تفرض إدارة “ترامب” عقوبات على إيران هي الأقسى مُنذ التوترات التي بدأت بينهما عقب الثورة الخُمينية في 1979، في ظل ما يُعرف “بحملة الضغط الأقصى”، حيث تطال في وضعها الحالي بعض أهم قطاعات الاقتصاد الإيراني، وعلى رأسها قطاعا النفط والمصارف، بحيث تُعرقل أهم مصادر الدخل الإيراني المُتولد عن تجارة النفط، ثم تقف حائلًا أمام التحويلات الناتجة عن بيع المُهرّب من هذا النفط عبر عزل البنك المركزي الإيراني ومن خلفه المصارف الإيرانية عن النظام المالي العالمي، عن طريق نظام التحويلات المالية “Swift”.
وقد أدت هذه الإجراءات أولًا إلى رفع تكلفة بيع النفط على الإيرانيين من ناحيتي تكاليف التهريب ثم تكاليف التحويل، الأمر الذي أسفر عن انخفاض الصادرات الإيرانية إلى حدود 600 ألف برميل يوميًّا بعد أن كانت قد بلغت مُستوى 2.1 مليون برميل يوميًّا في نوفمبر 2019. ثم جاءت التوترات الأخيرة بين البلدين بعد مقتل الجنرال “قاسم سُليماني” واستهداف القواعد العسكرية الأمريكية في العراق، لتُشدد الولايات المُتحدة -في العاشر من يناير- العقوبات على القطاع الصناعي، وخاصةً الصناعات المعدنية مثل الصُلب والألومنيوم والنحاس، وفي الوقت ذاته تستهدف أنشطة جديدة لم تكن قد طالتها العقوبات من قبل.
هذا المقال يتناول أولًا الأُطر التي فُرضت بموجبها العقوبات الجديدة، ثُم الكيانات التي طالتها العقوبات، وأخيرًا تأثير العقوبات الجديدة على الاقتصاد الإيراني.
أولًا- أُطر العقوبات الجديدة
استهدفت العقوبات الجديدة القطاع الصناعي في الأساس، باعتباره القطاع الثالث الأكثر أهمية للاقتصاد الإيراني بعد القطاعين النفطي والمصرفي، حيث لم يعُد هناك مجال لمزيد من التشديد على هذين الأخيرين، لذلك جاءت العقوبات الجديدة في إطارين؛ أولًا تشديد العقوبات القائمة فعلًا على الصناعات المعدنية، وثانيًا تمديد العقوبات لتشمل أنشطة لم تكُن تخضع للعقوبات من قبل، مثل: صناعة المنسوجات، وقطاعي التشييد والتعدين بالكامل.
1- تشديد العقوبات على الصناعات المعدنية
أصدر الرئيس “دونالد ترامب”، في 8 مايو 2019، الأمرَ التنفيذي رقم 13871 بشأن فرض عقوبات على صناعات الحديد والصُلب والألومنيوم والنحاس الإيرانية، تشمل في الأساس تجميد جميع المُمتلكات والمصالح المملوكة لأي من الشركات التابعة لهذا القطاع في الولايات المُتحدة الأمريكية التي تُحددها وزارة الخزانة الأمريكية، وكذلك منع التمويل الأمريكي عن هذه الشركات، مع إمكانية فرض عقوبات على من يُقدم خدمات تمويلية أو يُسهّل تقديم هذه الخدمات من غير الأمريكيين. وعند صدور هذا الأمر التنفيذي استهدفت وزارة الخزانة الأمريكية بالعقوبات شركة واحدة فقط هي “مباركة للصلب” “Mobarakeh Steel Company” ومقرها مدينة أصفهان الإيرانية، والتي تأسست عام 1978 كواحدة من أوائل الشركات الإيرانية العاملة في صناعة الحديد والصُلب، وأكبر مُنتج للصُلب في الشرق الأوسط، وأكبر مُنتج للحديد الإسفنجي في العالم، والتي أنتجت ما يزيد على 10.5 ملايين طن منه، بالإضافة إلى أكثر من 8 ملايين طن من الصُلب عام 2018.
