في أضخم حادث إرهابي من نوعه على الإطلاق خلال ما انصرم حتى الآن من عام 2019، ضربت سلسلة من ثمان تفجيرات فنادق وكنائس صباح يوم الأحد الحادي والعشرين من أبريل الجارى، الذي يوافق الاحتفال بعيد الفصح عند المسيحيين الكاثوليك في مدن عدة في سريلانكا مثل كولومبو ونيجومبو وباتيكالوا. بينما تم تفكيك عبوة ناسفة أخرى كانت تستهدف المطار الدولي بالعاصمة كولومبو. وقد أسفر الحادث عن سقوط أكثر من 250 قتيلا (عدد كبير منهم من جنسيات أجنبية) وإصابة المئات الآخرين. بينما تشير مصادر استخباراتية أمريكية إلى أن سبعة على الأقل من بين التفجيرات الثمان تمت بواسطة انتحاريين.
ويقف هذا الحادث على رأس قائمة الهجمات الإرهابية الأشد فتكا على مستوى العالم في عام 2019 حتى الآن. ويليه في المرتبة الثانية، الهجوم الذي نفذته حركة طالبان جنوب أفغانستان، واستهدف نقاط أمنية محلية، وأسفر عن سقوط 65 قتيلا. ثم في المرتبة الثالثة، الهجوم الذي نفذته جماعة بوكو حرام، واستهدف بلدة ران الحدودية النيجيرية في يناير الماضي وأسفر عن سقوط 60 قتيلا من المدنيين. وفي المرتبة الرابعة يأتي الهجوم الذي نفذه عنصر يميني متطرف استهدف مسجدين في بلدة “كرايستشيرش” في نيوزيلاندا، وأسفر عن سقوط أكثر من 50 قتيلا. وفي المرتبة الخامسة، يأتي حادث العثور على 50 رأس مقطوعة لأسيرات أيزيديات لدى داعش في الباغوز في فبراير الماضي. ثم وفي المرتبة السادسة، يقع الهجوم الانتحاري الذي نفذه عنصر من جماعة “جيش محمد” في فبراير الماضي، واستهدف حافلة تقل جنود مشاة في كشمير بالهند، وأسفر عن سقوط 49 قتيلا.
وإذا كان من المعروف عن جماعة “نمور التاميل” -التي خاضت ضد الأغلبية “السنهالية– البوذية” المسيطرة على الحكومة في سريلانكا حربا أهلية استمرت ثلاثة عقود- استخدامها لتكتيك التفجيرات الانتحارية في سريلانكا، إلا أن قائمة أهداف هذا الهجوم المعقد -الكنائس والفنادق والأجانب- تتفق أكثر مع حزمة أهداف جماعات السلفية الجهادية وخاصة داعش. صحيح أن سريلانكا غير معروفة بوجود نشاط إرهابى لتنظيمات السلفية الجهادية، وبالتالي يصعب الجزم بوجود بنية تحتية إرهابية هناك تسمح بتنفيذ مثل هذا الهجوم الضخم والمعقد، إلا أن اعتبارات هشاشة الحدود بين سريلانكا والهند وإندونيسيا (وهما بؤرتان لنشاط جماعات سلفية جهادية) وأيضا؛ عزلة وتهميش واضطهاد المجتمع المسلم في سريلانكا، ربما تدفع في اتجاه ترجيح سيناريو مسؤولية جماعة سلفية جهادية عن الحادث، والأرجح أنها داعش.
إذ تمثل بلدا مثل سريلانكا هدفا مثاليا لتنفيذ هجوم مفاجئ ضخم يهدف إلى الإيقاع بعدد كبير من القتلى، ومن ثم حشد الاهتمام الدولي، ويعيد ثقة أنصار وعناصر داعش بقدرتها على تنفيذ هجمات معقدة، وأيضا يمثل شكلا ما من أشكال الوفاء بما توعدت به من استهداف للكنائس في أعقاب الهجوم الذي نفذه عنصر يميني متطرف على مسجدين في نيوزيلاندا، وأسفر عن سقوط نحو 50 قتيل في مارس الماضي. وأخيرا، فإن قلة خبرة الأجهزة الأمنية هناك بحركات السلفية الجهادية تجعل سريلانكا هدفًا مثاليًا للجماعات العابرة للحدود القومية مثل داعش.
