أُجريت الانتخابات الإسبانية التشريعية في 23 يوليو 2023، وشهدت تقدمًا كبيرًا لحزب الشعب المحافظ، وتراجعًا ملحوظًا لحزب فوكس اليميني، وزيادة طفيفة لليسار الاشتراكي، الأمر الذي جعل الكتل المتنافسة الرئيسية لا تستطيع بمفردها تكوين ائتلاف حاكم، في مشهد سياسي اعتادت عليه مدريد لسنوات طويلة (2015/2016 – 2018/2019) سواء كان في سدة الحكم (يمين الوسط أو يساره)!. في المقابل تلوح في الأفق حاجة الحزبين الكبيرين لدعم الأحزاب الإقليمية (والانفصالية) حتى يتمكن أحدهما من تشكيل حكومة، مما يعني أن صانع الملوك أصبح قريبًا من كتالونيا والباسك.
مؤشرات متباينة
كشفت النتائج النهائية للانتخابات التشريعية الإسبانية، عن عدة أخطاء لاستطلاعات الرأي، في مقدمتها عدم التنبؤ بزيادة مقاعد العمال الاشتراكي، وعدم حصول الشعب المحافظ على المقاعد المتوقعة والتي بلغت في أحد استطلاعات الرأي 140 مقعدًا، فضلًا عن توقع تقدم اليمين المتطرف في الانتخابات وحصوله على 16% من الأصوات بخلاف النتائج الفعلية التي خسر فيها فوكس 19 مقعدًا. وجاءت نتائج الانتخابات كالتالي:
| الحزب | النتائج والتغيير | ||
| 2023 | 2019 | التغيير | |
| الشعب المحافظ-pp | 136 | 89 | 47 |
| الاشتراكي-psoe | 122 | 120 | 2 |
| فوكس-vox | 33 | 52 | -19 |
| سومار sumar | 31 | لم يكن موجودًا | |
| اليساري الجمهوري ERC -كتالونيا | 7 | 13 | -6 |
| معًا من أجل كتالونيا JXCAT | 7 | 8 | -1 |
| بيلدو-الباسك Bildu | 6 | 6 | |
| القومي الباسكي PNV | 5 | 1 | 4 |
| كتلة جاليجان القومية BNG -يسار | 1 | 0 | 1 |
| الاتحاد الشعبي النافاري UPN | 1 | 0 | 1 |
| تحالف جزر الكناري (Cca ) | 1 | 1 | |
الجدول من تصميم الباحث وفقًا للأرقام الرسمية المعلنة.
من واقع الجدول السابق يمكن استنتاج عدة ملاحظات منها:
- زادت مقاعد حزب الشعب المحافظ بمقدار 47 مقعدًا، مع زيادة مقاعد حزب العمال الاشتراكي بمقدار 2، مما يعني أن يمين الوسط لم يحصد أصوات يسار الوسط في الانتخابات الحالية، بل نال أصواتًا من أحزب أخرى، وهي 19 مقعدًا خسرها حزب فوكس، و10 مقاعد من حزب “سيودادنوس” الكتالوني (المناهض للاستقلال) والذي لم يشارك في انتخابات يوليو 2023، وجزءًا من مقاعد اليسار الجمهوري الكتالوني، والذي خسر 6 مقاعد، وجزءًا أيضًا من مقاعد بوديموس اليساري الذي حصل على 35 مقعدًا في انتخابات 2019، ثم اندمج في ائتلاف سومار اليساري الذي حصد 31 مقعدًا في انتخابات يوليو 2023.
- زيادة مقاعد حزب العمال الاشتراكي من 120 مقعدًا في 2019 إلى 122 مقعدًا في 2023، تعني مسألتين: الأولى أنه استطاع المحافظة على أصوات ناخبيه السابقين مع زيادة قليلة، والثانية أنه طوّر أداءه وعدّل من موقفه مقارنة بالانتخابات المحلية التي جرت في 28 مايو 2023، والتي بناء عليها توقعت استطلاعات الرأي خسارته.
- خسرت الأحزاب الانفصالية اليمينية واليسارية في كتالونيا، حيث انخفضت مقاعد حزبي “معًا من أجل كتالونيا” (اليميني) و”اليساري الجمهوري” من 21 مقعدًا في 2019 إلى 14 مقعدًا في 2023، وغالبًا ما يعود فقدان تلك المقاعد لتراجع قضية الانفصال في الإقليم، وتقدم الحزب الاشتراكي في الإقليم وحصده 19 مقعدًا، ولا سيما بعد التسويات السياسية التي عقدت بين مدريد وكتالونيا في ولاية سانشيز، وصحة استراتيجية الأخير في تهدئة الصراع الكتالوني بعد الإفراج عن بعض قادة الاستقلال الكتالونيين.
