بعد أسبوعين من السماح لشخص بحرق نسخة من المصحف أمام مسجد فى العاصمة السويدية، وافقت الشرطة السويدية على طلب شخص مسلم بحرق نسخة من التوراة والانجيل أمام سفارة تل أبيب فى ستوكهولم، ردا على ما اعتبره هذا الأخير واقعة حرق المصحف، وربما كان يقصد، أيضا، اختبارا لحرية التعبير فى السويد، وهل ستسمح دولة الحريات، فعلا، بالمساس بكل المقدسات، ام ان الحرية لديها انتقائية، تجوز للبعض وتحرم على البعض. على العموم، وفى رد فعل يتناسب جيدا مع موروثنا الدينى واخلاقنا الكريمة، تراجع الشاب عن تنفيذ تهديده، معتبرا أن حرق الكتب المقدسة محرم فى القرآن، وان لحرية التعبير حدودا لا يجب تجاوزها والا تحول الامر الى حرب مفتوحة.
الحرب ضد الإسلام ورموزه ليست جريمة حديثة العهد، بل سجل هذا الفعل لأول مرة فى عام 1530، عندما ظهرت فى مدينة البندقية أول نسخة مترجمة للقرآن باللاتينية. فى العام نفسه أصدر البابا كليمنت السابع مرسوما بإحراق هذه الطبعة، وصدرت بعد ذلك مباشرة قرارات من محاكم التفتيش الإسبانية تحظر إصدار أى ترجمات لاتينية للقرآن. بعد ذلك بدأ أحد العاملين فى الطباعة، آنذاك، فى مدينة بال بسويسرا فى عام 1541 بطباعة ترجمة لاتينية تم إنجازها فى القرن الثانى عشر، ولكن سلطات المدينة صادرت هذه الطبعة بأكملها. هذا بالإضافة إلى مرات أخرى مورست فيها هذه الجريمة من قبل بعض المسيحيين فى أثناء الحرب الصليبية. بقى هذا النهج المعادى للإسلام سارى المفعول حتى عام 1790.
بعد فترة الحروب الصليبية تراجع التعبير عن العداء للإسلام فى أوروبا والغرب بشكل عام، إلى أن جاءت هجمات 11 سبتمبر، وما أعقبها من حرب أفغانستان، وملاحقة عناصر تنظيم القاعدة، واتهام صريح للإسلام بكونه دينا يحرض على العنف والإرهاب. حصلت اول عملية تدنيس للقرآن فى العام 2005 على أيدى محققين أمريكيين فى معتقل جوانتانامو. توالت بعد ذلك عمليات الحرق والتدنيس ليأخذ هذا الأمر طابعا دينيا سياسيا، ويصبح سلوكا مكررا هدفه التحريض على الكراهية تحت غطاء «الحرية». فعن أى حرية يتحدثون؟
كثيرا ما يتم الحديث عن حرية التعبير كمفهوم جديد للحريات المجتمعية المطلقة. حرية بلا حدود وبدون قدرة على انتقادها او التعبير عما نفكر فيه بخصوص حدودها وابعادها وسلبياتها، خاصة فى ظل الاستغلال السيئ والمستفز لها أحيانا، وأيضا فى ظل انتقائية هذه الحرية التى بالتأكيد لا تمنح للجميع، ولا تطبق فى كل السياقات. حرية الغرب اتجاه انتقاد المسلمين وتدنيس او الاستهزاء برموزهم، هى حرية تعبير، لكن رفض العلمانية ورموزها المقدسة هو رجعية وتهديد للأمن الدولي. وانتقاد اليهود هو معاداة للسامية.
يشير عدد من المسئولين فى الغرب إلى أن حرق المصحف هو فعل قانونى مسموح به بموجب حرية التعبير التى أقرتها القوانين الأوروبية وكفلها القانون الدولى والمعاهدات الدولية ذات الصلة. تفاجأنا بردود فعل متباينة عندما اقترب احدهم من حرق التوراة والانجيل. واعتبر اليهود ان المساس بمقدسات إسرائيل ليس حرية تعبير، بل يدخل الامر تحت بند معاداة السامية وكراهية اليهود. هذا التباين يعكس ازدواجية الغرب فى التعاطى مع مسألة الحقوق والحريات.
على العموم، الادعاء بقانونية حرق القرآن يثير إشكالية أساسية جوهرها الخلط بين مفهومين أساسيين وهما: حرية التعبير، والتحريض على التمييز والعنف والحث على خطاب الكراهية. اذا كان المدافعون عن أطروحة حرية التعبير يعتمدون على المادة 19 من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان والمادة 19 من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية الذى ينص على ان لكل فرد الحق فى حرية الرأى والتعبير، فإن نفس المادة فى فقرتها 3 تضع قيودا على تلك الحرية وتنص بالحرف: تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها فى الفقرة 2 من هذه المادة واجبات ومسئوليات خاصة. وعلى ذلك، يجوز إخضاعها لبعض القيود، ولكن شريطة أن تكون محددة بنص القانون، وأن تكون ضرورية: (أ) لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم. (ب) لحماية الأمن القومى، أو النظام العام، أو الصحة العامة، أو الآداب العامة.
أى حرية ليست مطلقة بالكامل. حدود حرياتنا تنتهى عندما تبدأ حرية الآخرين. والمساس بالمقدسات هو اكبر مساس بالحريات الفردية والجماعية لأزيد من مليارى شخص مسلم حول العالم. فهل سنكتفى بالتنديد والاستنكار فى كل مرة، ام سنضغط كأمة واحدة من اجل وضع حد لهذا الاعتداء السافر على مقدساتنا وتجريم المساس بالقرآن على غرار تجريم المساس باليهود؟