تركيبة إثنية وطائفية مثيرة للاضطرابات
يبلغ عدد سكان سريلانكا نحو 22 مليون نسمة، من بينهم نحو 1.2 مليون من المسيحيين الكاثوليك يشكلون 7.6٪ من السكان وفقا للتعداد السكاني الذي أجري في البلاد عام 2012. بينما يشكل البوذيون أغلبية السكان بنسبة 70%، ويمثل الهندوس 12.6%، والمسلمون 9.7%. أما من الناحية الإثنية، يشكل السنهاليون غالبية السكان (%75 في 2012) إضافة إلى التاميل (11%)، الذين يتركزون في شمال وشرق جزيرة سريلانكا. بينما تتوزع الطوائف الأخرى بين العرب التاميل والهنود والماليزيين والبورغر (أحفاد المستوطنين الأوروبيين). ولسريلانكا لغتان رسميتان، السنهالية، التي يتحدث بها نحو ثلاثة أرباع السكان والتاميلية (%26).
وعلى الرغم من أن سريلانكا لم تشهد حادثا بمثل هذا الحجم، منذ انتهاء الحرب الأهلية مع نمور التاميل قبل عشر سنوات، فقد اعتُبِرَت سريلانكا دائما بؤرة ملتهبة لأعمال العنف والإرهاب والقتل على الهوية. إذ عمل هذا التعدد الإثني والطائفي في سريلانكا دوما كعنصر مثير للاضطرابات هناك بأشكال متعددة. أبرزها، الحرب الأهلية مع الانفصاليين التاميل استمرت بين عامي 1972 و 2009، وأسفرت عن سقوط مائة ألف قتيل على الأقل، وأيضا أحداث العنف الطائفي ضد المسلمين والتي تمارسها جماعة “بوذا بلاسينا”، والتي دفعت الحكومة السريلانكية قبل عام واحد فقط إلى إعلان حالة الطوارئ في البلاد، بعد أعمال عنف وشغب واسعة استهدفت المسلمين وأملاكهم في عدد من المدن والقرى في سريلانكا. ثم أحداث الاضطهاد والعنف الطائفي الممنهج من جماعات بوذية متطرفة ضد الأقلية المسيحية، والتي دفعت بهم إلى المطالبة بإجراء تحقيق دولي بشأن أوضاع المسيحيين في سريلانكا.
هذا العنف الطائفي والإثني متعدد الأوجه، يجعل من الصعب تحديد الجهة المسؤولة عن هجمات عيد الفصح، وهناك أربع سيناريوهات، على الأقل؛ ترتبط بمنفذ هذا الحادث، على الرغم من أنه لا يزال – من وجهة نظرنا- يحمل بصمة داعش المميزة من حيث الأهداف والتكتيك.
السيناريو الاول: الانتحاريون التاميل
خاضت الحكومة السريلانكية حربا أهلية ممتدة لأكثر من ثلاثة عقود مع نمور التاميل الانفصاليين، الذين سعوا إلى إقامة وطن تاميل مستقل للأقلية التاميلية في شمال وشرق سريلانكا. وعلى مر العقود، استطاع النمور إنشاء منظمة شبه عسكرية معقدة للغاية. ولم تكن هذه القوة تتألف من قوات برية فقط (تمتلك مدفعية وحتى بعض المدرعات)، ولكن أيضًا جناح بحري يشارك في تهريب الأسلحة والهجمات البحرية ضد البحرية السريلانكية – شملت هجمات بقوارب انتحارية – وجناحًا جويًا صغيرًا، وقوات نخبة من المقاتلين المدربين على القيام بالاغتيالات والهجمات الإرهابية المعروفة باسم النمور السوداء. وقد اشتهرت النمور السوداء بالتفجيرات الانتحارية (التي قتل أحدها رئيس الوزراء الهندي السابق راجيف غاندي عام 1991)، وعدد من الشخصيات المهمة، بما في ذلك العديد من وزراء الحكومة وأعضاء البرلمان.
