تشهد سوق العقارات المصرية حاليًّا حالة من الهدوء النسبي والترقب، بعدما مرت بحالة من الإقبال على الشراء غير المسبوق حتى عام 2017. وعلى الرغم من زيادة أعداد السكان، وارتفاع عدد عقود الزواج سنويًّا؛ إلا أن هناك تباطؤًا نسبيًّا في المبيعات وعمليات إعادة البيع. وقد شهدت الفترة السابقة العديد من القرارات والأحداث التي من شأنها التأثير على أوضاع العقارات في مصر؛ بعضها داخلي (مثل: قرارات الإصلاح الاقتصادي، وتحرير أسعار الصرف، وما تبعها من ارتفاع للأسعار، وانخفاض القوى الشرائية)، وبعضها الآخر خارجي (مثل: حالة الركود التي طالت قطاع العقارات في عدة دول عربية وأجنبية، كالمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا).
ولسوق العقارات تأثير كبير على الحياة الاقتصادية والاجتماعية على حد سواء، فعلى الرغم من أن الهدف الرئيسي لقطاع العقارات هو توفير وحدات سكنية للمواطنين؛ إلا أنه -في الوقت ذاته- يمثل أحد أهم القنوات التي تتجه إليها الاستثمارات المحلية والأجنبية. وترتبط الاستثمارات العقارية بشكل مباشر وغير مباشر بعدد كبير من الأنشطة الاقتصادية والقطاعات الأخرى بروابط أمامية وخلفية؛ لذا فإن ما يشهده الاستثمار العقاري من تقلبات تؤثر على سائر القطاعات الأخرى، ومن ثم تؤثر على الاقتصاد الكلي.
في هذا السياق، يتناول هذا المقال ملامح سوق العقارات المصرية، وآليات تمويل العقارات، كما يُلقي الضوء على مستقبل سوق العقارات في مصر بهدف إزالة الغموض المصاحب دائمًا للحديث عن هذا القطاع.
أولًا- الملامح العامة لسوق العقارات المصرية
يتسم قطاع العقارات بشكل عام بعدد من السمات التي تُميزه عن غيره من القطاعات؛ إذ يتطلب الاستثمار العقاري أموالًا ضخمة من الاستثمارات طويلة الأجل لتمويل كلٍّ من المستثمر والمشتري، لذا فإن مدى توفر ذلك التمويل يعتمد على درجة تطور ونمو القطاع المالي في الدولة، والذي يرتبط بدرجة تطور ونمو الاقتصاد بشكل عام. كما يتطلب الاستثمار العقاري أُصولًا ثابتة يستحيل نقلها من مكان لآخر لعلاج خلل أو لتحقيق ربحية أكبر. وتتميز الاستثمارات العقارية كذلك بأنها مخزن للقيمة، ومنخفضة المخاطر، ومرتفعة الأرباح الرأسمالية، ما يجعلها استثمارًا مضمونًا ذا عوائد تصاعدية.
ويُعتبر القطاع العقاري المصري من أنشط القطاعات العقارية بمنطقتي الشرق الأوسط وإفريقيا؛ إذ تتميز السوق العقارية المصرية بالطلب المُتزايد نظرًا لتزايد أعداد السكان، وارتفاع معدلات النمو السكاني، وتزايد عقود الزواج السنوية التي ارتفعت من 77.4 ألف عقد زواج في أكتوبر 2017، إلى 81.4 ألف عقد في أكتوبر 2018 وفقًا للبيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. وقد شهدت السوق العقارية بمصر تقلبات عدة، خاصة خلال السنوات الأخيرة؛ ويُمكن توضيح ذلك من خلال تحليل جانِبَيِ العرض والطلب على العقارات. أما بالنسبة لجانب العرض، فقد شهد عام 2017 طفرة عقارية مع الإعلان عن تنفيذ عدد ضخم من المشروعات، ودخول شركات جديدة إلى الأسواق، بالإضافة إلى الطفرة العُمرانية الكبرى من خلال الدور الحكومي في بناء المُدن الجديدة، بدءًا من العاصمة الإدارية الجديدة ومدينة العلمين الجديدة وهضبة الجلالة ومدن الصعيد الجديد وغيرها. وقد ارتفع الناتج المحلي الإجمالي (بالأسعار الجارية) لقطاع التشييد والبناء من 82.475 مليون جنيه عام 2012/2013 إلى 256.416 مليون جنيه في عام 2017/2018. كما ارتفع إجمالي الاستثمارات في قطاع التشييد والبناء من 1544 مليون جنيه خلال الفترة يوليو-ديسمبر عام 2012/2013 إلى 7833 مليون جنيه خلال الفترة ذاتها من عام 2017/2018. كما بلغت استثمارات قطاع الإسكان والأنشطة العقارية 18558 مليون جنيه خلال الفترة يوليو-ديسمبر عام 2012/2013، ثم ارتفعت إلى 50036 مليون جنيه خلال الفترة نفسها من عام 2017/2018.
