تسببت الأزمات العالمية المتتالية من جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية وما خلفته من عواقب وخيمة على اقتصادات الدول من وصول معدلات التضخم لأرقام قياسية لم تحدث من قبل، وارتفاع أسعار الفائدة وتقوية الدولار أمام العملات المحلية، ومشارف ركود عالمي؛ إلى مواجهة 54 اقتصادًا ناميًا يعدون من أفقر اقتصادات العالم مشاكل ديون حادة دفعت بهم لتقديم التماس من الدول المانحة بشأن إمكانية إعادة هيكلة فعالة للديون وتخفيف أعبائها، وذلك للحد من أزمة الديون تلك، وللسيطرة على معدلات الفقر في تلك الدول، وانطلاقًا من الدور الهام الذي تلعبه أهم المؤسسات الدولية المانحة، صندوق النقد والبنك الدوليين، يتم انعقاد اجتماع “الربيع” لطرح القضايا الرئيسية الدولية على جدول الأعمال.
اجتماع “الربيع” لصندوق النقد والبنك الدوليين
تُعقد اجتماعات الربيع لعام 2023 لصندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي من الاثنين 10 أبريل إلى الأحد 16 أبريل بالولايات المتحدة، ومن خلاله تجتمع لجنة التنمية المشتركة بين مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي واللجنة المالية والنقدية الدولية التابعة لصندوق النقد الدولي، كما يشارك في الاجتماع محافظو البنوك المركزية ووزراء المالية والتنمية والمديرون التنفيذيون من القطاع الخاص، وممثلو منظمات المجتمع المدني والأكاديميون من أكثر من 180 دولة عضواً.
وتُقام عدة فعاليات يتم فيها تناول قضايا هامة مثل: سبل تحقيق التنمية الاقتصادية، وكيفية حل أزمة الديون، وتحقيق النمو، وآلية إعادة هيكلة الديون وإسقاطها، والانتعاش الاقتصادي، وفاعلية المعونات المقدمة، وسبل القضاء على الفقر، وتمويل الحد من تغير المناخ في أفريقيا جنوب الصحراء والشرق الأوسط، والتحديات والفرص أمام إطلاق اتفاقية منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية، وتداعيات السياسة النقدية الأمريكية على الشرق الأوسط وآسيا الوسط وغيرها.
وتشير التوقعات إلى أنه ستتركز مخرجات الاجتماع على طرح أجندة تمويل وبرنامج إصلاح بجدول زمني ملزم لعمل البنك الدولي، خاصة وأن الولايات المتحدة التي تعد أكبر مساهم في مجموعة البنك الدولي تدفع بقوة في هذا الاتجاه والذي سيساهم في توسيع نطاق اختصاص البنك ليشمل مكافحة تغير المناخ، ومعالجة الفقر، وتعزيز قدرة البنك الدولي على منح القروض وتعزيزها بقيمة 50 مليار دولار على مدى العقد المقبل ليتم منحها للدول الأكثر احتياجًا لترتفع بذلك نسبة الإقراض بـ20% عن مستوياتها سابقًا.
وبالرغم من قيام البنك الدولي في شهر مارس الماضي بالفعل بإصلاحات بتحديث قواعده لضمان أن التمويل الجديد المقدم الذي تمت الموافقة عليه اعتبارًا من 1 يوليو العام الجاري وتقديمه خطة تطوير لمناقشتها مع لجنة التنمية في اجتماع الربيع، إلا أنها كانت أقل من الطموحات، وحذر البنك الدولي في وقت سابق من انخفاض التوقعات بالنسبة لاقتصادات الدول النامية والفقيرة التي تعاني من تباطؤ النمو الاقتصادي مدفوعًا بأعباء الديون الثقيلة وضعف الاستثمار، وعلى إثر ذلك تشير التوقعات إلى أنه سيتم عرض آخر تطورات تقديم المساعدة المالية للدول الفقيرة المتضررة من تغير المناخ على إثر إنشاء صندوق الخسائر والأضرار الذي تم الاتفاق عليه في مؤتمر المناخ “كوب 27” المنعقد بشرم الشيخ في مصر.
