بات من المؤكد الآن أن جائحة فيروس كورونا ستصيب الاقتصاد العالمي بركود شديد. ووفقًا للعديد من المؤسسات الدولية، فإن تأثير هذا الفيروس على الاقتصادات النامية سيكون أشد قوة، حيث تتميز هذه الاقتصادات بضعف هياكلها الاقتصادية والمؤسسية. وسيؤدي انتشار الفيروس إلى إضعاف الاقتصاد الكلي الهش بالفعل. إحدى أكبر مشاكل هذه الاقتصادات -مثل الاقتصاد المصري- هي كبر حجم القطاع غير الرسمي. فبناء على دراسة أجراها المركز المصري للدراسات الاقتصادية، يستوعب القطاع غير الرسمي في مصر 63٪ من إجمالي العمالة في جميع القطاعات، وهو مسئول عن 30-40٪ من الناتج المحلي الإجمالي. كما تمثل الشركات غير الرسمية حوالي 90٪ من جميع المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر في مصر. ويلعب القطاع غير الرسمي المصري دورًا مهمًّا في توفير مصدر للدخل في الأوقات التي يتراجع فيها نشاط القطاع الرسمي، وبذلك يساهم في تقليل نسب البطالة ومعدل الفقر على الرغم من تقاضي العمال في هذا القطاع أجورًا أقل من تلك التي يتقاضاها العاملون في القطاع الرسمي العام والخاص مقابل العمل نفسه.
ويشمل الاقتصاد غير الرسمي جميع الشركات غير المسجلة وغير المنظمة التي لا تشملها منظومة الضرائب ولا تدخل ضمن حسابات الناتج القومي للدولة. ويشمل القطاع غير الرسمي المؤسسات غير الرسمية والعمالة غير الرسمية والأنشطة غير الرسمية. وينضم البعض إلى هذا القطاع طواعية، بينما لا يملك البعض خيارًا آخر. فالتواجد في القطاع غير الرسمي هو غالبًا القرار الأمثل بالنظر إلى تفضيلات العمال، والقيود التي يواجهونها من حيث مستوى رأس المال البشري، ومستوى إنتاجية العمال في القطاع الرسمي.
يناقش هذا المقال أولًا تأثير فيروس كورونا على القطاع غير الرسمي، ومن ثم على معدل الفقر، وأخيرًا الدروس المستفادة من هذه الأزمة.
أولًا: تأثير كورونا على القطاع غير الرسمي
يجب أن تكون معدلات النمو الاقتصادي مرتفعة بما يكفي لاستيعاب الزيادة الدورية في القوة العاملة. لذلك، فالحجة الرئيسية لوجود أو توسع القطاع غير الرسمي هي أنه في فترات الركود أو تباطؤ النشاط لا يكفي عدد الوظائف المعروضة في القطاع الرسمي هذه الزيادة الدورية. بل أيضًا في أوقات الركود لكي تخفض الشركات تكاليفها، فإنها تقوم بتخفيض أعداد عمالها مما يضطرهم إلى اللجوء إلى القطاع غير الرسمي (القطاع ذو النشاط كثيف العمالة) كبديل للحفاظ على مصدر للدخل. لكن تأثير أزمة كورونا على الاقتصاد غير الرسمي يختلف عن تأثير الأزمات الاقتصادية السابقة على هذا القطاع. فقد أثرت أزمة كورونا على القطاع غير الرسمي مثلما أثرت على القطاع الرسمي. وبدلًا من انخفاض العمالة في القطاع الرسمي فقط، واستيعاب هذه العمالة في القطاع غير الرسمي أثناء الأزمات، فقد انخفضت العمالة في القطاع غير الرسمي أيضًا. ذلك أن الإجراءات الاحترازية التي اتّخذتها الدولة (والمتمثلة في: حظر التجوال، ووقف العديد من الأنشطة بشكل كامل) أدت -أولًا- إلى انخفاض الطلب على المنتجات والخدمات التي يقدمها العاملون في القطاع غير الرسمي مما ترتب عليه لجوء القطاع إلى تخفيض العمالة لتخفيض التكاليف. كما أدت -ثانيًا- إلى عدم قدرة العمالة غير المنتظمة في القطاع غير الرسمي على تقديم خدماتهم أو توفير منتجاتهم. وأدّت -ثالثًا- إلى تضرر الشركات الرسمية من الأزمة، مما أدى إلى تراجع طلبها على خدمات العاملين بالقطاع غير الرسمي الذي كانت الشركات الرسمية تلجأ له لتكلفته المنخفضة نسبيًّا عن القطاع الرسمي لزيادة تنافسيتها، مثل قطاع نقل البضائع. وأخيرًا، وبسبب توقف سلاسل التوريد عالميًّا والتي تشكل نسبة كبيرة من المواد المستخدمة من قبل الأعمال غير الرسمية، فقد فقدت هذه الأعمال قدرتها على تقديم منتجاتها.
