ساعات قليلة فصلت بين قيام قوات الحرس الرئاسي بتنفيذ انقلاب على الرئيس محمد بازوم، وخروج قائد تلك القوات الجنرال “عبد الرحمن تشياني” ليتلو بنفسه من التلفزيون الرسمي للدولة أنه أصبح رئيسًا لمجلس انتقالي بعد الاستيلاء على السلطة. وفي غضون مدة زمنية أقصر أعلن جيش النيجر ولاءه لقوات الدفاع التي أطاحت بالرئيس، عبر بيان وقّعه رئيس أركان الجيش، في إشارة دالة على أنّ ما جرى كان مخططًا له مسبقًا، وعلى نطاق الشريحة القيادية للجيش التي ربما فضلت أن يتقدم صفوف “التنفيذ” و”الظهور” قوات الحرس الرئاسي وقيادته.
قائد الحرس الرئاسي الجنرال المثير للجدل عبد الرحمن تشياني، يتمتع منذ سنوات بمكانة استثنائية داخل منظومة الحكم بالنيجر منذ توليه منصبه في عام 2015. ظلّ لسنوات يُعد الشخصية الأقرب للرئيس السابق “محمد يوسفو”، وهو من أعطى له السماح بتطوير الحرس الرئاسي ودعمه بـ”700 عنصر” من قوات النخبة بالجيش النيجري. جاء ذلك بعد نجاح الجنرال تشياني في إحباط محاولة الانقلاب التي جرت في 2015، وتكرر هذا الأمر في 2021 حين تمكن الحرس الرئاسي تحت قيادته من التصدي لمحاوله انقلابية أخرى. تشياني المنحدر من منطقة “تيلابيري” غرب البلاد تمكن استنادًا لإنجازاته ووضعه المتميز الاستمرار في منصبه، مع تولي الرئيس محمد بازوم السلطة في إبريل 2021، وقد خرج في بيانه الأخير بصفته “رئيس المجلس الوطني لحماية الوطن”. ووفق ما ذكره الجنرال تشياني فإنّ الانقلاب سببه الرئيسي تدهور الوضع الأمني في البلاد وتنامي تهديدات الجماعات الإرهابية.
ما جرى في النيجر لا يمكن فصله عمّا تموج به منطقة الساحل الأفريقي بشكل عام، والتي تتشابه في مشهدها الكلي مع التطورات النيجرية أيًا كانت مآلاتها المنتظرة. فالنيجر تدخل كثالث دولة في تلك المنطقة تشهد انقلابًا عسكريًا منذ العام 2020، بعد كلٍ من مالي وبوركينافاسو، وهذا تفسيره المباشر أن هناك أزمة حكم عميقة كامنة في عصب استقرار هذه الدول منفردة ومجتمعة. هناك مساران متوازيان كلاهما ألقى بظلاله في صناعة تلك الأزمة، بنسب ومظاهر مختلفة بالطبع لكنها حاضرة بقوة في الأحداث اليومية لتلك الدول، وصانع رئيسي للتحالفات وتوازنات الحكم والاستقرار في كل من النيجر ومالي وبوركينافاسو، وليس بعيدًا عنهم كثيرًا تشاد وغينيا كوناكري وموريتانيا. المسار الأول له علاقة بطبيعة الصراع المتنامي على ثروات دول الساحل الأفريقي بين القوى الدولية الكبرى، خاصة مع تصاعد وتبدل نفوذ العديد من الدول وعلى رأسها فرنسا والولايات المتحدة وروسيا والصين. المسار الثاني مرتبط بالخريطة الإرهابية الجديدة التي تشكلت في تلك المنطقة الواسعة، التي تضم 5 بلدان من دول الساحل الأفريقي ومعهم الشمال النيجيري، ومساحات ليست بالقليلة من جنوب دول شمال أفريقيا العربية ولا سيما ليبيا، هذه الخريطة كانت خطوطها حاضرة منذ عقود في النطاق الجغرافي ذاته، لكن بعد هزيمة تنظيم “داعش” في سوريا والعراق جرى تطور وتعاظم كبير لتلك الخريطة مصحوبًا بنقلة نوعية في أعداد وقدرات عدد كبير من التنظيمات الإرهابية المسلحة، التي تقدم نفسها في معظم تعريفاتها على أنها أفرع تدين بالولاء العقائدي والتنظيمي لكل من “القاعدة” و”داعش”.
