يمر لبنان حاليًا بأزمة مالية واقتصادية حادة تعتبر الأسوأ منذ أزمة المجاعة التي عرفها الشعب خلال الحرب العالمية الأولى، حيث تلقى الاقتصاد عدة صدمات متتالية خلال العامين الماضيين لعل أبرزها انهيار قيمة العملة المحلية، وتآكل الاحتياطي النقدي وما ترتب على ذلك من تراجع القدرة على الاستيراد أو سداد خدمة الدين العام، وذلك بالتزامن مع العجز عن تشكيل حكومة مستقرة، وعدم التوصل إلى تسوية مع صندوق النقد الدولي. ليلقي كل ما سبق بظلاله على المواطن الذي يعاني من الفقر وتراجع القوة الشرائية.
مظاهر وأسباب الأزمة
يُنظر إلى الأزمة الاقتصادية اللبنانية كإحدى الأزمات المُعقدة على مدار التاريخ؛ إذ تضافرت العديد من الأسباب والعوامل الاقتصادية والسياسية لتصب مزيدًا من الوقود على نيران الأزمة، كما أنها لا تعتبر وليدة العامين الماضيين فقط، بل تعود إلى انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية في التسعينيات، حيث اعتمدت الحكومة حينها على الديون ورؤوس الأموال الخارجية، مثل تحويلات العاملين بالخارج والاستثمار الأجنبي المباشر لتمويل عملية إعادة الأعمار، والتي تعتبر جميعها مصادر مذبذبة معرضة للتغير بشكل سريع.
وقد بقي بالفعل الأمر على هذه الحال حتى عام 2011 مع اندلاع ثورات الربيع العربي والأزمة السورية، مما أسفر عن توقف كلٍ من الصادرات والسياحة الخليجية إلى لبنان، فضلًا عن تراجع تدفق رؤوس الأموال للاستثمار للبلاد وتحويلات المواطنين اللبنانيين العاملين في الخليج.
وعلاوة على ذلك، ساهمت العديد من الأحداث خلال 2020 في تفاقم الأزمة اللبنانية، ومن أهمها؛ أولًا: تخلف الحكومة عن سداد السندات الأجنبية المستحقة في التاسع من مارس 2020 البالغة قيمتها 1.2 مليار دولار، مما جعلها عاجزة عن الحصول على المزيد من القروض أو طرح سندات جديدة في الأسواق الدولية، ثانيًا: إجراءات الإغلاق الناجمة عن فيروس كورونا، ثالثًا: حادث انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس 2020 الذي ترتب عليه خسائر اقتصادية تتراوح بين ثلاثة مليارات دولار إلى خمسة مليارات دولار نتيجة لتعطل الميناء عن العمل وتكلفة إصلاح الأضرار التي لحقت بالميناء، بحسب محافظ بيروت “مروان عبود”، وهو ما يمثل 9.36% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد البالغ 53.37 مليار دولار خلال 2019، رابعًا: انسحاب شركة “ألفاريز آند مارسال” المتخصصة في استشارات إعادة الهيكلة رسميًا من إجراءات التدقيق الجنائي لحسابات مصرف لبنان المركزي في أواخر نوفمبر 2020 بسبب عدم تلقيها المعلومات اللازمة لإتمام المهمة، وعدم تمكنها من الحصول على المستندات المطلوبة لتنفيذ مهمتها، ومع ذلك لا يزال مصرف لبنان المركزي يطلق وعوده بتقديم تسهيلات للشركة لمساعدتها على إتمام مهمتها.
ونستخلص مما سبق أن للأزمة اللبنانية بُعدين أساسيين، هما:
1- البعد الاقتصادي: يُمكن تلخيص أهم المؤشرات على انهيار الاقتصاد اللبناني على النحو الآتي:
الشكل (1): سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأمريكي (السوق السوداء)
Source: Lira rate.org, Dollar to LBP Exchange Rate Today.
بمجرد النظر إلى الرسم السابق يتبين مدى التدهور الحادث في قيمة الليرة اللبنانية (في السوق السوداء) خلال عام ونصف تقريبًا فقط؛ إذ بدأت العملة عام 2019 عند مستوى 1515 ليرة لكل دولار أمريكي، لتشهد تراجعًا متسارعًا في قيمتها وصولًا إلى يوم الثلاثاء الموافق السادس عشر من مارس الماضي والذي شهد تدهورًا قياسيًا جديدًا مع تسجيل سعر الصرف مستوى 15 ألف ليرة، وهو رقم لم يسجل في تاريخ النقد اللبناني. في حين لا يزال سعر الصرف الرسمي يساوي 1507 ليرة مقابل الدولار. أما عن تآكل الاحتياطي النقدي، فيُمكن عرضه على النحو الآتي:
الشكل (2): تطور الاحتياطي النقدي – شهريًا
المصدر: مصرف لبنان، مديرية اﻹﺣﺼﺎءات واﻷﲝﺎث اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ، النشرة الشهرية.
