فى معرض بحثنا عن الحيز المالى المعقول الذى يسمح بتنفيذ السياسات المالية المرغوبة لتحقيق التنمية الاحتوائية، ويسهم فى تحقيق الاستقرار الاقتصادى ويعمل على ضمان وصول ثمار النمو الى الفقراء والطبقة الوسطى، وذلك عن طريق التصميم الجيد للسياسة المالية على جانبى الإيرادات والمصروفات، نعرج الآن للبحث عن كيفية تنمية إيرادات الدولة واستخدامها بكفاءة وفعالية. وبالنظر الى الوضع المصرى فان جميع بنود الإنفاق العام بشكلها الحالى، بنود حتمية بل تحتاج الى المزيد، ويصبح من الضرورى العمل على بناء حيز مالى عن طريق توليد المزيد من الموارد العامة، خاصة من الأصول المملوكة للدولة، وهو ما يمكن ان يولد عائدات كبيرة للخزانة العامة. وهذا لن يتأتى إلا عبر البحث فى الباب الثالث للموازنة المتعلق بالإيرادات الأخرى، والتى تأتى أساسا من أرباح الشركات والبنوك العامة والهيئات الاقتصادية وغيرها.فرغم التحسينات التى دخلت على السياسة المالية فإنها لم تؤد الى زيادات الإيرادات العامة للدولة، بل على العكس نلحظ أن الإيرادات العامة للناتج المحلى قد انخفضت من 25% عام 2005/2006 الى نحو18% فى مشروع موازنة 2023/2024. مع ملاحظة ان هناك تراجعا هيكليا فى مساهمة عناصر الإيرادات الأخرى (والتى تأتى أساسا من أرباح الشركات والبنوك العامة والهيئات الاقتصادية وغيرها) .وهنا نلحظ ان الملكية العامة فى مصر كبيرة ومتشعبة، حيث تتراوح بين الهيئات الاقتصادية (59 هيئة)، وشركات قطاع الاعمال العام الخاضعة للقانون رقم 203 لسنة 1991 وعددها 8 شركات قابضة و156 شركة تابعة فضلا عن شركات القطاع العام الخاضعة للقانون رقم 97 لسنة 1983 وعددها 41، والشركات القابضة النوعية التابعة للوزارات (وعددها 21 شركة قابضة تتبعها 96 شركة تابعة)، والشركات الخاضعة لأحكام القانون 159 لسنة 1981 وهى عديدة ومتنوعة، وبنوك القطاع العام والتنمية والائتمان الزراعى فضلا عن الشركات الخاضعة لبعض الهيئات الاقتصادية مثل هيئة البترول وتتبعها 12 شركة، وقناة السويس وتتبعها 7 شركات وغيرهما. ناهيك عن الشركات المشتركة وهى التى يساهم فيها المال العام من مختلف المؤسسات سواء كانت بنوكا عامة او شركات قابضة ونوعية ويبلغ عددها نحو 704 شركات برءوس أموال قدرها 683 مليار جنيه. وهى فى معظمها تخضع لقانون 159 لسنة 1981 وأيضا 95 لسنة 1992 وقانون 8 لسنة 1997. بالإضافة الى الأراضى والعقارات والمبانى، إضافة الى حقوق الملكية الفكرية على الآلاف من المصنفات الفنية والكتب وغيرهما.ونظرا لأن هذه الكيانات تعتبر وحدات مستقلة ذات شخصية اعتبارية ولها استقلالها المادى والإدارى باعتبارها ذات طابع اقتصادى وفقا للقوانين المنظمة لها، فان العلاقة بينها وبين الموازنة العامة للدولة بمثابة علاقة ملكية تتركز فى نتائج الأعمال، وعلاقة تمويلية تتركز فى المساهمة والإقراض. وكان من المفترض ان تحقق هذه الجهات الهدف من استقلالها وان تدار على أسس اقتصادية وتجارية تمكنها من تحقيق فوائض مالية أو على الأقل تسهم فى تمويل نفسها ذاتيا، وبالتالى تخفف العبء عن الموازنة العامة للدولة