الصين معجزة اقتصادية بكل المقايسس. بدأ الإصلاح الاقتصادى فى الصين عام 1979، وخلال الأربعين عاما التالية، وبالتحديد حتى عام 2017، نما الاقتصاد الصينى بمعدل سنوى متوسط قدره 10%. تضاعف الدخل القومى الصينى وارتفع مستوى المعيشة عدة مرات، بينما يعتبره الخبراء أعلى معدل نمو مستدام لفترة طويلة كهذه فى التاريخ الاقتصادى للعالم. لقد نجحت الصين خلال هذه السنوات فى إخراج 800 مليون صينى من الفقر إلى اليسر، وأصبحت الصين الأولى عالميا من حيث حجم الاقتصاد، والقيمة المضافة فى القطاع الصناعى، والتجارة السلعية، واحتياطات النقد الأجنببى. فما هى الصيغة السياسية التى أحدثت هذا الإنجاز الهائل بكل المقاييس؟
انتهت الشيوعية من الصين لكن الحزب الشيوعى مازال يحكم البلاد منفردا. يلعب الحزب دورا مركزيا للحفاظ على كفاءة عمل النظام الاقتصادى والسياسى. فالقرارات التى يتم اتخاذها عند القمة هى مصدر التوجيه الأهم للنظام الاقتصادى والسياسى. الوصول إلى قمة الحزب ليس بالأمر السهل، فهناك معايير دقيقة واختبارات عدة تضمن وصول نخبة النخبة لمراكز القيادة، فهذه هى الطريقة الوحيدة لضمان كفاءة أداء نظام يعتمد بشكل شبه كامل على كفاءة القرارات التى تصدر عن القيادات العليا. تبلغ عضوية الحزب أكثر من 98 مليونا، بما يعنى أن واحدا من كل سبعة بالغين صينيين هو عضو فى الحزب. ليس من السهل الحصول على عضوية الحزب، فلابد من اجتياز اختبارات عدة، ولا بد أيضا من وجود مساندين وداعمين داخل الحزب لتزكية الأعضاء الجدد. ما أن يصبح الفرد عضوا إلا ويندرج فى هذه الماكينة، التى هى الماكينة الوحيدة لممارسة السلطة فى الصين.الحزب هو جهاز السلطة وليس جهازا للاحتشاد وإظهار التأييد، وهناك منظمة حزبية فى كل مؤسسة وهيئة حكومية، وأيضا فى كل شركة، سواء كانت شركة خاصة أو شركة مملوكة للدولة.
المشاركة فى السلطة وصنع القرار ليس من بين تطلعات المواطن الصينى، لكن المواطن لديه فرصة جيدة لأن يتم الاستماع إليه، بما فى ذلك إلى شكواه. هناك قنوات توصيل جيدة بين السلطة العليا والمواطن العادى، وهذه إحدى وظائف الحزب، لكن ممارسة السلطة تبقى امتيازا لنخبة صغيرة مختارة فى قمة الحزب وجهاز الدولة. تعنى هذه الصيغة عمليا أن المواطن الصينى يمكنه انتقاد الموظفين المحليين، دون أن يملك هؤلاء سلطة الانتقام منه. الدستور الصينى يضمن حرية التعبير، وهذا هو التعريف الإجرائى لحرية التعبير المسموح بها هناك. تعمل هذه الصيغة بنجاح لأن الموظف الصغير ليس له حصانة أكثر مما يوفره له القانون. هذه الصيغة شديدة الفعالية فى تمكين السلطة من مراقبة وتقييم أداء صغار الموظفين على المستويات المحلية، ومنع ظهور وانتشار الفساد وسوء الإدارة والإهمال بينهم، بما يقوض قدرة الدولة على تنفيذ خططها. لاتكفى هذه الممارسة لوصف النظام الصينى بالديمقراطية، ولكنها نوع من الممارسة ذات الطابع الديمقراطى التى تؤدى إلى الارتقاء بأداء النظام السياسى كله وتعزيز شرعيته. بنفس الطريقة، لا يمكن وصف النظام الاقتصادى الصينى بأنه اقتصاد سوق حر، فقط هناك بعض العناصر المأخوذة من نظام السوق، فقد تم خصخصة بنوك مملوكة للدولة، وأصبحت الاسعار تتحدد وفقا للعرض والطلب، ويتم استخدام هذه العناصر لتحسين أداء الاقتصاد الذى مازالت الدولة تديره بشكل رئيسى. مصطلح الديمقراطية يستخدم فى الصين، ولكن الديمقراطية هناك لها دلالات أخرى تختلف عن دلالاتها فى السياق الغربى. تستخدم الديمقراطية فى الصين للإشارة إلى محاربة الفساد وتخفيف الفوارق الاجتماعية، واللامركزية. يقوم النظام فى الصين على معادلة فريدة تجمع لا مركزية عميقة وفعالة وناجحة، مع سلطة مركزية ذات قبضة قوية.المفارقة هى أن المواطنين الصينيين فى الغالب لا يسعدهم تعميق اللامركزية، فاللامركزية تعنى بالنسبة لكثير منهم فرصة أكبر لفساد المسئولين المحليين. شركات الدولة فى الصين أكثر كثيرا مما قد يبدو على السطح. الشركات الحكومية هى الأكبر فى الصين، وهى شركات مملوكة للدولة يجرى إدارتها وفقا لقواعد السوق والربحية والمنافسة.يتم إدراج الشركات فى البورصة ليس بغرض البيع والخصخصة ولكن بغرض ضبط الأداء وتعريض المديرين لمساءلة تجبرهم على تحسين الأداء.هذه الشركات مدرجة فى البورصة، لكن فقط بما لا يزيد على 10% من أسهمها، وبالتالى تبقى السيطرة عليها فى يد الدولة. تتولى الدولة والحزب، ولا فرق مهم بين الاثنين، تعيين مديرى الشركات، وتقوم المنظمة الحزبية بمتابعة الأداء ورفع التقارير إلى المستويات القيادية، التى هى بدورها مؤسسات ضخمة،تتلقى وتدرس التقارير التى ترسلها المنظمات الحزبية العاملة فى نطاقها، وتخرج منها بالاستنتاجات، وترفع التوصيات، وتتخذ القرارات. هذه هى الطريقة المناسبة لإدارة بلد يزيد حجمه على المليار نسمة، ويزيد عدد شركاته ومؤسساته على الملايين، فالصينيون لا يثقون فى التفاعل الحر وحرية اتخاذ القرار المتروكة للشركات بشكل تام، لكنهم فى نفس الوقت يدركون مشكلات الإدارة البالغة المركزية التى سبق لهم أن جربوها فى زمن الاشتراكية المفرطة، فكان أن استقروا على هذه الصيغة الهجين.
ليس من الصعب اكتشاف مواطن الضعف فى الصيغة الصينية، لكن ما نعرفه أنها تعمل بكفاءة مناسبة، أن المزيج المكون من هذه الطريقة فى الإدارة الاقتصادية وممارسة السلطة والثقافة الصينية يعمل بكفاءة ونجاح هناك، وهذا هو المهم. لا يمكن استنساخ التجربة الغربية أو الصينية فى السياسة والاقتصاد، لكننا بالتأكيد نستطيع التعلم من التجربتين.