يتم تنفيذ أربعة مفاعلات نووية في أكويو لتوليد كهرباء تسهم بنسبة 10% من الكهرباء التركية، أي أنها قادرة على تزويد مدينة كبيرة مثل إسطنبول بأكثر من 90% من احتياجاتها من الكهرباء، وبعد أن تم استلام الوقود النووي لأول مفاعل بأكويو فإنه وفقًا للجدول الزمني المعلن سيتم تشغيل الوحدات تباعًا بدءًا من عام 2023 بطاقة مقدارها 1200 ميجاوات للوحدة وبفارق زمني مدته عام بقدرة إجمالية تصل إلى 4800 ميجاوات وبتكلفة تزيد عن 20 مليار دولار طبقًا لنظام “البناء والامتلاك والتشغيل” الذي تم الاتفاق عليه في وقت سابق بين أنقرة وموسكو وفقًا لما أعلنته وكالة سبوتنيك الروسية، لكن المعلومات تشير إلى أن خطط أنقرة النووية لن تصل إلى محطتها الأخيرة باستلام محطة أكويو النووية ولكنها تمتد إلى مواقع آخري داخل تركيا وسط مخاوف نووية لا يمكن تجاهلها من دول محيطة.
البدايات النووية التركية
لم تكن بداية البرنامج النووي التركي في تلك اللحظة التي وصف بها وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي آنذاك “تنار يلدز” اتفاق بلاده مع روسيا والذي وقع في مايو عام 2010 لبناء محطة نووية روسية لتوليد الكهرباء على الأراضي التركية حين صرح قائلًا “لا يمكن تعلم السباحة بدون بحر أو حوض سباحة سنبدأ في السباحة قريبًا لأننا سنشارك في عملية إنشاء المفاعلات النووية وإدارتها”، ولم تكن تلك اللحظة التي تم فيها تسليط الضوء الإعلامي من خلال احتفال الخميس الموافق 27 أبريل 2023 والذي شارك فيه الرئيس الروسي “بوتن” والرئيس التركي “أردوغان” -رغم وعكته الصحية حينها- عبر تقنية الفيديو بالإضافة إلى حضور مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية “جروسي” ومسئولون من شركة “روساتوم” الروسية الحكومية وشركات آخري ومقاولون بالإضافة إلى مسئولين أتراك والذي حمل عنوان “حفل تسليم الدفعة (الحزمة) الأولى من الوقود النووي إلى أول وحدة لتوليد الكهرباء في محطة أكويو للطاقة النووية” إلا تتويجًا متأخرًا لرحلة ليست بالقصيرة بدأت منذ فترة كبيرة وتخللتها عدة عثرات.
يصف الباحثون رحلة أنقرة النووية بأنها رحلة طويلة حيث أن الطريق نحو “أكويو النووية” لم يكن ممهدًا، ويعود سعي أنقرة نحو الطاقة النووية إلى أواخر الخمسينيات من القرن الماضي وارتبط الدافع وراء هذه الرحلة التي استمرت ما يقرب من ستة عقود بتطور تركيا من حيث النمو الاقتصادي وأمن الطاقة. والأهم من ذلك، كان يُنظر إلى تطوير الطاقة النووية على أنه رمز لتقدم تركيا ودليل على تحديثها، لكن على مدى العقود الستة الماضية لم تفلح محاولات تركيا في بناء مفاعلات قوي نووية لتوليد الكهرباء لعدة أسباب تم سردها بمقال نشر في مجلة “علماء الذرة” المرموقة بتاريخ 21 فبراير 2023 تحت عنوان “لماذا قد تسيطر روسيا على الطاقة النووية لتركيا على مدى الثمانين عامًا القادمة؟”. أرجع المقال أسباب إخفاق المحاولات التركية إلى مايلي:
- خلال الستينيات من القرن الماضي، اعتبرت القدرات المالية لتركيا – بالنظر إلى الناتج المحلي الإجمالي الذي يقل عن 20 مليار دولار – غير كافية لدعم برنامج للطاقة النووية.
- في عامي1971 و 1980 توقفت المساعي النووية والخطط الأولية نظرًا لعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي.
- جاءت المحاولة الثالثة لتركيا في الثمانينيات عندما نما الاقتصاد التركي وبلغت قيمة الناتج المحلي الإجمالي أكثر من 60 مليار دولار. في ذلك الوقت، قامت تركيا بتغيير استراتيجيتها إلى نموذج مالي “للبناء والتشغيل والنقل” حيث سيدفع المنفذ تكاليف البناء، ويسترد نفقاته عن طريق تشغيل المحطة لفترة محددة، ثم نقل المحطة إلى ملكية تركية في مقابل نسبة مئوية من الأرباح المستقبلية. توقفت هذه الخطط بعد أن أصرت تركيا على الحصول على تمويل أجنبي بنسبة 100% وزادت كارثة تشيرنوبل عام 1986 من المعارضة المحلية للطاقة النووية، كما ساهمت المخاوف بشأن دور تركيا في برنامج الأسلحة النووية الباكستاني، الذي كان يشتبه في أن لها دور في نقل مواد نووية، ونتيجة لتلك الأسباب فشلت هذه المحاولة.
