسو) والتي تنظر للحدود الهشة مع جنوب ليبيا كعامل رئيسي لتصاعد الأنشطة الإرهابية. بخلاف تواجد قواعد فرنسية وأمريكية في النيجر لمراقبة تحركات الإرهابيين عند الحدود مع جنوب ليبيا.
3- كثرة الفواعل المنافسة وتعدد أنماط الصراع في جنوب ليبيا، إذ تمثل المنطقة ساحة معقدة للفواعل، فتظهر التنظيمات القاعدية الفارة من الساحل الإفريقي أو المغرب العربي، مثل: تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي، وأنصار الدين، وأنصار الشريعة، وغيرها. وتملك تلك التنظيمات -على عكس الدواعش- ارتباطات قبلية تصعّب على “داعش” فرض سيطرته الميدانية، ولعل مدينة أوباري جنوب غربي ليبيا كانت قد شهدت غارة أمريكية على اثنين من قادة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي في مارس 2018. يُضاف لذلك طبيعة دورات الصراعات القبلية المتتالية بعد سقوط القذافي، تارة بين التبو وأولاد سليمان، وتارة أخرى بين القذاذفة وأولاد سليمان، وتارة ثالثة بين التبو والطوارق، ويتركز معظمها حول اقتصادات التهريب والهجرة غير الشرعية في المناطق الحدودية المشتركة بين الجنوب الليبي وتشاد والنيجر والسودان. ويزداد ذلك التعقيد بالنظر إلى تحول المنطقة إلى ساحة للمعارضات الإقليمية المسلحة والمرتزقة القادمة من تشاد والسودان والنيجر.
في ظل هذا السياق الصراعي المعقد في جنوب ليبيا، فإن الاتجاه الداعشي البازغ لبناء نمط السيطرة المرنة أو الرمادية الذي دللت نسبيًّا عليه الهجمات الأخيرة في تازربو أو الفقهاء أو غيرها يواجه صعوبات عديدة، وقد تزداد أكثر إذا نجح الليبيون في جسر هوة الانقسام والاتفاق على قوة عسكرية موحدة تستطيع تطهير الجنوب من الإرهاب أيًّا كان قاعديًّا أم داعشيًّا.