شهدت العاصمة الأوزباكستانية سمرقند، انعقاد القمة التاسعة لزعماء دول “منظمة الدول التركية” OTG))، تحت عنوان “مرحلة جديدة من أجل الحضارة التركية: تنمية مشتركة نحو الرفاه” ([1])، وحضر القمة رؤساء دول تركيا وأوزباكستان وأذربيجان وكازاخستان قاسم وقرغيزيا إلى جانب رئيس وزراء هنغاريا فيكتور أوربان كدولة مراقبة مع تركمانستان التي يمثلها رئيس مصالح الشعب في البرلمان الرئيس السابق قربانقلي بردي محمدوف، وخلال القمة دعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى تعزيز التعاون بين “الدول التركية”، الأمر الذي اعتبرته بعض الدوائر محاولة من الرئيس التركي لاستغلال السياق الحالي متمثلاً في انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية، من أجل تعزيز نفوذ بلاده في منطقة آسيا الوسطى، وعلاقاتها بالجمهوريات السوفييتية السابقة، وهي فرضية يُعزز من واقعيتها العديد من المؤشرات المرتبطة بزيادة حجم الحراك الدبلوماسي التركي في هذه المنطقة بشكل مكثف في السنوات الأخيرة.
منظمة “الدول التركية”
تأسست منظمة “الدول التركية” في أكتوبر 2009 تحت مسمى “المجلس التركي” قبل أن يعلن الرئيس التركي في القمة الثامنة للمنظمة في نوفمبر 2021، عن إعادة تسميتها لـ “منظمة الدول التركية”، وتضم هذه المنظمة في عضويتها إلى جانب تركيا، 4 جمهوريات سوفياتية سابقة هي أذربيجان وكازاخستان وقرغيزيا وأوزبكستان، إلى جانب المجر وتركمانستان بصفة مراقب، وتتخذ منظمة الدول التركية من إسطنبول مقراً رئيسياً لها.
استهدفت المنظمة بحسب البيان التأسيسي لها تطوير التعاون بين الدول الناطقة بالتركية في العديد من المجالات، لكن المتابع للسياسة الخارجية التركية في عهد حزب العدالة والتنمية بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، يجد أن فكرة إقامة ما يُعرف بـ”رابطة العالم التركي” أو “الكومنولث التركي”، حظيت بمكانة وأولوية كبيرة على رأس أجندة السياسة الخارجية التركية في هذه الحقبة، وقد قامت حكومة العدالة والتنمية في عام 2010 باستحداث قسم خاص ملحق بمكتب وزير الخارجية أسمته “شؤون العالم التركي”، وهو القسم الذي استهدف الانفتاح الاقتصادي والثقافي والتعليمي والديني على المجتمعات ذات الأصول التركية، وكذا الدول التي تعتبرها أنقرة تدخل في إطار “الكومنولث التركي”، وقد مثلت هذه الخطوة إلى جانب تأسيس منظمة الدول التركية، تعبيراً عن “مأسسة” تركيا لهذا التوجه، وبالتزامن مع ذلك كثفت الحكومة التركية من تحركاتها سياسياً واقتصادياً وأمنياً لتحقيق المزيد من التقارب مع هذه المجتمعات والدول.
مخرجات القمة التاسعة لـ “الدول التركية”
على هامش القمة دعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الدول الأعضاء في “منظمة الدول التركية” إلى تعزيز تعاونها مع أنقرة، وقال الرئيس التركي إنه في ظل الحرب في أوكرانيا التي أدخلت المنطقة في “فترة حساسة ومحفوفة بالمخاطر، تزداد الحاجة إلى تعزيز تعاوننا وتضامننا وتناغمنا” وفق تعبيره، ودعا أردوغان إلى أن يتم “في أقرب وقت ممكن” إنشاء صندوق استثماري تركي يسهل تعزيز التعاون الاقتصادي بين هذه الدول، لكن أهم المخرجات التي انبثقت عن القمة التاسعة للمنظمة، تمثلت في إعلان الرئيس التركي عن موافقة الدول الأعضاء في المنظمة عن قبول جمهورية شمال قبرص التركية كعضو مراقب في المنظمة، وهي الخطوة التي أعلن الاتحاد الأوروبي عن رفضها ([2])، مندداً بما وصفه بـ “أي عمل يهدف إلى تسهيل الاعتراف الدولي بالكيان القبرصي التركي الانفصالي”، حيث قال بيتر ستانو المتحدث باسم مسؤول الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل في بيان، إن “هذا القرار الذي ينتظر تصديق أعضاء المنظمة، مؤسف ويتناقض مع حقيقة أن العديد من أعضاء المنظمة أعربوا عن دعمهم القوي لمبدأ وحدة الأراضي وميثاق الأمم المتحدة” وفق تعبيره.