يتبين من الشكل السابق تراجع الاحتياطي النقدي بنحو 43.6% خلال عامين، حيث هبط من 31.93 مليار دولار خلال يناير 2019 مسجلًا أدنى مستوياته خلال الفترة محل الدراسة بحلول يناير 2021 عند 17.98 مليار دولار. ويُمكن إرجاع ذلك إلى تراجع مصادر النقد الأجنبي في البلاد، لا سيما تحويلات العاملين بالخارج والاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة. وبالنسبة لدولة مستدينة ومعتمدة على الواردات بشكل أساسي، يعتبر هذا التراجع بمثابة إنذار خطر بالنسبة للحكومة يشير إلى تقويض قدرتها على سداد مدفوعات وخدمة الدين العام. وفيما يلي رسم توضيحي للدين الخارجي في لبنان:
الشكل (3): تطور الدين الخارجي – شهريًا
المصدر: مصرف لبنان، مديرية اﻹﺣﺼﺎءات واﻷﲝﺎث اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ، النشرة الشهرية.
مما سبق، يُلاحظ أن الاتجاه العام للدين الخارجي في لبنان يميل إلى أن يكون موجبًا؛ إذ ارتفع بحوالي 6.5% من 33.64 مليار دولار خلال يناير 2019 إلى 35.84 مليار دولار بحلول نوفمبر 2020.
2- البعد السياسي: يشهد لبنان في الوقت الحالي أزمة على الصعيد السياسي تتمثل في عدم استقرار الحكومات لمدة تسمح بإجراء خطة تنمية اقتصادية، حيث استقالت حكومة “حسن دياب” على خلفية حادث مرفأ بيروت بعد تكليفها بأقل من عام ليعود رئيس الوزراء السابق له “سعد الحريري” من جديد، ليفشل في تشكيل الحكومة حتى الآن إثر خلاف مع رئيس البلاد “ميشيل عون” يتمثل في إصرار الأخير على تشكيل حكومة سياسية (طائفية) تُمكن حلفاءه من أغلبية مُعطلة “عملًا بنص المادة 95 من الدستور”، في حين يتمسك “الحريري” بتشكيل حكومة “تكنوقراط”. ولهذا تبادل الطرفان خلال الأشهر الماضية الاتهامات بالعرقلة ووضع شروط مضادة.
ومن شأن الصراع المحموم بين القوى السياسية الكبرى الذي اعتاد اللبنانيون أن يتكرر أمامهم مع كل مساعٍ لتشكيل حكومة في البلاد، أن يفاقم الانهيار الاقتصادي المستمر منذ عام ونصف، والذي أدى إلى تدهور قياسي في قيمة العملة المحلية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة.
تداعيات الأزمة
ترتيبًا على ما سبق يعيش لبنان انهيارًا غير مسبوق على كافة المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يظهر في الأوضاع الآتية:
1- تأزم الوضع الاقتصادي الداخلي:
ساهم انهيار العملة الوطنية في ارتفاع معدل التضخم بشكل مفرط خلال 2020 مسجلًا أعلى مستوياته منذ عام 2013 عند 84.9% مقارنة مع 2.9% المسجلة في 2019؛ إذ قفز مؤشر أسعار المستهلكين كما يتبين من الشكل الآتي:
الشكل (4): مؤشر أسعار المستهلكين – شهريًا
المصدر: إدارة الإحصاء المركزي، بيانات عن التضخم.
يتبين من الشكل (4) ارتفاع مؤشر أسعار المستهلكين بنحو 164.8% خلال الفترة محل الدراسة من 107.23 نقطة في يناير 2019 وصولًا إلى 284.04 نقطة بحلول نهاية عام 2020، ومقارنة مع 115.54 نقطة في ديسمبر 2019، مما يمثل ارتفاعًا بنحو 145.8% على أساس سنوي. وترجع تلك الزيادة بالأساس إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية كما يلي:
الشكل (5): مؤشر أسعار المواد الغذائية والمشروبات غير الروحية – شهريًا
المصدر: إدارة الإحصاء المركزي، بيانات عن التضخم.
يتبين من الشكل ارتفاع أسعار المواد الغذائية والمشروبات غير الكحولية بحوالي 402.3% على أساس سنوي عند 613.09 نقطة خلال ديسمبر من العام الماضي مقابل 122.07 نقطة في نفس الشهر من 2019. كما أظهرت البيانات الرسمية ارتفاع أسعار خدمات المطاعم والفنادق بنسبة 609% خلال ديسمبر 2020، وسجلت أسعار المفروشات والمعدات المنزلية والصيانة الروتينية مستويات قياسية بعد ارتفاعها حوالي 655.1%.