أما فيما يتعلق بجانب الطلب، فقد شهدت السنوات السابقة حتى مطلع عام 2017 رواجًا ملحوظًا مدفوعًا بدوره كمخزن للقيمة. ومع زيادة الطلب ارتفعت الأسعار، مما وَلّد المزيد من الطلب لذات الهدف، وحقق بعض المضاربين أرباحًا ضخمة خلال سنوات قليلة، فتغلب دافع الشراء لإعادة البيع على دافع السكن والمأوى.
ومع اتخاذ الدولة المصرية قرارات الإصلاح الاقتصادي التي أثّرت بدورها على ارتفاع الأسعار وانخفاض القوى الشرائية للمواطنين؛ شهدت سوق العقار حالة من الترقب، خاصة في ظل خلل آليات عمل السوق فيما يُعرف بظاهرة “الركود التضخُمي”؛ من حيث زيادة المعروض، وزيادة الأسعار في الوقت نفسه، مما أدى إلى عزوف شريحة كبيرة من المستهلكين مُتوسطي الدخل عن الشراء، فترتب على ذلك الوضع وجود فجوة عقارية نوعية، بحيث ارتفع الطلب على وحدات الإسكان المتوسط، وزاد العرض من وحدات الإسكان الفاخر. وقد حاولت الحكومة إصلاح هذا الوضع من خلال التوسع في برامج الإسكان الاجتماعي.
وقد دفعت تلك الأوضاع بعض المُحللين إلى التخوف من تعرُض القطاع لهزة قوية، في ظل الانخفاض النسبي للمبيعات، وزيادة عمليات إعادة البيع مع ضعف فرص تسييل الوحدات العقارية. وفي محاولة لإنعاش السوق جاءت مبادرة البنك المركزي للتمويل العقاري في عام 2014، وذلك بفائدة مُدعومة مُتناقصة لشريحتي محدودي الدخل بفائدة تتراوح بين 5% و7%، ومتوسطي الدخل بفائدة 8%، ثم تم إدراج شريحة فوق متوسطي الدخل بفائدة 10.5% لتوسيع دائرة المستفيدين، وتم تخصيص مبلغ 20 مليار جنيه تم الاستفادة منها بالكامل. وفي يناير 2019 تم إعلان البنك المركزي عن استمرار مبادرة التمويل العقاري لتمويل محدودي الدخل فقط.
ويعتمد الاستثمار العقاري في مصر بدرجة كبيرة على أموال المُطورين والمُشترين كمصدر رئيسي للتمويل، إذ إن حوالي 90% من شركات التطوير العقاري تعتمد على عوائد البيع في مشروعاتها أو التمويل الذاتي بين المطور والمشتري ولا تعتمد على التمويل البنكي، وهذا يجعل السوق بعيدة عن احتمال الفقاعة التي تنتج من ضخ أموال بنكية بقيم مبالغ فيها تصل أحيانًا إلى 90% من قيمة العقار، الأمر الذي لا ينطبق على السوق المصرية.
أما فيما يتعلق بقدرة المشترين على تمويل العقارات فهي تتحدد بعدد من العوامل، منها: مستويات الدخول، ومعدل الادخار، والمستوى العام للأسعار. وعلى الرغم من وجود طلب حقيقي لا يتناقص على العقارات؛ إلا أن التخوف يتأتى من مدى دقة تقدير قدرة العميل على الوفاء بالتزماته، وقدرته على تحمل أعباء إضافية خلال الوضع الاقتصادي الذي تشهده البلاد، الأمر الذي قد يدفع البعض إلى عرض وحداتهم للبيع لعدم قدرتهم على استكمال الأقساط، ويترتب على ذلك زيادة المعروض من الوحدات وانخفاض أسعارها. الأمر الذي يدفع المُستثمرين إلى إعادة النظر في استثماراتهم العقارية.
من جهة أخرى، فإن شركات التطوير العقاري، خاصة الشركات الصغيرة والمتوسطة، تواجه عددًا من التحديات، من أبرزها: ارتفاع تكلفة تنفيذ المشروعات بدءًا من ارتفاع أسعار الأراضي ومواد البناء، فضلًا عن تراجع القوى الشرائية للمواطنين، خاصة شرائح الإسكان المتوسط والأقل من متوسط، وكذلك دخول الحكومة ممثلة في وزارة الإسكان كمنافس قوي للشركات العقارية والقطاع الخاص، خاصة في ظل طرح الوزارة مشروعات الإسكان المتوسط والفاخر.