- شهد إقليم الباسك صعودًا نسبيًا لثلاثة أحزاب، حصلت على 6 مقاعد منها (4 إضافية للحزب القومي الباسكي، ومقعد لكل من كتلة جاليجان القومية والاتحاد الشعبي النافاري، مع حصول حزب بيلدو على نفس عدد المقاعد التي جمعها في 2019، وهي 6 مقاعد)، في المقابل لم يحصل فوكس على مقاعد في الإقليم، وتفوق الحزب الاشتراكي على الشعب المحافظ بفارق 3 مقاعد، حيث حصد الأول 5 مقاعد مقابل مقعدين للثاني.
- على عكس كل استطلاعات الرأي التي منحت فوكس دور “صانع الملوك” أو شريك الحكومة “المحتمل” تراجع الحزب اليميني المتطرف وخسر 19 مقعدًا، وبالتالي يكون جناحا الشعبوية اليساري (بوديموس) واليميني (فوكس) قد خسرا في الانتخابات العامة بصورة متقاربة. صحيح أن بوديموس اندمج في ائتلاف سومار وخاضا معًا كائتلاف يساري، لكنه أيضًا سبق وقد خسر في الانتخابات المحلية. ويوضح الجدول التالي (2) تطور ظهور وصعود الأحزاب الشعبوية في إسبانيا من 2015 وحتى 2023.
جدول 2، تطور ظهور وصعود حزبي بوديموس وفوكس
| عام الانتخابات | الأحزاب والنتائج | بيان | |
| بوديموس | فوكس | ||
| 2015 | 69 | لم يتأسس | أول ظهور لحزب بوديموس بعد التأسيس |
| 2016 | 71 | لم يتأسس | |
| 2019 | 42 | 24 | جرت الانتخابات الأولي في أبريل، وكان أول ظهور لحزب فوكس |
| 2019 | 35 | 52 | جرت الانتخابات الثانية في نوفمبر |
| 2023 | 0 | 33 | اندمج حزب بوديموس في انتخابات يوليو 2023 مع كتلة سومار اليسارية |
دلالات النتائج
أظهرت نتائج الانتخابات الإسبانية عدة دلالات هامة، في مقدمتها ثبات تأثير خصوصية الحالة الإسبانية ووضع الحكم الذاتي لعدد من الأقاليم على إدارة النظام السياسي ومخرجاته، كما وضح أيضًا أن البناء والتعويل على الانتخابات المحلية وجعلها رهانًا رابحًا ومقبولًا في الانتخابات العامة التشريعية أمر خاطئ. كما أن استمرار تصدر تيار أو حزب لاستطلاعات الرأي فترة طويلة لا يعني بالضرورة فوزه بنفس نتائج استطلاعات الرأي أو حتى قريبة منها، بل قد لا تعكس النتائج الفعلية أي صورة واقعية مثل التي رسمت ما قبل عقد الانتخابات، فاستطلاعات الرأي حسمت فوز تحالف الشعب المحافظ مع فوكس وتشكيلهما حكومة ائتلافية، وهزيمة اليسار (الاشتراكي)، لكن الوضع الآن متقارب إلى حد ما، مع خسارة حزب فوكس مقاعد كانت كفيلة بفرضه على تشكيل حكومة يمينية دون الحاجة لأحزاب الأقاليم الباسك أو كتالونيا. فضلًا عمّا سبق ثمة دلالات أخرى تبرزها نتائج الانتخابات يمكن عرضها كما يلي:
1. ثبات الاشتراكي: راهن الحزب الاشتراكي عند دخوله الانتخابات التشريعية على نقطتين رئيستين، الأولى تتعلق بالتأكيد على أن حكومته لم تأخذ فرصة كافية لمواصلة الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فهي ولدت فعليًا في نوفمبر 2019 (بعد الانتخابات الثانية) ولم تلبث شهرًا في سدة الحكم واصطدمت بوباء كوفيد-19 مثلها مثل غيرها من الأوروبيين، وبالتالي هي حكومة إدارة أزمات، وفي عامها الثالث اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية، وما تبعها من تأثيرات حادة على اقتصاديات الدول، لا سيما دول جنوب أوروبا التي تعاني من الأزمة المالية العالمية في 2008. ومع ذلك تروج حكومة سانشيز لكونها قدمت عدة سياسات ومكاسب خاصة بـ(الحريات الفردية، المرأة والمساواة، العدالة الاجتماعية) وغيرها من مزايا لم تستكمل بعد. النقطة الثانية التي راهن عليها سانشيز هي خطاب التخويف من العودة لعهد الرجعية والفاشية المتمثلة –كما روج خطابه- في تحالف حزب الشعب المحافظ وحزب فوكس اليميني، لا سيما وأن الأخير لطالما تعهد بإلغاء القوانين المتعلقة بالعنف بين الجنسين، وحقوق مجتمع الميم، والقتل الرحيم، وحظر الأحزاب الانفصالية، وبالتالي تخوفت الفئات المستفيدة من التشريعات السابقة من تحالف يمين الوسط واليمين المتطرف، فأبقت على التصويت لصالح سانشيز مع زيادة مقعدين عن انتخابات 2019.