- في المحاولة الرابعة عام 1994، أصدرت تركيا مناقصة دولية للمشروع بنظام “تسليم مفتاح” ومع ذلك، تم تأجيل المناقصة عدة مرات لأسباب فنية واقتصادية بينما ارتبطت في بعض الأحيان بدعاوى فساد-على حد وصف كاتبي المقال- ونتيجة لذلك، لم يتم إصدار ضمان الشراء، وتم التخلي عن هذه المحاولة في عام 2000.
- في نهاية عام 2002، بدأت تركيا محاولتها الخامسة حيث طرحت مرة أخرى مناقصة دولية. هذه المرة، كانت الخطوة مدفوعة جزئيًا بمخاوف بشأن اعتماد تركيا على الغاز الروسي. لكن المشروع تلقى عرضًا واحدًا فقط – من شركة روساتوم الروسية للطاقة النووية التي تسيطر عليها الدولة – والذي كان يعتبر مكلفًا للغاية، لذا فشلت المحاولة الأخيرة لنهج “البناء والامتلاك والنقل”.
- في عام 2008، بعد خمس إخفاقات، غيرت تركيا من استراتيجيتها مرة أخرى لتتوجه نحو اتفاقية حكومية دولية من شأنها أن تسمح للموردين بتجنب قواعد المنافسة وتمكينهم من امتلاك المحطة ونتيجة لذلك، وقعت تركيا وروسيا اتفاقية للتعاون النووي في عام 2010.
المواقع النووية التركية المقترحة
لم يكن الحلم النووي التركي لتسخير الذرة والاستفادة من استخداماتها السلمية حديثًا كما تم الإشارة سابقًا بل ولد منذ خمسينيات القرن الماضي إلا أن البداية الحقيقية كانت في السبعينيات وترتب عليها إجراء مجموعة من الدراسات من أجل اختيار مواقع مقترحة لبناء محطة للطاقة النووية في تركيا. وأسفرت الدراسات التي أجريت عن اختيار مواقع أكويو (Akkuyu)، سينوب (Sinop)، إجنيدا (Igneada)، لبناء محطات نووية ويمثل الشكل رقم (1) خريطة بها المواقع النووية التي تم اختيارها وموقعها بالنسبة لمدينة إسطنبول.
شكل (1): خريطة موضح بها المواقع التي تم اختيارها لبناء محطات نووية في تركيا
ومن بين تلك المواقع الثلاثة حظي موقع أكويو القريب من ميناء مرسين على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط بإجراء العديد من الدراسات للوقوف على مدي صلاحيته لبناء محطة نووية لكن العمل بالمشروع توقف بعد ذلك، إلا أنه بعد توقيع الإتفاقية النووية الروسية التركية في عام 2010 فقد تم تخطيط العمل بالموقع لتنفيذ (4) وحدات تصل طاقة كلًا منها 1200ميجاوات.
انتقادات داخلية للمشروع النووي التركي
تشير التقارير إلى أن المشروع النووي التركي قد واجه انتقادات لاذعة بدءًا من وجود عدم تقبل جماهيري له في البداية ومرورًا بانتقادات موجهة إلى موقع أكويو نفسه الذي تقام عليه المحطة النووية الروسية من خلال الدفع بأن الموقع يوجد داخل منطقة زلازل والاختبارات الفنية له لم تكن كافية.
واجهت أكويو النووية التركية لبناء وتشغيل المفاعلات (شركة نووية فرعية عاملة بتركيا تمتلك روساتوم الروسية أغلب أسهمها) انتقادات قانونية بسبب قيام مجلس إدارتها بإجراء تعديلات على أجزاء من الاتفاقية في عام 2019 دون المرور على البرلمان خاصة وأن أعضاء مجلس إدارتها أغلبهم من الروس وأن الاتفاقية نفسها قد وافق عليها البرلمان في عام 2010 وبالتالي فإن أي تغيير يطرأ عليها لابد وأن يتم الموافقة عليه وإقراره من قبل البرلمان.