وأكدت اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة على الحاجة الملحة لإصلاح الهيكل المالي الدولي لمساعدة دول قارة أفريقيا على معالجة تغير المناخ والفقر، وتقديم شروط إقراض أفضل لبدء “النمو المستدام”، خاصة وأن زيادة حجم الإقراض المنخفض التكلفة “يمكن أن يساعد بشكل كبير البلدان المتعثرة عن سداد القروض وخدمات ديونها، ولن يتحقق ذلك إلا بإدخال إصلاحات في البنك الدولي وبنوك التنمية متعددة الأطراف المتمثلة في البنك الأفريقي للتنمية والبنك الآسيوي للتنمية والبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، ومجموعة بنك التنمية للبلدان الأمريكية، إذ تضم تلك البنوك دولاً مانحة متقدمة ودولاً مقترضة نامية.
ومن ناحية أخرى، تُعقد آمال الدول النامية والفقيرة على صندوق النقد الدولي في الخروج من اجتماع “الربيع” بتقديم تسهيلات أوسع للدول المقترضة باعتباره أحد أهم الجهات الكبرى المقرضة للمساعدة على تجاوز أسوأ أزمة ديون تعرضت لها الدول النامية والفقيرة منذ عقود، ووضع خطة لإعادة هيكلة ديونها. ومنذ الوباء دعم صندوق النقد الدولي أكثر من 50 دولة منخفضة الدخل بحوالي 24 مليار دولار في شكل قروض بدون فوائد، ومع ذلك مؤخرًا اقترن تقديم القروض بشروط مؤلمة لتلك الدول تقوم على سياسات تقشفية لتواجه تلك الدول النامية أعباء ديون معوقة للنمو الاقتصادي بها من ناحية، ومن ناحية أخرى تواجه مطالب الصندوق بتطبيق سياسات التقشف وتخفيض الدعم دون النظر لاعتبارات أخرى تمر بها الدولة من توسع نطاق الفقر وارتفاع التضخم وغيرها من التحديات التي تواجه اقتصادات تلك الدول، وخلق حلقة مفرغة من الأزمات الاقتصادية المتعاقبة يستحيل الهروب منها.
وبشكل عام، تتطلب المرحلة الراهنة الخروج من اجتماع “الربيع” باتفاقيات مماثلة لتلك التي تم إطلاقها في الثمانينيات الصادرة عن وزارة الخزانة الأمريكية بإعادة جدولة ديون 23 اقتصادًا، وفي التسعينيات عندما سمحت اتفاقية البلدان الفقيرة المثقلة بالديون لـ 39 اقتصادًا بتخفيض أعباء ديونها (“تخفيض” 30% أو 40% من رصيد ديونها) لدى الدائنين الثنائيين.
توسع أزمة ديون الدول النامية ومساهمات الجهات الدائنة
تعرضت البلدان النامية بسبب جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية لأزمة تكلفة المعيشة، وارتفاع أسعار الفائدة، والتي ساهمت في هروب رأس المال وتراجع الاحتياطي الأجنبي وانخفاض قيمة العملة، فضلًا عن زيادة تكاليف الاقتراض، وقد دفعت هذه العوامل ببلدان مثل غانا وسريلانكا إلى ضائقة ديون وصعوبة سداد ديونهم المستدامة. وبحسب مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “أونكتاد” في عام 2021، دفعت البلدان النامية 400 مليار دولار خدمة ديون، أي أكثر من ضعف المبلغ الذي تلقته في شكل مساعدات، وفي الوقت نفسه انخفضت احتياطياتها الدولية بأكثر من 600 مليار دولار العام الماضي، أي ما يقرب من ثلاثة أضعاف ما تلقته في شكل دعم طارئ من صندوق النقد الدولي، وبالتالي تقلصت موارد الدول بسبب الديون الخارجية مع ارتفاع التضخم، وزيادة تواتر الكوارث الطبيعية وارتفاع أسعار واردات الغذاء والطاقة، وفي عام 2022 ارتفعت خدمة الديون بنسبة 35% في عام 2022 لأفقر دول العالم.