الا ان هذا لم يتحقق على الإطلاق بالنسبة لعدد كبير منها. بل وظلت هذه الجهات تحقق خسائر متراكمة عبر السنوات مما ادى الى التدخل لتمويلها من جديد وبأموال طائلة للغاية، وعلى الجانب الآخر فان الفوائض المحولة للموازنة العامة للدولة من بعض هذه الجهات، لم تعد تتناسب مع الأموال المستثمرة فيها من جهة، ومع ما تسهم به الموازنة فى هذه الجهات من جهة أخرى. وذلك نظرا للمشكلات العديدة التى تعانيها أولاها تدنى العائد على هذه الممتلكات، إذ يشير مشروع موازنة 2023/2024 الى ان الإيرادات من هذه الكيانات قد هبط من 12.3 مليار جنيه ختامى 2021/2022 الى 8.6 مليار فقط.وذلك لعدة أسباب يأتى على راسها قيام البنوك العامة، على مدار السنوات الماضية، بتوجيه كامل حصة الخزانة العامة فى الأرباح لتكوين احتياطى تدعيمى لديها دون وجه حق. كذلك لجوء بعض هذه الشركات الى ترحيل الفائض دون توزيع الأرباح مما يترتب عليه احتجاز جزء لا بأس به من هذه الأموال فى صورة احتياطى قانونى. هذا فضلا عن ان بعض هذه الفوائض تحول الى الهيئات الاقتصادية التابعة لها وليس الى الخزانة العامة. وثانيتها عدم تحصيل المستحقات على هذه الأصول وتراكم المتأخرات، وثالثتها عدم الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة، حيث تملك هذه الجهات ثروة من المعدات والآلات والأراضى تنتشر فى جميع أنحاء الجمهورية وتحتل مواقع متميّزة وللأسف فان معظمها لم يتم استغلاله بطريقة اقتصادية سليمة ومن الأمور المهمة فى هذا الصدد رؤية مسئولى هذه الكيانات للعلاقة مع الموازنة، حيث يرون انهم من حقهم التصرف الكامل فى الفائض المحقق لديهم وبالتالى يقومون بتمويل العديد من الأنشطة الاجتماعية والثقافية بأموال طائلة بزعم المسئولية الاجتماعية وانهما خارج الموازنة، من هنا يصبح التحرك نحو إصلاح هذه الكيانات ضرورة قصوى ويحتاج إلى سلة من الإجراءات والسياسات تتفاعل مع بعضها البعض وتتناول جميع جوانب الأطر المالية (الإيرادات والنفقات بل وأيضا أسلوب التصرف فى الفوائض). وبالتالى العمل على استئداء حق الخزانة العامة من العوائد على الأصول المملوكة للدولة، مما يساعد على تنمية الإيرادات دون فرض أعباء جديدة على المواطنين، وذلك عن طريق النص على ان تكون وزارة المالية، باعتبارها المالك، الحق فى التمثيل الأكبر، فى الجمعيات العمومية لهذه الشركات. بحيث تعكس الجمعيات العمومية التمثيل الحقيقى لأصحاب رءوس الأموال.فمن غير المعقول الاكتفاء بممثل واحد فقط للخزانة العامة. هذا فضلا عن ضرورة إصلاح التشريع القائم بحيث ينص على ضرورة ان يحول الفائض الى الخزانة العامة، وبالتالى تغيير الوضع الراهن الذى يسمح لبعض الهيئات او الوزارات والبنوك بالحصول على الفائض.
الملكية العامة وموازنة الدولة

عبد الفتاح الجبالي - عضو الهيئة الاستشارية
وقت القراءة: 7 دقيقة
عبد الفتاح الجبالي
تابعنا
تابعنا علي وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة
الأكثر مشاهدة

نحن نؤثر على 20 مليون مستخدم ونعتبر شبكة أخبار الأعمال والتكنولوجيا رقم واحد على هذا الكوكب.