وفي إطار التفاعلات التي شهدتها القمة أكد رئيس كازاخستان قاسم جومارت توكايف أن البلاد مهتمة بتعزيز التعاون بين “الدول التركية” والارتقاء به إلى مستوى جديد، وأضاف “توكايف”: “كازاخستان هي أرض آباء العالم التركي، لذلك نولي أهمية خاصة لتطوير تعاوننا الشامل. نحن مهتمون بمزيد من تعزيز تعاوننا ونقله إلى مستوى جديد”، مشيراً إلى “ضرورة تعاون دول المنظمة في مواجهة جميع التحديات والتهديدات بشكل مشترك”، ومنوهاً إلى أن “التناقضات الجيوسياسية والجغرافية الاقتصادية الحالية لها تأثير سلبي على الاقتصاد ونظام النقل والخدمات اللوجستية في القارة الأوراسية” وفق تعبيره ([3]).
وبمتابعة المداخلات الرئيسية في هذه القمة يتضح أن قادة الدول الأعضاء ركزوا في رؤيتهم لطبيعة التقارب فيما بينهم خلال المرحلة المقبلة، على ضرورة تعزيز التعاون الاقتصادي، وهو ما يتجسد في إعلان أردوغان عن ضرورة “إنشاء صندوق استثماري تركي يسهل تعزيز التعاون الاقتصادي بين هذه الدول بأقرب وقت”، فضلاً عن إنشاء طرق وممرات برية ولوجستية تربط بين هذه الدول وبعضها البعض.
دوافع الاهتمام بمنظمة “الدول التركية”
حظيت الدول التي تدخل في إطار “الكومنولث التركي” خصوصاً في منطقة آسيا الوسطى باهتمام كبير من أنقرة خلال السنوات الماضية، وهو ما تجسد في حجم الزيارات الرسمية التي قام بها المسؤولين الأتراك وعلى رأسهم الرئيس رجب طيب أردوغان إلى هذه الدول في الآونة الأخيرة، فضلاً عن حجم التعاون على كافة المستويات بين هذه الدول وأنقرة، ويُمكن فهم هذا التوجه التركي في ضوء الاعتبارات التالية:
1- السعي لتشكيل “رابطة العالم التركي”: مثلت فكرة إقامة ما يُعرف بـ “رابطة العالم التركي” أو “الكومنولث التركي”، أحد الأهداف الرئيسية لحزب العدالة والتنمية منذ صعوده إلى سدة الحكم في تركيا، ويمثل هذا المسعى أحد الآليات الرئيسية في إطار المشروع الإمبراطوري والتوسعي الذي يتبناه حزب العدالة والتنمية، وفي هذا السياق يمثل المدخل المذهبي والعرقي أحد المداخل الرئيسية التي تُخدم على فكرة “العثمانية الجديدة” واستعادة “تركيا الكبرى” وفق تصور صانع القرار التركي.
2- تعزيز النفوذ الجيوسياسي لأنقرة: يرتبط الاعتماد التركي المتزايد على منظمة “الدول التركية”، بسعي أنقرة إلى تعزيز نفوذها الجيوسياسي في محيطها الإقليمي، ومنطقة القوقاز وآسيا الوسطى على وجه الخصوص، خصوصاً في ضوء تصاعد المؤشرات على بدء تشكل مشهد عالمي جديد، تسعى فيه القوى المتوسطة وعلى رأسها تركيا إلى توظيف كافة أدواتها الدبلوماسية والأمنية والاقتصادية بما يُخدم على تعزيز نفوذها الجيوسياسي في المشهد العالمي، وفي هذا السياق يُعد نفوذ أنقرة في المحيط الإقليمي مُحدداً رئيسياً حاكماً لموقعها في النظام العالمي.
3- المكاسب الاقتصادية: يقع العامل الاقتصادي على رأس المحددات الحاكمة للمساعي التركية لتعزيز التعاون مع الدول الأعضاء في منظمة “الدول التركية”، خصوصاً في ضوء الأزمات البنيوية العميقة التي يعاني منها الاقتصاد الوطني التركي في السنوات الأخيرة، إذ تمثل هذه الدول سوقاً مهماً بالنسبة لتركيا، حيث يعيش في دول المجلس التركي أكثر من 300 مليون نسمة، ويبلغ حجم التجارة المتبادلة بين هذه الدول نحو 7 مليارات دولار ([4])، وتسعى أنقرة في هذا الصدد إلى زيادة حجم استثماراتها ومعاملاتها التجارية مع الدول الأعضاء في المنظمة.