2. تراجع الشعبوية: سلكت الكتل التصويتية في الانتخابات التشريعية مسارين متوازيين، فهي دعمت ومنحت يمين الوسط مقاعد جديدة، وحافظت على حظوظ الحزب الاشتراكي، مقابل تخفيض حصص الأحزاب الشعبوية والانفصالية معًا، فتراجع اليمين المتطرف (فوكس)، واندمج بوديموس داخل سومار، وكأنه يكمل في مسيرة التراجع (كما هو موضح في جدول 2) ويخفض حصة اليسار الردايكالي. فيما تراجعت أيضًا الأحزاب الانفصالية الكتالونية (اليسار واليمين)، وصعد الحزب القومي الباسكي المعتدل، في إشارة إلى الميل العام للناخب في إسبانيا نحو الاعتدال.
3. أخطاء فيجو: قد يعود تفسير عدم حصول حزب الشعب المحافظ على الأغلبية اللازمة (هو وحليفه فوكس) لتشكيل حكومة -كما كان متوقع- إلى عدة اعتبارات، أولها أن ائتلاف اليمين تعامل مع الانتخابات المحلية على أنها صك مباشر لتولي الحكومة في مدريد يوليو 2023، وهو ما يبرر رفض فيجو زعيم الشعب المحافظ دخول المناظرة الثانية التي عقدت بين الأحزاب المتنافسة، واكتفى فقط بتقدمه في المناظرة الأولى. وثانيها أن فيجو اعتمد على خطاب انتقادي لحكومة سانشيز، مبديًا تراجعه عن سياسات اتخذتها الحكومة الاشتراكية فقط دون إيجاد البديل الأفضل حتى يجذب الكتل التي صوتت لليسار في 2019، ومسألة التخويف من التحالف مع الأحزاب الانفصالية التي دعمت سانشيز، واجهت هي الأخرى خطاب خوف أيضًا من تحالف الشعب المحافظ مع فوكس، وبالتالي فإن الكتل التي لا تحبذ فرض الضرائب (من الطبقات الغنية والقطاع الخاص) ولا تهتم بقيم المساواة بين المرأة والرجل أو مع الأسرة التقليدية وضد مجتمع الميم، لم تكن كافية لمنح ألبرتو نونيز فيجو الأغلبية اللازمة لتشكيل حكومة يمينية.
سيناريوهات تشكيل الحكومة
يعقد البرلمان الإسباني أولى جلساته يوم 17 أغسطس القادم، على أن يفوض ملك إسبانيا زعيم الحزب الأكبر تشكيل حكومة نصابها 176 صوتًا أو مقعدًا، يصوت البرلمان على اختيار رئيس الوزراء الذي يمتلك هذا النصاب في أول جلسة، وحال لم يحصد الأغلبية المطلقة يتم التصويت مرة أخرى في جلسة ثانية ويكتفي هنا بتصويت أغلبية بسيطة، ويظل بيدرو سانشيز رئيسًا للوزراء حتى التصويت على رئيس غيره في أغسطس، أو فوزه بولاية أخرى، وطبقًا لنتائج الانتخابات وموقف الأحزاب الفائزة من التحالف مع سانشيز واليسار، أو قبول الدخول في تحالف مع حزبي الشعب المحافظ وفوكس، تبدو السيناريوهات المحتملة كما يلي:
1. السيناريو الأول: يمتلك التحالف اليميني (الشعب المحافظ وفوكس) 169 مقعدًا، ويرجح أن ينضم إليهما حزب الاتحاد الشعبي النافاري (مقعد واحد فقط) كونه يمتلك أجندة مناهضة للهجرة وقريب من رؤى فوكس، وكذلك تحالف جزر الكناري (مقعد واحد)، ويصبح مجموع هذا التحالف إن تم 171 صوتًا، ويلزمه دعم الأحزاب الانفصالية أو امتناعها عن التصويت، مع ضم الحزب القومي الباسكي أو امتناعه عن التصويت، وهذا السيناريو بالطبع لا يتحقق في الجلسة الأولى التي يجب لها وجود أغلبية 176 مقعدًا.