وعلى الرغم من تمكن الحكومة من قتل قائد الحركة وتصفية التمرد في 2009، وإعلان الحركة هزيمتها رسميا آنذاك، وتخفيضها سقف مطالبها من الانفصال إلى إقامة حكم فيدرالي في سريلانكا، إلا أنه من الصعب الجزم بأن عناصر النمور السوداء قد فقدوا إرادة القتال، خاصة وأن مقاتلي نمور التاميل مدربون تدريباً جيداً ويخضعون أيضاً لتلقين سياسي صارم. وباستثناء حالات نادرة ، يفضل النمور القتال – أو تناول كبسولات السيانيد السامة – والموت بدلاً من الاستسلام. ويظهر هذا الاستعداد للتضحية بالنفس يظهر بشكل أفضل في “النمور السوداء”، الذين كانوا أول من تبنوا الهجمات الانتحارية، وكانوا من بين أكثر العناصر استخدامًا لهذا التكتيك. وجند “النمور السود” أيضًا عددا كبيرا من الانتحاريات أكثر من أي جماعة أخرى. (استخدموا انتحارية في اغتيال راجيف غاندي).
وبالنظر إلى أن التقدم باتجاه تحقيق التزامات العدالة الانتقالية التي تعهدت بها حكومة الوحدة الوطنية في سريلانكا قد توقف تقريبا بعد عام 2015، فربما يلجأ نمور التاميل- الذين تشير تقارير إلى أن عددا منهم قد فروا إلى ولاية “تاميل نادو” الواقعة جنوب الهند، ذات الصلة الوثيقة بشمال سريلانكا ذات الأغلبية “التاميلية”- إلى استئناف نشاطهم الإرهابي في الداخل السريلانكي ثأرا لضحياهم، وإحياء لقضيتهم، ولجذب انتباه العالم، وأيضا لضرب الاقتصاد السريلانكي الذي يعتمد بشكل أساسي على السياحة، ومن ثم إضعاف موقف الحكومة في مواجهة المطالبين بحكم فيدرالي في البلاد، تتأسس بموجبة حكومة في مناطق التاميل.
وكان تقرير صادر عن الأمم المتحدة العام الماضي قد أشار إلى أن قوات الأمن لا تزال تستخدم العنف الوحشي بما فيه أساليب التعذيب. وبحسبما ذكرت صحيفة الجارديان البريطانية نقلا عن مقرر الأمم المتحدة المختص بمكافحة الإرهاب في سريلانكا، فإن مجتمع التاميل يتعرض للوصم ويشعر بأنه محروم من حقوقه، بينما تتراجع كذلك ثقة مجتمعات الأقليات المختلفة في قدرة الحكومة التعامل مع جميع القوميات الموجودة في البلاد على حد سواء.
لكن فى النهاية فإن استهداف الكنائس من بين ما استهدفتهم هذه الهجمات يضعف هذا السيناريو بدرجة كبيرة، وذلك بالنظر إلى أنها لا تدخل ضمن بنك أهداف “نمور التاميل”.
السيناريو الثانى: جماعات بوذية متطرفة
على الرغم من أن الجماعات البوذية المتطرفة مشهورة باضطهاد المسلمين، فقد بدأت في السنوات الأخيرة موجات عنف من بعض البوذيين تجاه المسيحيين، حيث أفاد التحالف الوطني المسيحي الإنجيلي في سريلانكا الذي ينضوي تحته أكثر من 200 كنيسة، أنه سجل 86 حالة تمييز وعنف وتهديد ضد المسيحيين في العام الماضي. بينما رصدت “الجارديان” البريطانية 26 حالة هذا العام حتى الآن، وتضمنت واحدة منها محاولة من رهبان بوذيين تعطيل إقامة قداس كنسي. وأشارت الصحيفة البريطانية إلى وقوع عدد متزايد من الهجمات ضد مسيحيين في دول مختلفة مجاورة لسريلانكا، بما فيها باكستان وميانمار، والهند.
وفي بيان أُلقي أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في أكتوبر 2018، دعا التحالف الإنجيلي العالمي، حكومة سريلانكا إلى “إلغاء التشريعات التى تنتهك الحرية الدينية”. وفي أغسطس 2018، أكدت المحكمة العليا السريلانكية أن حق “الدعوة” الدينية لا يحميه الدستور، الذي يعطي البوذية “المكان الأول” بين جميع الديانات الأخرى ويضعها تحت حماية الدولة.
كما ذكرت وزارة الخارجية الأمريكية في تقريرها الصادر بشأن حقوق الإنسان في سريلانكا عن العام 2018، أن بعض القادة المسيحيين اشتكوا تعرضهم لضغوط من قبل السلطات الحكومية تهدف إلى إنهاء أو على الأقل تقليل إقامة القداسات الكنسية، التي ينظر إليها باعتبارها تجمعات غير قانونية.
وطبقا لمنظمة “الأبواب المفتوحة” المسيحية الخيرية، فإن سريلانكا تأتي في المركز 46 على قائمة تشمل 50 دولة هي الأعلى من حيث اضطهاد المسيحيين.
على خلفية ما سبق، يشير البعض إلى احتمال أن يكون مرتكب الحادث جماعة بوذية متطرفة.
ولكن على الرغم من تاريخ من الاضطهاد البوذي ضد المسيحيين (والمسلمين أيضا كما سيرد في السيناريو التالي) فإن تكتيكات العنف البوذي اقتصرت على التهديد بالقتل، وإحراق الممتلكات، والمشاجرات التي نادرا ما تؤدي إلى سقوط ضحايا من المسيحيين أو المسلمين، ولم تتطور أبدا إلى أعمال إرهابية منسقة، أو تفجيرات انتحارية أو حتى بعبوات ناسفة بدائية. وهو ما يجعل فرص هذا السيناريو أقل من غيره أيضا.
السيناريو الثالث: جماعات سلفية جهادية.. داعش
ورد في تقرير الإرهاب السنوي الصادر عن الخارجية الأمريكية عام 2016، أن “تركيز الأجهزة الأمنية في سريلانكا على العودة المحتملة لنشاط نمور تحرير تاميل الإرهابي أثرت على اهتمام الحكومة بالتهديدات الناشئة، والتي تشير إليها تقارير انضمام مقاتلين إرهابيين أجانب سريلانكيين إلى تنظيم داعش. ويؤكد هذا التقرير ما ورد في تقارير أخرى عن انضمام سريلانكيين – تقدر بعض المصادر عددهم ب 32 مقاتل – إلى داعش، وأن سريلانكا أيضا تعتبر دولة عبور للمقاتلين الأجانب من دول أخرى مثل المالديف إلى سوريا. مثل هذه المعلومات تشير إلى احتمال تنفيذ هجمات عيد الفصح على يد مقاتلين عائدين من مناطق الصراع في سوريا والعراق.
وكانت داعش، قد كشفت في نوفمبر 2015 في مجلتها الناطقة باللغة الإنجليزية، “دابق” هوية أول مواطن سريلانكي قُتل في سوريا، كان يقاتل في صفوفها. وزعمت الجماعة في منشورها المعنون بـــ “الإرهاب العادل”، أن محمد محسن شرفاز نيلام( وهو مواطن سريلانكي معروف أيضًا بكنيته أبو شريح السيلاني) قُتل في الفترة ما بين مايو ويوليو 2015 في الرقة في غارة جوية. وأكدت تقارير واردة في صحف سريلانكية رئيسية في 26 يوليو 2015، الشئ نفسه، نقلا عن مواطن سريلانكي آخر، يُدعى ثاقير أحمد ثادين. ووفقًا لوزارة الخارجية الأمريكية، فإن ثادين، المعروف بـ أبو دجانة السيلاني، هو شقيق نيلام ولا يزال يُعتقد أنه يقاتل في صفوف داعش في سوريا. وبحسبما جاء في مقال دابق، سافر شرفاز نيلام إلى سوريا مع 16 شخصًا آخرين من بينهم والديه وزوجته وأطفاله الستة.
ويعد نيلام وثادين من بين القليلين الذين انزلقوا نحو التطرف في وقت تمر فيه الجالية المسلمة في سريلانكا بأزمة هوية؛ نتيجة للصراعات المستعرة؛ أولاً، بين الأقلية الإسلامية في سريلانكا والأغلبية من البوذيين والتاميل، والثانية، وهي الأهم، النزاعات بين التجمعات الفرعية المختلفة داخل المجتمع الإسلامي ذاته في سريلانكا.
فعلى مدى السنوات القليلة الماضية منذ العام 2012، كانت جماعات سنهالية متشددة مثل “بودو بالاسينا” Bodu Bala Sena BBS التي تعني “القوة البوذية” تمارس العنف والاضطهاد ضد المسلمين. بل وترفض وجودهم من الأساس. وبحسب ما جاء في تقرير لمعهد دراسات السلام والصراع، في الهند، عارضت BBS في عام 2013، تقديم “جمعية العلماء المسلمين في سريلانكا” شهادة للمطاعم التي تخدم المسلمين تفيد بأن أطعمتها حلال، واستجابت الجمعية بالفعل وتوقفت عن منح هذه الشهادات. ثم أوجدت BBS مرة أخرى جدلاً من خلال معارضة “ارتداء النساء للعباءة الإسلامية. ويبدو أن لدى BBS كراهية متأصلة ضد المسلمين لدرجة أنها كانت تدعو إلى مقاطعة كاملة للمؤسسات والمحلات التجارية التي يملكها المسلمون. وتوجت هذه الأنشطة المعادية للمسلمين في الواقع بعنف ضد المسلمين ارتكبته BBS في “ألوثجاما” Aluthgama و”برويلا” Beruwela في مقاطعة “كالوتارا” Kalutara غربي سريلانكا. وفي أعمال العنف هذه، فقد ثلاثة مسلمين أرواحهم وتم إحراق عشرات المنازل والمتاجر المملوكة لمسلمين. وقد وقعت هذه الأحداث في يونيو 2014 خلال مظاهرة احتجاجية، نظمتها BBS في ألوثجاما Aluthgama لإدانة مشاجرة لفظية بين بعض الشباب المسلمين ورهبان بوذيين. وتكررت الحوادث على نطاق واسع في مارس 2018، مما دفع الحكومة إلى إعلان حالة الطوارئ بعد أن هاجم متظاهرون بوذيون شركات إسلامية ومنازل وأحد المساجد في مدينة كاندي وسط البلاد. وذكرت مصادر صحفية غربية أنه تم العثور على رجل مسلم ميتا في مبنى محترق فيما يبدو أنه كان ردا على قيام رجال مسلمين بضرب بوذي في وقت سابق.
هذا الخطاب المعادي للمسلمين الذي تمارسه الأغلبية السنهالية وتهميش المجتمع الإسلامي في سريلانكا، دفع الجالية المسلمة أكثر نحو العزلة، في محاولة بدورها لتطوير هوية مستقلة خاضة بها والحفاظ عليها. هذه العملية، لم تؤد فقط إلى الانفصال التدريجي للهوية الإسلامية في سريلانكا بعيدا عن هويات المجتمعات الأخرى، بل أدت أيضًا إلى صراع داخلي بين مختلف الجماعات الإسلامية التي تتنافس للسيطرة على المسلمين في سريلانكا. هذه العزلة وهذا التنافس، أوجدا بدورهما بيئة مثالية لدفع الشباب نحو التطرف. فبحسبما جاء في دراسة حديثة للمركز الدولي للدراسات الإثنية في سريلانكا، بعنوان “انقسام مجتمع – العلاقات الداخلية بين مسلمي سريلانكا”، فإن الفصائلية بين المسلمين تأتي مدفوعة بالرغبة في حماية مذهبهم الإسلامي والترويج له. ووفقًا للدراسة المذكورة، فإن الحركات الإسلامية التقليدية مثل الصوفية هي الآن في صراع مباشر مع جماعتى: الجماعة الإسلامية، وجماعة التبليغ. ويبدو أن الجماعة الإسلامية ومقرها باكستان، وجماعة التبليغ ومقرها الهند، قد خففتا من حدة أيديولوجيتهما بعد تشكيل داعش، وركزتا على القضايا المحلية والدعوة إلى التقوى والالتزام بشعائر الإسلام النقية. ومع ذلك، سرعان ما تفاقم هذا الصراع عندما قفزت حركات سلفية وهابية مثل جماعة التوحيد، الأمر الذي أدى بدوره إلى خلق صراع بين مدرستين فكريتين أساسيتين – الوهابية والصوفية في سريلانكا. وعلى الرغم من أن دراسة المركز الدولي للدراسات الإثنية المشار إليها تستنتج من المقابلات التي أجريت مع عناصر من مجموعات مختلفة مثل التوحيد، والتبليغ والصوفية، أنه لا توجد جماعات سلفية جهادية تعمل في سريلانكا في الوقت الحالي، إلا أنها تعترف بأنه “بينما يوجد حديث بين الشباب الساخطين حول تبني ممارسة السلفية الجهادية، إلا أن هؤلاء هم مجرد شباب عاطلون متأثرون بما حققته حركة السلفية الجهادية على مستوى العالم، ولكن بدون أي دافع أو وسيلة لجعل هذا حقيقة واقعة في سريلانكا”.
وبالنظر إلى هذه الخلفية، من المحتمل جدًا أن يكون لأيديولوجية داعش المتطرفة صدى في الداخل السريلانكي، ويمكن أن تملأ هذا الفراغ مستخدمة الصراع بين الوهابية والصوفية داخل المجتمع المسلم في سريلانكا. وربما تجد في سريلانكا فرصة للتمدد وتعويض خسارتها في المشرق العربي، واستعراض قدرتها على تنفيذ هجمات معقدة في بلد لا يمتلك الخبرة اللازمة لرصد واعتراض هجماتها قبل وقوعها.
وبافتراض صحة مثل هذا السيناريو، فإنه من المتوقع أن تتحول سريلانكا وأيضا الهند وإندونيسيا المتاخمتان لها إلى بؤرة نشاط إرهابي خطيرة، نظرا إلى انتشار جماعات السلفية الجهادية في البلدين الأخيرتين، وسهولة نقل المقاتلين والمعدات والأموال بين البلدان الثلاثة. إذ نظراً لقرب الهند الجغرافي، تُستخدم سريلانكا كنقطة عبور مفضلة لتهريب المخدرات والذهب والعملات المزيفة إلى الهند، ويمكن أن تستخدم أيضا كنقطة عبور للمقاتلين من وإلى الهند.
السيناريو الرابع: بصمة مزدوجة لداعش والتاميل
على الرغم من أن الهجوم يحمل بصمة داعش المميزة كما سبق وذكرنا، تبقى ثغرة تتعلق بإمكانية تنفيذ هجوم بمثل هذه الضخامة واتساع النطاق الجغرافي للأهداف، في بلد غير معروف بكثافة نشاط تنظيمات السلفية الجهادية. هنا، ربما لجأت داعش إلى استثمار خبرة جماعة مسلحة أخرى بالبلاد، وقدرتها على اختراق البلاد بسهولة والتعرف على الأهداف الأكثر ليونة والأسهل والأقل تأمينا، والأكثر إيلاما في الوقت نفسه، وأعني بها حركة نمور التاميل. وهو سيناريو غير مستبعد بالنظر إلى أنه سبق وكان لحركة نمور التاميل علاقات بجماعات إسلامية وغير إسلامية نشطة في جنوب شرق آسيا وفي الشرق الأوسط أيضا.
وكان لجبهة نمور التاميل صلات وثيقة مع العديد من الجماعات المسلحة في جميع أنحاء العالم. كما قدم الجناح البحري للتاميل الدعم اللوجستي لحركة المجاهدين، وهي جماعة باكستانية نشطة في منطقة كشمير المتنازع عليها بين الهند وباكستان، ولها صلة بتنظيم القاعدة. وأيضا جماعة أبو سياف في الفلبين، التي بايعت داعش في 2016. ويقال إن جبهة نمور التاميل أرسلت اثنين من خبراء القتال وخبراء متفجرات إلى جنوب الفلبين لتدريب أعضاء جبهة تحرير مورو الإسلامية. وفي 10 مارس 2007، نشرت مصادر صحفية نقلا عن كبير المتحدثين باسم جمعية “نرويجيون ضد الإرهاب” أن نمور التاميل منحت مئات جوازات السفر النرويجية المسروقة إلى شبكة القاعدة مقابل المال.
واستنادا إلى ما سبق، ربما لجأت داعش إلى استثمار العلاقة القديمة بين إحدى فروعها “أبو سياف على سبيل المثال” وحركة نمور التاميل، لتسهيل تدريب وإعداد وإمداد عناصرها في الداخل السريلانكي. وربما المساعدة في تحديد بنك الأهداف بما يحقق الأهداف من تنفيذ سلسلة هجمات ضخمة، وممتدة على نطاق جغرافي واسع في الداخل، من شأنها أن تحدث حالة اضطراب ورعب كبيرة. وتكون بمثابة تدشين مرعب لأول ظهور لجماعة داعش في سريلانكا.