4- توسيع الخيارات الدولية لأنقرة: يأتي الاهتمام التركي بمنظمة “الدول التركية”، في ظل سياق يغلب عليه التوتر في علاقات أنقرة ببعض التكتلات الدولية الأخرى، خصوصاً حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، الذي فشلت تركيا في الانضمام إليه منذ العام 1963، بمعنى أن أنقرة تنظر إلى هذا التكتل على أنه منظمة إقليمية بديلة لتحالفاتها التقليدية مع المحور الغربي، ولا يمكن الفصل بين هذا الاعتبار، ومساعي تركيا الأخيرة للانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون، حيث أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان في منتصف سبتمبر الماضي أن تركيا تسعى إلى الحصول على عضوية كاملة في منظمة شنغهاي.
5- استغلال الحرب الأوكرانية: أحد المقاربات التفسيرية التي يُمكن في ضوئها فهم هذا التوجه التركي، ترتبط بالسعي التركي لزيادة التحالف والتعاون بين دول المنظمة، استغلالاً للانشغال الروسي بالحرب الأوكرانية، وقد أكد الرئيس التركي هذا التوجه بشكل واضح في القمة، عندما أشار إلى أن الحرب في أوكرانيا تدفع باتجاه زيادة التعاون بين دول المنظمة، وقد حرصت تركيا على توظيف غضب بعض دول المنظمة من التدخل الذي قامت به منظمة معاهدة الأمن الجماعي بقيادة روسيا لإخماد الاضطرابات في كازاخستان، مطلع العام الماضي من أجل التخديم على تعزيز حضورها في المنطقة في مقابل تحجيم النفوذ الروسي، فضلاً عن أن الحرب الأوكرانية وما حملته من تداعيات خصوصاً على مستوى القيود وسياسة “العقوبات القصوى” تجاه روسيا، تدفع باتجاه تقويض نفوذ روسيا وعلاقاتها بدول المنظمة وتُضعف من دورها كقائد إقليمي، وتفتح الباب أمام أنقرة لتعزيز نفوذها الجيوسياسي.
ويعزز من منطقية هذه الفرضية النهج التركي العام في التعاطي مع الأزمة الأوكرانية، وهو النهج الذي قام بشكل رئيسي على تبني “دبلوماسية الحياد” بما يعزز من المكانة الدولية لأنقرة، وكانت الوساطة التركية بين طرفي الأزمة الرئيسيين، أحد التجليات الرئيسية لهذا النهج.
المداخل التركية
تقوم المقاربة التركية الرامية لتعزيز العلاقات مع أعضاء منظمة “الدول التركية” على عدد من الأدوات الرئيسية، ومنها:
1- أدوات القوة الناعمة: يستند هذا النهج التركي بالأساس إلى بعد هوياتي وعرقي وثقافي، ومن هنا كانت القوة الناعمة أحد المداخل والأدوات الرئيسية التي تقوم عليها المقاربة التركية، حيث أسست أنقرة منظمة الأكاديمية والثقافة التركية الدولية بهذا الهدف، كذلك قامت رئاسة الشؤون الدينية التركية “ديانت”، ببناء العديد من المساجد، والمدارس الدينية في دول آسيا الوسطى، ومن أهمها مسجد بيشكيك المركزي، الذي تم تصميمه وفق نمط العمارة العثمانية، وهو أكبر مسجد في قيرغيزستان وآسيا الوسطى وتم افتتاحه في سبتمبر 2018، كذلك تتوسع “ديانت” في تنفيذ الأنشطة الخاصة بترسيخ اللغة والثقافة التركية لدى الدول الأعضاء في المنظمة، وليس من قبيل المبالغة القول بأن جهود المنظمات غير الحكومية التركية أصيحت من أهم أدوات النفوذ التركي في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز.