وقد حاولت شركات القطاع العقاري مواجهة هذه التحديات عبر زيادة الأسعار بنسب تراوحت بين 30% و40% سنويًّا من جهة، وطرح المزيد من التسهيلات والتيسيرات في السداد للتغلب على تراجع القدرة الشرائية للمواطنين بسبب ارتفاع الأسعار من جهة اخرى، فضلًا عن توفير وحدات سكنية أقل حجمًا من أجل تخفيف تأثير زيادة الأسعار على قدرة المُستهلك على تحمل التكاليف.
ثانيًا- مستقبل سوق العقارات في مصر
على الرغم من وجود بعض المشكلات التي يواجهها قطاع العقارات في مصر، إلا أنه لا يزال من أهم القطاعات التي ينظر إليها المستثمرون بكثيرٍ من الأمل والإيجابية؛ إذ يُلاحظ غالبًا أنه يُصاحب ارتفاع أسعار العقارات إقبال الكثيرين على الشراء خوفًا من أي زيادات جديدة في المُستقبل، ووجود توقع دائم بأن السوق ستواصل نموها. وهناك عدة مؤشرات تشير إلى تحسن فرص الاستثمار العقاري خلال الفترة القادمة، من أهمها:
– اتجاه معدلات التضخم للانخفاض؛ والتي وصلت إلى أدنى مستوى لها منذ ما يقرب من أربع سنوات، فضلًا عن تراجع أسعار الفائدة، وهي تطورات من شأنها تعزيز الاستثمارات، وزيادة فُرص رواج مبيعات السوق العقارية.
– انتهاء أجل شهادات ادخار قناة السويس الجديدة، وضخ 64 مليار جنيه بعد استثمارها بفائدة تصل إلى 15.5%، بما يسهم في توفير سيولة حقيقية يتنافس عليها القطاع البنكي وقطاع العقارات. ومن المتوقع استحواذ قطاع العقارات على جزء مهم من تلك الأموال. وقد بدأ بالفعل عدد من الشركات العقارية في تقديم عروض على الوحدات العقارية بتخفيض نسب الدفعة المقدمة، ومد فترة التقسيط لتحفيز المواطنين على الشراء.
– استقرار المناخ السياسي وتحسُّن مؤشرات أداء الاقتصاد المصري، إذ وصل معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي إلى 5.7% خلال الربع الثاني من عام 2019، وهو أعلى معدل له منذ عام 2007/2008. وتشير هذه الأوضاع إلى زيادة فُرص تصدير العقار، خاصة في ظل المبادرة الحكومية لتفعيل وتنشيط الترويج للعقارات المصرية بالخارج، سواء بالدول العربية أو الأجنبية. ومع توفر منتجات عقارية تلبي احتياجات العملاء الأجانب في عدد من المدن المصرية، فمن المتوقع نجاح تلك المُبادرة وتحقيق إيرادات مُرتفعة.
من جهة أخرى، هناك عدد من الأهداف المطلوب تحقيقها لتنشيط السوق العقارية وتحقيق توازنها، من أهمها تحقيق التوازن النوعي بين الطلب على الوحدات العقارية والمعروض من هذه الوحدات، وذلك من خلال الدراسة الدقيقة لمتطلبات المواطنين، وتقديم الدولة حوافز وتيسيرات لشركات الاستثمارات العقارية الخاصة التي تُلبي تلك المتطلبات، فضلًا عن قيام الدولة بتوفير البنية الأساسية والمرافق اللازمة للمشروعات العقارية القائمة والجديدة.
أضف إلى ذلك أهمية تفعيل دور الحكومة، ممثلة في وزارة الإسكان، كرقيب ومنظم للسوق العقارية. ومع اتجاه الدولة لتفعيل آلية التمويل العقاري، فإنه يجب إعادة النظر في آلية تسجيل العقارات المتبعة في مصر؛ إذ يتطلب الحصول على التمويل تسجيل العقار كشرط أساسي، وفي مصر يتم تسجيل العقارات على أساس شخصي وليس على أساس عيني، ولذا يتم نقل ملكية العقارات من خلال عقود بيع ابتدائية فقط. فعلى الرغم من تخفيض رسوم تسجيل العقارات؛ إلا أن صعوبة الرجوع للمالك الأول للعقار يجعل من الصعوبة بمكان تسجيل العقار والاستفادة من منظومة التمويل العقاري.
إيجازًا لما سبق، يمكن القول إن حالة الترقب والجدل الدائم حول مستقبل سوق العقار إنما تأتي من أهمية هذا القطاع على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والاستثماري، ولا يزال القطاع العقاري من أهم القطاعات التي ينظر إليها المستثمرون بكثير من الأمل والإيجابية، ويسعى المطورون العقاريون دائمًا لاتخاذ خطوات جادة للتصحيح والتوجيه، وتقوم الحكومة بجهود واضحة لتحفيز السوق، في إطار الحرص الواضح من القطاع البنكي على تجنيب الاقتصاد والقطاع أية مخاطر محتملة.