ومع فرض عقوبات يناير الجاري (2020)، أضافت وزارة الخزانة الأمريكية 20 شركة جديدة من بينها 4 شركات غير إيرانية من بينها اثنتان صينيتان، أُولاهما “Pamchel Trading Beijing” وذلك بسبب شرائها شحنات كبيرة تُقدر بعشرات الآلاف من أطنان الصُلب والنحاس شهريًّا من شركات إيرانية مُتعددة، وثانيها شركة “Hongyuan Marine” المالكة للباخرة “Hong Xun” التي استهدفتها العقوبات كذلك لنقلها شحنات المعادن التي اشترتها “Pamchel” من إيران. بالإضافة إلى شركة “Power Anchor Limited” المُسجلة في سيشيل والتي تعمل كواجهة للشركات الإيرانية بغرض الإفلات من العقوبات عند التعامل مع “Pamchel” الصينية. وأخيرًا شركة “Reputable Trading Source” المُسجلة في سلطنة عُمان والمملوكة لشركة “خوزستان للصُلب” الإيرانية، والتي تعمل كواجهة لتوفير وتوريد قطع الغيار والمعدات والمواد الخام المطلوبة من قبل شركات الصلب الإيرانية، وتُشارك كذلك في تسويق وتصدير منتجات الصلب من إيران.
أما الشركات الباقية فتضم أكبر 13 مُصنّع للحديد والصُلب في إيران، سواء شركات حكومية أو خاصة، بالإضافة إلى شركات عاملة في صناعة الألومنيوم والنحاس، ومن بين أهمها: سابا الصلب، هرمزكان للصلب، أصفهان للصلب، Oxin للصلب، وخراسان للصلب، والوطنية الإيرانية لصناعات النحاس، وشركة الألومنيوم الإيرانية، وغيرها.
2- توسيع العقوبات على القيادة الإيرانية
أتبع الرئيسُ “ترامب” الأمرَ التنفيذي السابق بأمر تنفيذي آخر في 24 يونيو 2019، رقم 13876، والذي استهدف القيادة الإيرانية، ويشمل كذلك تجميد مُمتلكات وأصول القيادات الإيرانية، بداية من المُرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية وأي من الأشخاص المُعينين من جانبه الذين تُحددهم وزارة الخزانة بالتشاور مع وزارة الخارجية الأمريكية. وعند صدور الأمر التنفيذي طالت العقوبات 12 شخصًا، بالإضافة إلى المُرشد، ومن بينهم: محمد جواد ظريف وزير الخارجية، وعلي أكبر ولايتي وزير الخارجية الأسبق، وإبراهيم رئيسي رئيس السُلطة القضائية في إيران، ومحمد باقري رئيس أركان الجيش الإيراني، وغيرهم. وعند فرض العقوبات الجديدة طالت العقوبات ست شخصيات جديدة مُعظمهم من قيادات الحرس الثوري الإيراني، ومن بينهم: علي شمخاني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، وزير الدفاع والحرس الثوري سابقًا. ومُحسن رضائي رئيس مُجمع تشخيص مصلحة النظام والقائد في الحرس الثوري سابقًا. وغلام رضا سُليماني قائد قوات الباسيج التابعة للحرس الثوري الإيراني.
3- عقوبات على قطاعات وصناعات جديدة
في اليوم ذاته صدر الأمر التنفيذي رقم 13902 الذي استهدف توسيع العقوبات على القطاعات الاقتصادية الإيرانية بحيث تطال قطاعي التشييد والبناء، والتعدين، بالإضافة إلى تعميقها في قطاع الصناعة بحيث تطال صناعة الغزل والنسيج. وبمُقتضى هذا الأمر التنفيذي أصبح في مقدور وزارة الخزانة الأمريكية فرض عقوبات على الأمريكيين وغير الأمريكيين من الأشخاص الطبيعيين والشركات الذين يعملون في أي من هذه القطاعات، أو يتعاملون معها بحجم كبير لبيع أو توريد أو نقل البضائع أو الخدمات الهامة إلى إيران أو منها، وأعطت وزارة الخزانة مُدة 90 يومًا كإعفاء للمُتعاملين مع هذه القطاعات، تبدأ بعدها في استهداف المُخالفين بعقوبات اقتصادية.