وتُشير توقعات البنك الدولي إلى أن معدل النمو المحلي الإجمالي الحقيقي بأسعار السوق الثابتة سينخفض إلى 3.6% مقارنة بحوالي 5.1% في 2019. لكن القطاع الأكثر تضررًا هو قطاع الخدمات الذي من المتوقع أن يكون معدل نموه 1.7% فقط في 2020 و1.2% في 2021 إلى أن يتعافى في 2022، وذلك بسبب وقف الكثير من الخدمات، وعدم قدرة القطاع على تعويض الخسائر بعد نهاية الأزمة. وبناء على دراسة أجراها المركز المصري للدراسات الاقتصادية، يعمل 30.6% من إجمالي العمالة غير الرسمية في قطاع الخدمات. وعلى الرغم من أن نشاطات القطاع غير الرسمي لا تدخل ضمن الناتج القومي؛ إلا أنه في هذه الأزمة ستكون الآثار السلبية على القطاع الرسمي وغير الرسمي، مما يدل على أن التأثير على الاقتصاد المصري سيكون أشد. ومن المتوقع أن يكون تأثير الأزمة على النمو قويًّا، وخاصة على نمو القطاعات التي لم يظهر تأثير كبير عليها بسبب جائحة كورونا في الربع الأول من عام 2020، حيث إن هذه التوقعات مبنية على بيانات حتى 2 أبريل، في حين أن شهر أبريل كان الأسوأ.
توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لمصر

Source: World Bank, Poverty & Equity and Macroeconomics, Trade & Investment Global Practices.
ثانيًا: تأثير كورونا على معدل الفقر
تُعد العمالة غير الرسمية أكثر الفئات المعرّضة للإصابة ونقل الفيروس بسبب عدم تمتع نسبة كبيرة بالتأمينات الاجتماعية والتأمينات الصحية، وعدم توافر إجازات مدفوعة الأجر مما يضطرهم للنزول إلى أماكن عملهم، والتي غالبًا لا تتوافر بها معايير السلامة والصحة المهنية. كما يصعب عليهم تطبيق قواعد التباعد الاجتماعي والحجر الصحي المنزلي بسبب سوء الظروف السكنية. وقد تتسبب تدابير الاحتواء المتخذة في جميع أنحاء البلاد في فقدان نحو 1.6 مليون شخص في القطاع غير الرسمي وظائفهم بحلول الربع الثالث من عام 2020 في ظل عدم وجود أي بدائل أخرى، وبهذا يكون القطاع غير الرسمي قد فقد ميزته الأساسية في توفير فرص عمل خاصة وقت الأزمات. ولأن غالبية العاملين في القطاع غير الرسمي هم عمالة منخفضة المهارة، فضلًا عن انخفاض المستوى التعليمي وانخفاض الأجر؛ فستؤدي الأزمة الحالية إلى ارتفاع معدل الفقر والذي حتى مع ارتفاع النمو الاقتصادي في الأعوام السابقة ظلت المخاوف بشأن رفاه الأسر قائمة. فقد ارتفع معدل الفقر -بناءً على خط الفقر الوطني- من 27.8% في عام 2015 إلى 32.5% في السنة المالية 2017/2018 (أو من 16% إلى 26.1% باستخدام خط الفقر الدولي للبنك الدولي الذي يبلغ 3.20 دولارات أمريكية للفرد في اليوم عند معادلة القوة الشرائية لعام 2011.
توقعات معدل الفقر في مصر

World Bank, Poverty & Equity and Macroeconomics, Trade & Investment Global Practices.
وكما يتضح من بيانات الجدول رقم (2)، فإن التوقعات لمعدل الفقر، وخصوصًا باستخدام خط الفقر الدولي للبنك الدولي الذي يبلغ 3.20 دولارات أمريكية للفرد في اليوم عند معادلة القوة الشرائية لعام 2011، سيرتفع بنسبة 0.3% في 2020، وذلك مع عدم الأخذ في الحسبان بيانات شهر أبريل. ووفقًا للمركز المصري للدراسات الاقتصادية، ستتسبب الأزمة الحالية في سقوط حوالي 12٪ من الناس من الفقر إلى الفقر المدقع ودفع 44.4٪ (12.9 مليون عامل) إلى ما دون خط الفقر. هذا أيضًا مع الأخذ في الحسبان فئات المجتمع التي تعتمد على القطاع غير الرسمي في توفير احتياجاتهم بسعر مناسب لدخلهم، وتوقف هذا القطاع سيؤدي إلى تراجع استهلاك هذه الفئات، وبهذا يكون القطاع غير الرسمي قد فقد ثاني أهم ميزة له.
ثالثًا: الدروس المستفادة من أزمة كورونا
كشفت الأزمة أن القطاع غير الرسمي جزء لا يتجزأ من الاقتصاد، وأنّ له دورًا فعالًا أثناء الأزمات. وأدت الأزمة إلى معاناة العاملين بالاقتصاد غير الرسمي لعدم وجودهم تحت مظلة منظومة رسمية للدولة، مما أفقدهم العديد من الامتيازات التي منحتها الحكومة للقطاع الرسمي.
أيضًا أظهرت الأزمة عدم وجود قواعد بيانات دقيقة عن العمالة غير الرسمية في مصر يمكن من خلالها مساعدتهم حسب الظروف الاقتصادية والاجتماعية لكل فئة وتحديد نوع المساعدة المطلوبة. كما أنها كشفت عن عدم وجود شكل تنظيمي يجمع العمالة غير الرسمية، ويمنحهم القدرة على توصيل مطالبهم للحكومة، والتعامل معهم أثناء الأزمات. كما كشفت الأزمة عن محدودية دور المجتمع المدني وقيامه بدور فعال لهذه الفئات من العمالة غير الرسمية، خاصة بالأماكن ذات الظروف السكنية السيئة.