واجهت أنقرة انتقادات تمس السيادة حيث أنه من المتعارف عليه أن محطة الطاقة النووية تقتضي وجود رصيف بحري لاستقبال الأدوات والمعدات والمواد النووية إلا أن الامتياز الذي منحته تركيا لروسيا قد تخطي مرحلة وجود ميناء للنقل النووي ليتضمن إنشاء ميناء تجاري يمكن استخدامه كقاعدة شحن لتلبية الاحتياجات اللوجستية لسفن البحرية الروسية في البحر الأبيض المتوسط.
واجهت أنقرة انتقادات تمس السيادة أيضًا حينما قرر مجلس إدارة أكويو النووية توقيع عقد مع شركة روسية أمنية لإقامة رادار جوي لحماية المحطة دون التنسيق بشكل مسبق مع السلطات التركية. حيث تشير المعلومات، أن تثبيت رادار بحث جوي فقط لا يكفي لتأمين المحطة النووية من التهديدات الجوية المحتملة إذ ينبغي تركيب نظام صاروخي أرض-جو بجانب الرادار لكي يتمتع بالكفاءة والقدرة على مواجهة أية تهديدات آتية من الجو. لهذا السبب، فإن روسيا تسعي لتثبيت رادار بحث ونظام دفاع جوي يفترض أن يكون من طراز S-400 في محطة أكويو وهذا ما لم يتم الإشارة إليه بشكل واضح في قرار مجلس الإدارة.
دروس أكويو، وما بعدها
ثمن الرئيس التركي نظام التمويل الذي انتهجته أنقرة لبناء المحطة النووية بوصفه أنه لم يضع عبئًا على كاهل الميزانية التركية، كما أشار إلى أن الزلزال التركي الذي حدث في فبراير الماضي لم يؤثر على المفاعل في إشارة منه إلى مهارة العاملين الأتراك وكذلك كرد على الدعاوي التي واجهها المشروع في بدايته من الجماعات المعارضة له متذرعة بأن المنطقة التي يقع فيها هي منطقة زلازل. وأشار الرئيس التركي إلى أن بلاده تطمح لبناء محطتين نوويتين بالإضافة إلى محطة أكويو. وتبين معلومات الرابطة النووية العالمية في الجدولين (1) و (2) مواعيد بدء الإنشاء والتشغيل وكذلك المواقع والمفاعلات المقترحة وقدرة كل وحدة.
جدول (1): المفاعلات النووية في أكويو
الموقع | الشركة المنفذة | نوع المفاعل | القدرة (ميجاوات) | بدء الإنشاء | الموعد المتوقع للتشغيل |
أكويو (1) | روساتوم | VVER-1200/V-509 | 1200 | أبريل 2018 | 2023 |
أكويو (2) | روساتوم | VVER-1200/V-509 | 1200 | أبريل 2020 | 2024 |
أكويو (3) | روساتوم | VVER-1200/V-509 | 1200 | مارس 2021 | 2025 |
أكويو (4) | روساتوم | VVER-1200/V-509 | 1200 | يوليو 2022 | 2026 |
جدول (2): المفاعلات النووية المستقبلية المقترحة
الموقع | نوع المفاعل | القدرة (ميجاوات) | المنطقة |
سينوب 1-4 | APR-1400? VVER-1200? | 5200 | مقاطعة سينوب |
إجنيدا 1-4 | AP1000X2,CAP1400X2 | 2X 12502X 1400 | مقاطعة كيركلاريلي |
وتشير التصريحات الرسمية التركية إلى أنه بعد تحميل الوقود النووي والانتهاء من الاختبارات والتجارب فسيتم إنتاج الكهرباء النووية من مفاعل أكويو بحلول عام 2024، وأشارت بعض التقارير إلى أن المحطة التركية الثانية من المقترح أن يتم تنفيذها من خلال تحالف فرانكو-ياباني، بينما المحطة الثالثة يقترح إنشاؤها عن طريق الصين. ومن الجدير بالذكر أن مفاعلات أكويو (VVER-1200 أو مفاعل قوي مائي مائي) هي مفاعلات نووية من الجيل الثالث المطور والتي تتمتع بأعلي معاملات أمان نووي في العالم.
تخوفات دولية من المشروع النووي التركي
لاشك أن التخوفات الدولية من البرنامج النووي التركي لم تكن وليدة اللحظة ولم تكن لتنمو وتتزايد دون أسباب ومما دعم تلك المخاوف شكوك حول ارتباطات سابقة لتركيا في تقديم مساعدات للبرنامج النووي الباكستاني، كذلك طموح أردوغان في أن تتحول تركيا الى دولة نووية بتصريحاته أن “بعض الدول تمتلك صواريخ مزودة برؤوس نووية ومع ذلك فهي تخبرنا أنه محرم على الآخرين حيازة تلك الأسلحة”، ومثل هذه التصريحات تثير حفيظة الأوربيين خاصة وأن تركيا عضو في حلف الناتو الذي يتبني مبدأ عدم انتشار الأسلحة النووية.