ولن تتوقف أزمة الأمن الغذائي في لبنان عند ارتفاع الأسعار فحسب، وإنما ستشمل تراجع قدرة الاحتياطي النقدي على تأمين الاستيراد، ولا سيما في ظل اعتماد البلاد على الواردات في تأمين 85% من احتياجاتها الغذائية.
كما سيساهم انهيار العملة في تضاعف نسبة الفقراء التي وصلت بالفعل إلى 55% من إجمالي السكان خلال 2020 ارتفاعًا من 28% في 2019، فضلًا عن ارتفاع نسبة الذين يعانون من الفقر المدقع بنحو ثلاثة أضعاف من 8% إلى 23% خلال الفترة نفسها، حيث تجاوز العدد الإجمالي للفقراء 2.7 مليون شخص، مما يعني تآكل الطبقة الوسطى، كما تقلصت فئة الميسورين إلى ثلث حجمها، من 15% في 2019 إلى 5% خلال 2020، وفقًا لدراسة صادرة عن لجنة الأمم المتحدة الاجتماعية والاقتصادية لغربي آسيا (إسكوا).
ومع زيادة معدلات الفقر وتراجع متوسط الأجور وارتفاع معدلات البطالة، من المتوقع أن يرتفع مستوى الجوع في البلاد، وبحسب استطلاع للرأي أجراه برنامج الأغذية العالمي والبنك الدولي نهاية العام 2020، أقدمت 35% من الأسر المستجوبة على خفض عدد وجباتها اليومية. ومن ناحية أخرى، أعلن اتحاد نقابات الأفران والمخابز أن التقلب الحاد في سعر الصرف قد يدفع بالأفران إلى التوقف القسري عن العمل ومن ثم عدم توفير الخبز للمواطنين.
وقد صب كل ما سبق في تسجيل الاقتصاد اللبناني انكماشًا غير مسبوق خلال عقد زمني يصل إلى 19.2% خلال 2020، وفقًا لتوقعات البنك الدولي الصادرة في ديسمبر الماضي، كما يتبين من الرسم التالي:
الشكل (6): معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي
Source: World Bank, Lebanon Economic Monitor.
2- اضطرابات اجتماعية:
خرج الآلاف من المواطنين في احتجاجات منذ أكتوبر 2019 متهمين المسئولين بالفساد وسوء إدارة الاقتصاد، ومطالبين بتطبيق إجراءات إصلاحية اقتصادية تخفف من حدة المشكلات التي يعاني منها الشعب. ولهذا قدم رئيس الوزراء اللبناني “سعد الحريري” استقالته، في التاسع والعشرين من أكتوبر، أي بعد حوالي أسبوعين من بدء المظاهرات. كما اشتعلت الاحتجاجات اللبنانية مرة أخرى خلال 2020 بسبب تداعيات فيروس كورونا على معيشة المواطن.
وتجددت تلك الاضطرابات في منتصف مارس 2021 وأقفل محتجون عددًا من الطرقات في شرق لبنان وشماله وجنوبه وفي العاصمة بيروت، ونفذ عدد من المحتجين اعتصامًا أمام مصرف لبنان في الحمرا ببيروت منددين بالسياسات المالية.
3- خلاف مع صندوق النقد الدولي:
أسفرت جميع المشكلات الهيكلية السابقة عن ضعف ثقة المؤسسات الدولية في لبنان وفي قدرته على سداد الديون، لذا، أعربت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي “كريستالينا غورغييفا” مؤخرًا عن استعداد الصندوق لمضاعفة جهوده لمساعدة الاقتصاد اللبناني في حالة تشكيل حكومة مستقرة وتنفيذ بعض الإصلاحات الهامة، مثل استعادة الملاءة المالية وسلامة النظام المالي، ووضع ضمانات مؤقتة لتجنب استمرار تدفقات رأس المال إلى الخارج، مع وضع شبكة أمان اجتماعي موسعة لحماية الأشخاص الأكثر ضعفًا.
وخلاصة ما سبق أن الاقتصاد اللبناني يُمر بأزمة طاحنة متشابكة الأسباب والأطراف يترتب عليها إلقاء المزيد من المعاناة على كاهل المواطن، مما يستلزم تشكيل حكومة على وجه السرعة، ووضع خطة هيكلية لمعالجة جذور الأزمة كتعويم العملة أو الاتفاق مع المؤسسات الدولية لتأمين بعض المنح والمساعدات.