2- الأدوات الدبلوماسية: سعت أنقرة عبر تأسيس منظمة “الدول التركية”، وضخ كميات ضخمة من الأموال على المنظمة من أجل ضمان السيطرة عليها، إلى توظيف المنظمة كأحد المداخل الرئيسية لتعزيز التعاون مع دول المنطقة، وقد اعتمدت المنظمة التي تقودها أنقرة على “دبلوماسية القمم” حيث عقدت المنظمة حتى اللحظة 9 قمم ساهمت بشكل كبير في تقريب وجهات النظر بين الدول الأعضاء إزاء العديد من القضايا والملفات، وقد اقترن هذا النهج بتوسع المسؤولين الأتراك في تنفيذ زيارات ومباحثات رسمية مع نظرائهم من الدول الأعضاء في المنظمة.
3- الأداة الاقتصادية: بالإضافة لما سبق يمثل المدخل الاقتصادي أحد الأدوات الرئيسية التي تقوم عليها المقاربة التركية في المنطقة، حيث أشارت بعض التقارير إلى أن الاستثمارات التركية في آسيا الوسطى تتجاوز 85 مليار دولار، كما نفذت تركيا في السنوات الأخيرة العديد من المشاريع المهمة في المنطقة ومنها بناء ميناء دولي في مدينة عشق آباد، وترميم أبنية مدينة تركمنباشي، علاوةً على ذلك في عام 2020 استحوذت الشركة التركية ” tav Airports” على 100% من أسهم مطار “الماتا”، إحدى أكبر مدن كازاخستان، كذلك تسعى أنقرة إلى زيادة إمدادات النفط الكازاخستاني، عبر خط أنابيب باكو – تبليسي – جيهان، والغاز التركماني عبر أنابيب خط الغاز العابر من الأناضول، وهو جزء من مشروع “ممر الغاز الجنوبي” ([5]).
4- الأدوات الأمنية والعسكرية: حظيت القضايا الأمنية والعسكرية بموقع مهم في العلاقات التركية بدول المنظمة والمنطقة، وبدأ الاعتماد التركي المتنامي على الأداة الأمنية في 2013 مع الإعلان عن تأسيس “منظمة القوات المسلحة الأوراسية للأمن”، والتي ضمت تركيا، وأذربيجان، وقيرغيزستان، ومنغوليا، وفي أكتوبر 2020 دعت وسائل إعلام تركية إلى إنشاء “جيش طوران الموحد” ([6])، وجاءت هذه الدعوات بالتزامن مع زيارة وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، كازاخستان وأوزبكستان، وفي هذا السياق كان الدور العسكري التركي محدداً رئيسياً للانتصار الأذربيجاني على أرمينيا في 2020، في الحرب التي اندلعت على إقليم ناغورنوكارباخ، وفي ذات السياق اشترت قرغيزستان طائرات “بيرقدار تي بي 2” التركية العام الماضي، كما أشارت طاجيكستان إلى حرصها على شراء الطائرات المسيرة التركية، وهي اعتبارات تعبر عن الموقع المتقدم للأدوات الأمنية والعسكرية في المقاربة التركية إزاء دول المنطقة.
ختاما؛ يمكن القول إن التوجه التركي نحو إحياء منظمة “الدول التركية” وتعزيز العلاقات مع هذه الدول ارتبط بشكل رئيسي بالمشروع التوسعي الذي يتبناه حزب العدالة والتنمية، وقد اعتمدت تركيا في إطار هذه المقاربة على عدد من المداخل الثقافية والعرقية والاقتصادية والسياسية والأمنية، بما يضمن تعزيز نفوذ تركيا في منطقة آسيا الوسطى، وكذا موقعها في النظام العالمي ككل.
[1] أردوغان يدعو إلى تعزيز التعاون بين الأمم التركية، صحيفة الخليج، 11 نوفمبر 2022، متاح على:
[2] الاتحاد الأوروبي “يرفض” إعلان اردوغان انضمام “جمهورية شمال قبرص” إلى منظمة تركية كعضو مراقب، يورونيوز، 12 نوفمبر 2022، متاح على:
[3] “انعقاد القمة التاسعة لزعماء دول “منظمة الدول التركية”، صحيفة زمان التركية، 11 نوفمبر 2022، متاح على:
[4] المجلس التركي يتحول إلى “منظمة الدول التركية”.. ما أهميتها وأهدافها؟، الجزيرة نت، 15 نوفمبر 2021، متاح على:
[5] سليمان إلياس، السياسة التركية في آسيا الوسطى، مركز الفرات للدراسات، 13 فبراير 2022، متاح على:
[6] جيش طوران مجرد ستارة للعبة كبيرة في القوقاز، روسيا اليوم، 13 نوفمبر 2020، متاح على: