أبلغ مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي “نتانياهو” (29 أغسطس) حكومته أنّ عقد اجتماع سياسي سري، أو علني سيتطلب موافقته المسبقة شخصيًا، وذلك على خلفية الأزمة الدبلوماسية، التي تسبب فيها وزير خارجية إسرائيل “إيلي كوهين” بعد مقابلته نظيرته الليبية في روما مؤخرًا.
تُثار مجموعة من الاستفهامات حول أبعاد الأزمة، وموقع ليبيا على خريطة التطلعات الإسرائيلية في المنطقة؟، وتداعيات الأزمة الأخيرة التي على إثرها أعلنت حكومة الدبيبة أنها ستحظر التطبيع مع إسرائيل.
أولا: أبعاد الأزمة
تسربت معلومات إلى الصحف الإسرائيلية الناطقة بالعبرية، والإنجليزية، والعربية حول اجتماع سري، جرى بين وزير الخارجية الإسرائيلي “ايلي كوهين”، ونظيرته الليبية في حكومة الدبيبة (غرب ليبيا)، تحت رعاية إيطالية. مما تسبب في احتقان شعبي عارم بين الليبيين، وهو ما دفع الدبيبة إلى إقالة الوزيرة، وفتح تحقيق عام، وحظر التطبيع مع إسرائيل؛ في محاولة منه لتهدئة الرأي العام.
يحكم هذه الأزمة عدة أبعاد سياسية واستراتيجية، منها ما يلي:
1- تقزيم دور الخارجية الإسرائيلية:
يتعمد رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي تقزيم دور الخارجية الإسرائيلية، وقصر رسم السياسة الخارجية الإسرائيلية على مؤسسات رئيس الوزراء، وهيئة الأمن القومي (برئاسة تساحي هنجبي)، ووزارة الشئون الاستراتيجية (بقيادة رون ديرمر)، بالتعاون مع الأجهزة الأمنية مثل الموساد.
يزعج هذا الأمر “إيلي كوهين” الذي يتبنى سياسات لا تتناسب كثيرًا مع السياسة الخارجية العامة لدى الحكومة الإسرائيلية، مما يجعله يغرد خارج السرب أحيانًا.
انعكس ذلك في ملف السودان، حين زار “إيلي كوهين” رئيس المجلس السيادي “عبد الفتاح البرهان”، في حين كان الموساد يرتب علاقات سرية مع قائد قوات الدعم السريع “حميدتي”، وهو ما خلق سببًا ضمن أسباب أخرى: أنّ السودان لا تتحمس بخطوات سريعة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل.
انعكس ذلك في الاتجاه الإسرائيلي في أفريقيا، إذ يعقد “إيلي كوهين” لقاءات سرية مع زعماء أفريقيين، ثم يسرع ليجاهر بعقد اتصالات مع زعماء أفارقة مسلمين؛ في محاولة منه لكسب رصيدًا لدى رئيس الحكومة، ولكن يترتب على ذلك أنّ الدول الأفريقية لا تستجيب كثيرًا لمثل تلك الردود بإعلان التطبيع، أو التفاهم المبدئي مع إسرائيل.
وعليه، يبدو أنّ “إيلي كوهين” تسرّع في توفيق اتصالات سرية من خلال روما؛ لعقد اجتماع مع حكومة الدبيبة، عبر الجلوس مع وزيرة الخارجية الليبية.
2- مسار آخر للتطبيع:
يبدو أنّ الولايات المتحدة تتمهل في استئناف مسار التطبيع الإبراهيمي مع السعودية، الأخيرة التي وضعت شروطًا محددةً للموافقة على تطبيع العلاقات مع إسرائيل. في حين لا تريد حكومة نتانياهو الانتظار كثيرًا للفوز باتفاق تطبيعي مع دولة عربية جديدة.
يُضاف إلى ذلك، أنّ الموافقة السعودية المحتملة للانضمام إلى مجوعة دول البريكس مؤخرًا، قد يخلق منصة سياسية، واقتصادية، وأمنية جديدة، لتوثيق الحوار بين السعودية وإيران (العضو الجديد في البريكس أيضًا)؛ وهو ما قد يقلل هامش الحركة الإسرائيلية في المنطقة، بسبب التوافق السعودي – الإيراني على أهمية حل القضية الفلسطينية، عبر تسوية سياسية تعتمد حل الدولتين. كما قد تُقيد حركة إسرائيل بشن أي نشاط عسكري، قد يهدد استقرار الأمن الإقليمي للمنطقة.
لذلك، من المحتمل نسبيًا أن تبحث إسرائيل على مسار جديد للتطبيع مع دولة عربية أخرى؛ وهو ما استغلته الصحف والنقابات الجزائرية، باحتمال قرب تطبيع علاقات بين تونس أو موريتانيا مع إسرائيل.
ثانيًا: لماذا ليبيا؟
(*)
ترى إسرائيل في ليبيا رقمًا مهمًا في معادلات منطقة شرق المتوسط، وبالتحديد على الصعيد الاقتصادي المتعلق بملف الطاقة. فبعد أن أعلنت إسرائيل، وقبرص، واليونان، والولايات المتحدة عن تدشين مشروع خط أنابيب الغاز “الايست ميد”، سرعان ما اندفعت تركيا – في محاولة منها لمنع مشروعات إقصائية ضدها -، واستغلت حالة عدم الاستقرار السياسي في ليبيا، إلى حد توقيع اتفاقيتين، لهما أهمية استراتيجية طويلة المدى مع حكومة طرابلس في الغرب (نوفمبر 2019): ترسيم الحدود الاقتصادية البحرية بين البلدين، واتفاقية تعاون عسكري. أتاحت الاتفاقيات لتركيا ترسيخ وجودها عسكريًا في ليبيا، وتطوير احتياطيات الغاز والنفط في المياه الاقتصادية، وتوسيع نفوذها إلى أفريقيا وأوروبا، من خلال موطئ قدم أنشأته في الساحة الليبية غير المستقرة.
مثّل المشهد الأخير دافعًا مهمًا لتفسير سحب الدعم الأمريكي، من مشروع الإيست، وإلغائه؛ لم يثر التوترات الشاملة بين إسرائيل وتركيا فحسب، بل قدم أردوغان إمكانية فحص مستقبلي لتصدير الغاز الطبيعي من منصة ليفياثان إلى أنقرة، وتعزيز الطاقة، والتعاون بين الدولتين، وتشكل هذه الإمكانية عنصرًا مركزيًا في “معايرة” السياسة الخارجية التركية تجاه إسرائيل.
لذلك، شكّل شرق البحر الأبيض المتوسط في السنوات الأخيرة مساحةً للنشاط، بصفتيه السلبي والإيجابي على حد سواء، حول موارد الطاقة بين القوى الإقليمية والدولية، وأفرزت بعض انعكاساتها بالتأثير السلبي على ليبيا، ورغبة كل طرف في تحديد طابع الحكومة الليبية المقبلة، ودعمها. ويشكل “تغيير الاتجاه” في السياسة الإقليمية التركية فرصةً، للحد من التوترات في شرق البحر الأبيض المتوسط، وتعزيز التعاون الاقتصادي والأمني في مجال الطاقة بين جميع اللاعبين، بما في ذلك إسرائيل. والحفاظ على الاستقرار الليبي شرط لتحقيق هذه الإمكانية.
(*)
الأمر الثاني، أنّ إسرائيل تبحث عن نقاط تماس إيجابية مشتركة مع إيطاليا، ويرجع ذلك لعدة أسباب، من أهمها أنّ إيطاليا هي إحدى الدول الأوروبية الرافضة لمشروع ألمانيا “يورو سكاي شيلد”، وهو مشروع إنشاء نظام دفاع جوي أوروبي، يعتمد على ثلاثة أنظمة يقف على رأسها نظام آرو-3 الإسرائيلي بعيد المدى. وفي حال وافقت إيطاليا على المشروع الألماني، فسيعني ذلك زيادة ضخمة في الصادرات الدفاعية الإسرائيلية، وينعكس بالإيجاب على المخصصات المالية المقدمة لأجهزة الأمن الإسرائيلية، وعلى رأسها الجيش الإسرائيلي.
لذلك، ترصد إسرائيل أولويات الأجندة الحكومية الإيطالية، والتي يعد ملف الهجرة غير الشرعية هو الملف الرئيسي بها. وبما أنّ ليبيا تعد من بين الدول المصدرة للمهاجرين غير الشرعيين، وبالتحديد إلى إيطاليا، فوجدت إسرائيل مساحة مهمة لتوسيع حركتها بالتقارب مع حكومة إيطاليا، وحكومة الدبيبة في ليبيا.
يُضاف إلى ذلك متغيرًا مهمًا، وهو أنّ التقارير الأمنية والسياسية المتعلقة بملف الهجرة غير الشرعية الصادرة من إيطاليا، تتحدث عن استعانة المخابرات الإيطالية المسئولة عن تحركات مراكب وسفن المهاجرين غير الشرعيين بالتكنولوجيا الإسرائيلية، في عملية رصد السفن، حتى عندما تغلق أجهزة الإرسال والاستقبال الخاصة بها.
ختامًا، يمكن القول إنّ إسرائيل تعتبر ليبيا دولة مهمة في إقليم شرق المتوسط، الذي لا يزال يعكس الكثير من النشاط في لعبة الطاقة غير المتجددة، ومنافذ توريدها إلى القارة الأوروبية (ويراد بالإشارة هنا إلى إيطاليا: أنّ المحطة النهائية لمشروعات عديدة تخرج من شرق المتوسط). كما أنّ التماس الليبي الإيطالي تتجلى أحد صوره، في ملف الهجرة غير الشرعية، التي ترغب إسرائيل في البحث عن معطيات حل بشأنها، حتى بالوسائل التكنولوجية؛ رغبةً في تقارب إسرائيلي مع إيطاليا. وهو ما يفسر إشراف روما على الاجتماع الذي تسربت أخباره بين وزير الخارجية الإسرائيلي، ونظيرته الليبية.