2. السيناريو الثاني: قد يستمر بيدرو سانشيز رئيسًا للوزراء لولاية جديدة رغم مجيء حزبه في المرتبة الثانية خلف الشعب المحافظ، وتبدو فرص سانشيز في مسارين، الأول هو تحالف يضم (الحزب الاشتراكي 122 مقعدًا + ائتلاف سومار31 مقعدًا + بيلدو 6 مقاعد + اليسار الجمهوري 7 مقاعد + الباسك القومي 5 مقاعد)، ليكون المجموع 172 صوتًا كافية في الجلسة الثانية مع تحييد أو دعم حزب “معًا من أجل كتالونيا” الذي يمتلك 7 مقاعد. المسار الثاني الذي يمكن بيدرو سانشيز من رئاسة الوزراء هو دعم كل الأحزاب اليسارية والإقليمية (الانفصالية معهم) وهو ما يعني الحصول على 172 مقعدًا من التحالف السابق مع دخول حزب “معًا من أجل كتالونيا” ويصبح الائتلاف الجديد يمتلك 179 مقعدًا تحسم التصويت من الجلسة الأولي، وهذا المسار مرهون بمفاوضات شاقة مع زعيم “معًا من أجل كتالونيا” كارليس بويجديمونت، الذي حدد مطلبين للموافقة لدعم سانشيز، وهما العفو عن قادة الانفصال المنفيين أو المقيمين خارج إسبانيا، وإجراء استفتاء تحديد مصير أو استقلال لكتالونيا. جلي أن المطلب الثاني مرفوض من قبل الحكومة المركزية في مدريد التي تدعم فقط منح المزيد من صلاحيات الحكم الذاتي وليس الاستفتاء على الاستقلال، لكن ربما تكون هذه المطالب مدخلًا للجلوس إلى مائدة المفاوضات، لأنه في كل الأحوال ليست هناك فرصة للتحالف مع الشعب المحافظ، الذي بدأ بالفعل في التحاور مع أحزاب تحالف جزر الكناري، والاتحاد الشعبي النافاري، والحزب القومي الباسكي (غير مؤكد قبوله الدخول في ائتلاف به حزب فوكس المناهض للأحزاب الانفصالية) وبالطبع في ظل وجود فوكس.
3. السيناريو الثالث: يظل سيناريو عقد انتخابات جديدة مطروحًا على خلفية التجارب السابقة في عدم الاستقرار السياسي لإسبانيا وإقامة عدة انتخابات متتالية، فقد عقد ما بين 2015 و2019 أربعة انتخابات للوصول لحكومة مستقرة!. وهذا مرهون بفشل المفاوضات بين الكتل اليسارية والأحزاب الانفصالية والإقليمية، أو الكتل اليمينية التي تطمح في امتناع أو دعم الحزب القومي الباسك، وعدم دعم الأحزاب الإقليمية لبيدرو سانشيز.
إجمالًا، يمكن القول إن قدرة بيدرو سانشيز على التفاوض مع الأحزاب الإقليمية والانفصالية هي الرهان على استقرار الحكومة الحالية، وعدم تولي فيجو السلطة، والدعوة لانتخابات جديدة قبل نهاية العام، ويبدو أن السيناريو الأرجح عدم قدرة حزب الشعب المحافظ من تكوين ائتلاف يضمن الأغلبية كون الأحزاب الانفصالية بطبيعة الحال لن تدعم حكومة تعيد لها التوتر مثلما جرى في 2017 مع رئيس الوزراء السابق مارينو راخوي، خاصة في ظل موقف حزب فوكس المتطرف، لذا يظل الخيار الأفضل لأحزاب الباسك وكتالونيا هو حكومة يسارية أو الدعوة لانتخابات جديدة، وبالتالي تُعد فرص سانشيز حتى الآن أفضل لبقائه في ولاية جديدة.