من الملامح البارزة التي باتت كاشفةً لحجم الصراع الدولي الدائر في تلك المنطقة، أن فرنسا الدولة صاحبة النفوذ الأكبر تاريخيًا في هذه البلدان تواجه معضلة انحسار كبيرة منذ سنوات، بحيث اعتبر ما حدث في النيجر مؤخرًا إحدى حلقات هذا التراجع المتسارع لصالح أوضاع جديدة تتشكل وأوزان مغايرة تفرض نفسها. فالثابت أن اعتماد فرنسا على بعض القيادات السياسية للحفاظ على مصالحها في القارة، بات مهددًا في ظل عداء الشعوب الأفريقية المتنامي ضدها، فالمشهد الذي جرى العام قبل الماضي في مالي يتكرر اليوم في النيجر؛ حيث تبدو باريس على وشك فقدان علاقتها بالنيجر ومعها موارد الذهب واليورانيوم، فقد صدر تزامنًا مع إعلان تولي المجلس العسكري للسلطة بعد الإطاحة بالرئيس محمد بازوم، وقف تصدير اليورانيوم والذهب إلى باريس، والطلب من قواتها وبعثتها الدبلوماسية مغادرة البلاد. لذلك، تُلقي فرنسا الآن بكامل ثقلها لإفشال الانقلاب العسكري في النيجر، سعيًا وراء إبقاء وجودها في البلاد وحفاظًا على مصالح رئيسية غير قابلة للتنازل عنها بسهولة، خاصة مع دخول الصين منذ سنوات في هذه الأنشطة في النيجر تحديدًا، فالشركات الصينية تقوم بالعمل في نشاط استخراج النفط والذهب، والاحتمال المؤكد أن تكون شريكًا مستقبليًا في استخراج اليورانيوم.
صراع النفوذ الأشرس يدور بين المعسكر الغربي ممثلًا في فرنسا والولايات المتحدة، وبين روسيا الاتحادية وأذرعها وأدواتها بدول الساحل الأفريقي، خاصةً وأن موسكو قبل الحرب الروسية الأوكرانية كانت قد اتخذت قرارًا استراتيجيًا بإزاحة فرنسا والدول الغربية من دول الساحل الأفريقي، بهدف إحياء تمددها وانتشارها السوفيتي السابق في جميع أنحاء أفريقيا، من خلال تقديم كافة أشكال الدعم للحكومات المعادية للغرب، بل والعمل كضامن عسكري وأمني لتلك الأنظمة. فروسيا تتطلع بالتأكيد للحصول على وصول غير مقيّد لليورانيوم والذهب، وبقية المعادن والثروات متمثلة في البترول والفحم والحديد وغيرها، إدراكًا منها أن المسيطر على حركة التجارة والتداول لتلك المواد الرئيسية هو القابض تلقائيًا على مساحة النفوذ الرئيسية، الأكثر اقترابًا وارتباطًا بأنظمة الحكم والمؤسسات العسكرية في هذه البلدان. لهذا سجلت معظمُ إحصاءات بيع الأسلحة لدول الساحل الأفريقي تصدرَ روسيا كمورّد أول للسلاح بشكل مباشر للجيوش وللأجهزة الأمنية، وبشكل غير مباشر عن طريق وسيط خاص هو “مجموعة فاجنر” التي بدأت كمورد سلاح غير رسمي، لتنتقل بعد ذلك للاستحواذ على عقود أمنية وعسكرية مع جهات رسمية وغير رسمية في تلك البلدان وجوارها الجغرافي. ومؤخرًا تمددت لتقتحم مجال التعدين أيضًا؛ بحيث باتت شراكاتها مع منتجين محليين في مجالات التعدين المختلفة تفوق بكثير نشاطها العسكري الذي بدأت به التسلل لتلك البلدان.
المشهد الكلي في هذه البلدان أكثر تعقيدًا وتداخلًا، على الأقل يفوق الظاهر منه في خطورته ودقة توازناته. هذا يفسر مثلًا التأييد الذي حصده الانقلاب الأخير في النيجر من بلدان مجاورة، في حين أن هناك في المقابل تهديدات جدية بتدخل عسكري وعقوبات وغلق للحدود من بلدان أخرى، البعض منها أفريقية مجاورة وأخرى دولية تبحث عن مسارات بديلة، أو سيناريوهات يمكن تمريرها عبر صفقات محمومة تدور في الغرف المغلقة منذ الإعلان الأول لانقلاب النيجر، الذي لن يكون الأخير في تلك المنطقة.
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية