يُمثل المؤتمر السادس عشر الذي تعقده جبهة البوليساريو في ولاية الداخلة في الفترة الممتدة من 13 إلى 17 يناير 2023، نقطة تحول هامة في ضوء التفاعلات المستقبلية بين الجبهة والمغرب، خاصة في ظل التطورات التي شهدها ملف الصحراء الغربية من تطورات ميدانية عسكرية مغربية منذ الانسحاب من اتفاق وقف إطلاق النار الموقع بين الطرفين في ضوء أزمة الكركرات، وما بين التطورات الدبلوماسية الأخيرة على إثر الاعتراف الدبلوماسي من جانب بعض الأطراف الإقليمية والدولية بالطرح المغربي الخاص بمبادرة الحكم الذاتي تحت سيادة المغرب.
ولعل هذا المؤتمر يحمل في طياته رسائل تصعيدية تجاه السياسات المغربية تجاه القضية الصحراوية بعد حصولها على دعم دولي متزايد، وذلك وفقًا لما تضمنه شعار هذا المؤتمر، علاوة على رفض أي مسارات بديلة عن الاستقلال وتحرير الأراضي الصحراوية، ويأتي هذا المؤتمر لانتخاب أمين عام لجبهة البوليساريو بمناسبة مؤتمرها السادس عشر.
سياق ضاغط
– تحولات الموقف الميداني والسياسي: حيث يشهد ملف الصحراء الغربية تبدلات استراتيجية متراكمة منذ إعلان الإدارة الأمريكية (خلال فترة الرئيس دونالد ترامب) نهاية ديسمبر 2020 اعترافها بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية في مقابل إعادة استئناف العلاقات المغربية الإسرائيلية، وتلا ذلك اعترافات متعددة من جانب قوى إقليمية خليجية وأفريقية وأخرى أوروبية وفي مقدمتها إسبانيا التي أعلن رئيس وزرائها في الثامن من يونيو 2022 دعم مبادرة الحكم الذاتي التي تتبناها المملكة المغربية، في سابقة هي الأولى من نوعها بعدما كانت مدريد تؤيد القرارات الأممية الخاصة بذلك الملف والداعمة لحق تقرير المصير للشعب الصحراوي. ولعل مؤشرات اختلال التوازان الأخرى في هذا الملف تكمن في قيام قرابة 19 دولة بافتتاح ممثلية دبلوماسية لها في مدينة العيون، ويقابل ذلك تراجع للدول المعترفة بالجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية لنحو 28 دولة بعدما كانت 84 دولة، وهو ما يُعد تحولًا نوعيًا في خضم تلك الأزمة ساهم في إيجاد حالة من العزلة الدبلوماسية لجبهة “البوليساريو”، وخلق مسرحًا ضاغطًا في التحركات الرامية للانفصال وحق تقرير المصير.
– الشراكات والتوسعات العسكرية: من بين المتغيرات الأخرى تتمثل في تنويع قاعدة التسليح المغربية بعدما تمت إعادة استئناف العلاقات المغربية الإسرائيلية واكتساب صفقات من الطائرات دون طيار التي يتم استخدامها وتوظيفها في مواجهة التحركات الخاصة بأعضاء جبهة البوليساريو، خاصة في ظل توقيع اتفاقية دفاعية (24 نوفمبر 2021) بين المملكة المغربية وإسرائيل تتضمن مجالات الاستخبارات والتعاون الصناعي والتدريب العسكري وبموجب هذا الاتفاق سيتم اقتناء معدات أمنية إسرائيلية عالية التقنية، وهو ما يحقق تعزيز للقدرات العسكرية المغربية في مواجهة جبهة البوليساريو.
على الناحية الأخرى، فإن جبهة البوليساريو –وفي إطار التقارير المتباينة- قد حصلت على طائرات مسيرة من إيران والجزائر وباتت تنتهج تكتيك الحصار عبر البوابة الجزائرية وكذلك موريتانيا، وقد برز ذلك من خلال زيارة وزير الداخلية للجمهورية الصحراوية عضو البوليساريو “عمر منصور” إلى موريتانيا مطلع أكتوبر 2022 وإطلاق تصريحات تتعلق باستخدام وتوظيف الدرونز، ويتزامن ذلك مع قيامها بتعيين تسعة عشر قائدًا جديدًا في المؤسسة العسكرية لها ممن ينتمون إلى جناح الصقور الأكثر تشددًا بالجبهة أبرزهم “حمد الولي أعكيك” الذي تم تعيينه في منصب رئيس أركان جيش التحرير الشعبي الصحراوي وهو من الحرس القديم الذي شارك في الحرب المفتوحة تجاه المملكة المغربية على مدار ستة عشر عامًا.