وفي عام 2022، شكلت خدمة الديون أكثر من 25% من الإيرادات الحكومية في ثمانية بلدان نامية، وبالنسبة لسريلانكا فقد وصلت خدمة الديون إلى ما يقرب من 80% من الإيرادات الحكومية، كما تتعرض دول مثل لبنان وأوكرانيا لمخاطر التخلف عن سداد الديون.
وفي أفريقيا، بلغ متوسط خدمة الديون الخارجية 10% من الإيرادات الحكومية في عام 2021، مقابل 3% في عام 2011، وعلاوة على ذلك فإن انتهاج سياسة نقدية تشددية يجعل من الصعب على العديد من البلدان النامية تجديد وإعادة هيكلة الديون، مما يزيد من مخاطر التخلف عن سداد الديون، وتواجه عدة دول أزمات ديون منها غانا التي سددت ما نسبته 40% من الإيرادات الحكومية على خدمات الدين العام الماضي. وفي 19 ديسمبر 2022 أعلنت غانا أنها ستعلق مدفوعاتها على جميع الديون الخارجية بمبلغ مستحق قدره 28.4 مليار دولار.
وللمساعدة على إدارة أزمة الديون تلك أطلقت الأمم المتحدة خطة تحفيز جديدة بقيمة 500 مليار دولار للتنمية المستدامة تقوم على ضخ السيولة وإعادة هيكلة الديون السيادية، وخفض تكلفة الإقراض طويل الأجل للاقتصادات النامية، وقامت الصين التي تعد من كبرى الدول الدائنة للدول النامية والناشئة بإعادة هيكلة ديون سريلانكا لتتمكن بذلك من الحصول على تمويل من صندوق النقد الدولي بقيمة 2.9 مليار دولار، وبلغت الديون التي تخلفت سريلانكا عن سدادها 46 مليار دولار منها 52 % ديون للصين، وهي خطوة غير مسبوقة بالنسبة لسياسة الصين التي تفضل إعطاء دين جديد بدلًا من إعادة هيكلة القروض كما فعلت مع باكستان المثقلة بالديون والمهددة بالتخلف عن سداد قروضها عندما قامت الصين بإقراضها 700 مليون دولار لمساعدتها على تجاوز أسوأ أزمة اقتصادية. أيضًا عملت الهند على صياغة اقتراح لكبار الدائنين، بما في ذلك الصين، لتخفيض وإعادة هيكلة الديون.
وبالرغم من ذلك فإن هناك حاجة أيضًا إلى دعم أقوى من المجتمع الدولي لحل أزمة الديون، وإيجاد آلية يتم من خلالها إنشاء هيئة تقوم على التسوية بين الدائنين والمدينين، كما تتطلب المرحلة تخصيص جهة قانونية دولية لإعادة هيكلة الديون السيادية، إذ لا يزال الإطار المشترك الذي وضعته مجموعة العشرين لمعالجة الديون هو الآلية الدولية الرئيسية لتخفيف عبء الديون المتاحة لأقل البلدان نموًا وغيرها من البلدان المنخفضة الدخل التي تواجه ضائقة الديون، ومع ذلك لم يرقَ هذا الإطار المشترك إلى مستوى التوقعات وحجم الأزمة الحالية التي يتعرض لها عدد كبير من البلدان النامية، وهناك توقعات إيجابية بأن يخلص اجتماع “الربيع” لصندوق النقد والبنك الدوليين بتوافقات يتم من خلالها مراعاة الدول النامية والأشد فقرًا، وإيجاد حلول تمويلية فعالة تساهم في التخفيف من حدة أزمة الديون التي تهدد بتعثر عدد من الدول عن سداد ديونها الخارجية.