ثانيًا- الأثر الاقتصادي للعقوبات الجديدة
تطال العقوبات الاقتصادية في وضعها الحالي، بعد إضافة القطاعات الجديدة بموجب الأمر التنفيذي رقم 13902 إليها، أكثر من نصف النشاط الاقتصادي في إيران، بالإضافة إلى أن هذه العقوبات ذاتها تفرض عقوبات ثانوية على المُتعاملين مع القطاعات الأساسية الخاضعة للعقوبات، مما يوسع الدائرة بقدر كبير لا يُمكن تحديده في الداخل الإيراني، لكن على الأقل يُمكن تحديد الأثر المُباشر لها على النحو التالي:
1- مُساهمة القطاعات الاقتصادية في الناتج المحلي الإجمالي
أسفرت العقوبات الأمريكية على قطاع النفط في إيران خلال الأربعين عامًا الماضية عن أضرار بالغة جعلت مُساهمته تقل تدريجيًّا في الناتج المحلي الإجمالي، رغم بقائه المورد الأول للموازنة العامة الإيرانية، لتبلغ مُساهمته في عام 2017/2018 ما نسبته 13.5% فقط، بينما كان المُساهم الأول هو قطاع الخدمات بنسبة 56.2%، يأتي بعده قطاع الصناعة والتعدين -ويشمل قطاع التشييد- بنسبة 22.6%، وأخيرًا يحل القطاع الزراعي بنسبة 9.8%، ويوضح الشكل التالي القيمة المُضافة لكلٍ من القطاعات الاقتصادية الأساسية ونسبتها الى الناتج المحلي الإجمالي.
يوضح الشكل حجم المساحة الخاضعة من الاقتصاد الإيراني للعقوبات، إذ يخضع قطاعا النفط والصناعة والتعدين بالكامل للعقوبات، بينما جزء هام للغاية من قطاع الخدمات يتمثل في القطاع المصرفي يخضع كذلك للعقوبات، ما قد يُشكل مُجتمعًا أكبر من نصف القيمة المُضافة للاقتصاد، بما تفوق قيمته 227 مليار دولار أمريكي، ما يُمثل عبئًا ضخمًا لا يستطيع الاقتصاد الإيراني في وضعه الحالي الاستمرار في تحمله لفترات طويلة.
2- قيمة الصادرات الخاضعة للعقوبات
بلغ إجمالي قيمة الصادرات الإيرانية في عام 2018 حوالي 96.6 مليار دولار، تركز مُعظمها في فئتي النفط والصناعات المُرتبطة به، مثل: صناعة البلاستيك، والمواد الكيميائية العضوية، حل بعدهما مُباشرة صادرات الحديد والصُلب، كما يوضح الشكل التالي.
ويظهر من الشكل أن ما إجماليه 79.8 مليار دولار من الصادرات الإيرانية في عام 2018 وبنسبة 83% -قبل فرض العقوبات في صورتها الحالية- أصبح يخضع للعقوبات، وستُعاني إيران بشدة لبيع صادراتها منها. ولعل أقرب مثال لما تُعانيه إيران هو انخفاض صادراتها من النفط خلال عام 2019 إلى 600 ألف برميل يوميًّا بقيمة إجمالية بلغت في المتوسط خلال العام 11.2 مليار دولار فقط، أي سُدس إيرادات عام 2018، الأمر الذي وجّه ضربة شديدة لإيرادات الموازنة العامة الإيرانية أجبرتها في النهاية على رفع أسعار الوقود بنسب تصل إلى 300% مع تحديد حصص للاستخدام.
كما تجب الإشارة إلى أن هذه التأثيرات المُباشرة للعقوبات تتبعها تأثيرات غير مُباشرة تتمثل في انكماش الاقتصاد الإيراني بشكل عام، وهو ما يُصاحبه انخفاض في فرص العمل المُوجودة فعلًا ومُعدلات خلق الجديد منها. يتبع ذلك انخفاض مُعدلات الإنفاق وزيادة مُعدلات الفقر، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى ضغوط اجتماعية وسياسية، باتت تظهر مؤخرًا في شكل تظاهرات في أنحاء مُتفرقة من البلاد ومن طوائف اجتماعية مُختلفة، مما يُسبب اهتزاز شرعية النظام الحاكم من ناحية، ويضغط على موارد البلاد من ناحية أخرى.
ختامًا، تبين من العرض السابق جدية إدارة “ترامب” في مواصلة فرض العقوبات الاقتصادية على إيران، في إطار حملتها لرفع الضغط على النظام الإيراني إلى درجات غير مسبوقة على مدى الأربعين عامًا الماضية، حيث لم تَعُدْ هناك قطاعات اقتصادية إيرانية لم تتعرض لعقوبات غير القطاع الزراعي فقط، ولعل ما يمنع الإدارة الأمريكية من فرض عقوبات عليه هو الضغوط المُتعلقة بحقوق الإنسان والصحة العامة.