– الإطاحة بالقرارات الأممية: أحد أبرز المتغيرات التي وقعت خلال الفترة الماضية وتحديدًا خلال الفترة اللاحقة للمؤتمر الخامس عشر للجبهة الذي انعقد قبيل جائحة كورونا (2019) والاجتماع الراهن، يتمثل فيما سببته أزمة الكركرات من تبدلات عسكرية وفتح خيارات المواجهة المسلحة المفتوحة بين الطرفين، وإعلان جبهة البوليساريو انسحابها من اتفاق وقف إطلاق النار الموقع مع المغرب عام 1991، وما تبعها من تصريحات من أمين عام الجبهة بأنه لن يكون هناك سلام ولا استقرار ولا حل عادل ودائم للصراع المغربي الصحراوي بدون تراجع المغرب عن التوسع في المنطقة وعدم إقرار حق تقرير المصير، يقابل ذلك تغلغل القوات المغربية لما بعد الجدار الرملي عقب العملية العسكرية التي قامت بها القوات الملكية لمعبر الكركرات.
– التصدعات البينية داخل جبهة البوليساريو: وهو الأمر الذي اتضحت معالمه من خلال استقالة ممثل البوليساريو في أوروبا “أبي بوشرابة” من منصبه على إثر ما وصفه بخلافات عميقة مع زعيم الجبهة إبراهيم غالي في الرابع عشر من ديسمبر 2022، فضلًا عن حالة الاضطرابات الداخلية وبروز توترات شعبية داخل المخيمات.
ولعل هذه المتغيرات تتراجع معها فرص تطبيق القرارات الأممية السابق إصدارها في هذا الشأن المتعلقة بإجراء استفتاء وإقرار حق تقرير المصير، ومن ثم فإن الحاجة المُلحة في تحركات جبهة البوليساريو هو العمل الميداني واستمرار الكفاح المسلح ضد المغرب وهو ما عبّر عنه غير مرة الأمين العام للجبهة علاوة على ما تضمنه الاجتماع السادس عشر المنعقد حاليًا.
أهداف ورسائل متباينة
– شرعنة التحركات وتماسك الجبهة: تستهدف جبهة البوليساريو من إعادة إحياء ملف الصحراء الغربية وكذلك الزخم المتعلق بها تكييفًا مع المتغيرات السياسية والميدانية بها وهو ما في حرص جبهة البوليساريو على تنوع التمثيل للوفود المشاركة في المؤتمر الذي شارك فيه 370 شخصًا من الوفود الأجنبية على مدينة تندوف الجزائرية.
– رفض المقاربات السياسية للأزمة: إحدى الرسائل التي تضمنها المؤتمر الراهن لجبهة البوليساريو هو رفض أي مقاربة تهدف لمصادرة حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره والاستقلال، مع تفعيل مبدأ الكفاح المسلح للدفاع عن حق هذا الشعب وسيادته على الأراضي الصحراوية بكافة الوسائل، وقد أكدت الأمانة الوطنية للجبهة على هذا الأمر في بيان صدر عنها قبيل انطلاق أشغال المؤتمر، بل وحثّت الأمانة الوطنية الاتحاد الإفريقي للإسراع في إنهاء حالة العدوان على أراضيها واتخاذ الإجراءات الضرورية حيالها، وذلك ضمانًا لحدود الجمهورية الصحراوية، وتحقيقًا للمقاومة المسلحة فقد تناولت بعض وسائل الإعلام عن توجه جزائري لتوظيف علاقتها مع روسيا استنادًا إلى شركة فاغنر الروسية في تعزيز جبهة البوليساريو لمواجهة المد المغربي في الصحراء وتعزيز قدراتها العسكرية لشن حرب استباقية ضد القوات المغربية وتقيم التدريب اللازم لعناصر الجبهة على استخدام طائرات الكاميكازي الإيرانية وكذلك الصواريخ الإيرانية التي حصلت عليها الجبهة مؤخرًا، وذلك في ضوء اللقاء الذي جمع بين رئيس أركان الجيش الجزائري “السعيد شنقريحة” وبين “لافغيني بريغوجين” أحد كوادر شركة فاغنر.
– التوظيف الداخلي وإعادة التماسك: إن حالة الزخم للمؤتمر الراهن تأتي في ضوء التوظيف الداخلي لقيادات جبهة البوليساريو في ضوء التصدعات المتباينة داخل الجبهة وحالة اليأس والإحباط لدى الشعب الصحراوي، خاصة وأن الجبهة لم تحقق تقدم يذكر منذ إعلان انسحابها من قرار وقف إطلاق النار، ولعل هذا المؤتمر يأتي في ضوء تطلعات قيادات الجبهة إلى تقوية المؤسسة العسكرية وإمدادها بالإمكانيات المادية والبشرية لمواجهة التحديات المختلفة، تحصينًا لها من تآكل وتراجع الثقة من جانب الشعب الصحراوي.
وفي التقدير، فإن هذا المؤتمر بمثابة إعادة الزخم لملف الصحراء الغربية واستعراض القدرات التنظيمية والحشد من جانب القيادات القائمة على الجبهة. وعلى الرغم من تصعيد حدة الخطاب نحو المغرب والتهديد باستخدام القوة العسكرية والكفاح المسلح التي كانت مسيطرة على أعمال المؤتمر السادس عشر، إلا أنه في واقع الأمر لن يخرج عن كونها مرحلة تعبوية للداخل الصحراوي، مع التأكيد على استمرارية فاعلين إقليميين ودوليين في دعم مبدأ حق تقرير المصير والاستفتاء للشعب الصحراوي.