هذه الأسباب وغيرها دفعت دولًا أوروبية مجاورة مثل اليونان من أن تحذر من النوايا النووية التركية وتعرب عن مخاوفها للولايات المتحدة الأمريكية خاصة وأن تركيا تمتلك المعرفة والقدرة على الوصول إلى المواد التي يمكن استخدامها لتطوير الأسلحة النووية وأنها تنفذ خطة لإنشاء ثلاث محطات نووية وبالإضافة إلى ذلك فهي تقوم بتدريب المهندسين النوويين وتسعى للوصول إلى المعدات ذات الأغراض المزدوجة (المدنية والعسكرية). وأشارت تلك الدول بأصابع القلق إلى التهديدات التي قد يحملها النووي التركي الأمر الذي قد ينذر بتشيرنوبل جديدة في شرق المتوسط، كما أثارت بعض المخاوف من سعي أنقرة إلى بناء محطة نووية في إجنيدا الواقعة على بعد بضعة كيلومترات من بلغاريا. تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد قامت ببناء قاعدة انجرليك الجوية العسكرية في الخمسنيات من القرن الماضي جنوب تركيا وتستخدمها المقاتلات الأمريكية وكذلك القوات البريطانية وهي تضم عددًا من الرؤوس النووية الأمريكية، وتعتبر القاعدة هامة لأمريكا في منطقة الشرق الأوسط وإذا قامت واشنطن بسحب رؤوسها النووية منها، فإن هذا قد يفقد أنقرة الحماية النووية، خاصة مع وجود إشارات بإحتمالات بناء قاعدة جوية مماثلة على جزيرة يونانية قد تكون البديل.
تنظر بعض الدول إلى تقارب تركيا مع باكستان إلى أنه سعي للحصول على المعرفة والخبرة في مجال الطاقة الذرية، كما ينظر أيضًا إلى سياسة أنقرة في أفريقيا ومساعيها لتقديم الدعم والمساعدة والتعاون العسكري لدول غنية باليورانيوم مثل النيجر وتشاد إلى أنها ترمي من ذلك تأمين المواد الخام اللازمة لوقودها النووي المستقبلي.
الخاتمة
وفقًا للأعراف الدولية فإن تركيا قد أصبحت دولة نووية فور تسلمها الوقود النووي لأول مفاعل قوي نووية بأكويو، وقد مثل هذا الحدث أفضل دعاية للرئيس التركي في انتخاباته الرئاسية الحالية. قد تكون هذه الخطوة متأخرة إلا أنها حدثت وبهذا فمن المتوقع أن تتحول الدولة التركية من خلال هذا المشروع إلى واحدة من الدول المنتجة للكهرباء النووية كدول آخري سبقتها في المنطقة، ونظرًا لأن برنامجها النووي ممتد سيشمل محطات آخري تدعم مزيج الطاقة لديها بنسب مئوية نووية أكثر مما ستكون عليه بعد مرحلة أكويو فلا شك أن هذا سيؤثر بالإيجاب على وضعها الاقتصادي وتعهداتها الخضراء تجاه البيئة لكن يبقي دائمًا إثبات حسن نواياها النووية وتبديد مخاوف الدول المحيطة محل نظر وترقب خاصة وأن تلك المخاوف لا يمكن الاستهانة بها أو التقليل من شأنها.
قد يري البعض أن الوقوع بين مخالب الدب الروسي نوويًا من جهة لمدة 60 عامًا قد تمتد ل20 عامًا آخري (مدة تشغيل المفاعلات) وباستيراد الغاز الطبيعي من جهة آخري أنه قد يدفع بتقييد حرية القرار التركي خاصة مع القضايا الدولية التي غالبًا ماتحركها دوافع ومصالح اقتصادية. هذا الطرح قد يكون صحيح نسبيًا لمدة ليست بالطويلة لأن خطط أنقرة النووية المستقبلية -إن تمت- قد تقلل من مخاطره في ظل الاحتفاظ بالمكاسب التي حققتها إقليميًا بأن أصبحت دولة نووية في منطقة الشرق الأوسط – وإن كانت ليست الدولة الأولي أو الوحيدة- التي تموج بالصراعات والتي تحاول روسيا أن تثبت أقدامها فيها عبر شراكات اقتصادية ممتدة ومختلفة الأوجه يأتي الاستثمار النووي على رأسها ليس مع تركيا وحدها وإنما مع دول آخري لها ثقلها بالمنطقة ستصبح نووية عما قريب.