شكلت أزمة الغذاء العالمية وارتفاع أسعارها هاجسًا يؤرق اقتصادات العالم ككل، وبشكل خاص اقتصادات الدول النامية، وبالرغم من تراجع وتيرة ضغوط الأسعار على أسواق الغذاء العالمية إلى حد ما منذ بداية الحرب الروسية في أوكرانيا، إلا أن تقرير منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) حمل توقعات بوصول فاتورة الواردات الغذائية العالمية إلى مستوى قياسي جديد العام الجاري، وإن كان نمو أسعار السلع الغذائية بوتيرة أبطأ بكثير مقارنة بالعام الماضي، ومع استمرار التضخم العالمي في أسعار السلع الغذائية، مدفوعًا بارتفاع أسعار الفواكه، والخضراوات، والسكر، ومنتجات الألبان، سيترك ذلك أثره على الطلب بالتراجع في البلدان الأكثر ضعفًا اقتصاديًا.
أولًا: تضخم أسعار المواد الغذائية
ترجع صدمات إنتاج المواد الغذائية إلى سنوات ماضية، وبالتحديد الفترة بين عامي 2019 و2021 بعد أن تسببت التغيرات المناخية المتطرفة، والتي تزامنت مع اضطراب سلاسل التوريد الناجمة عن الوباء، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار الغذائية محليًا وعالميًا، وساهم في ذلك أيضًا اضطراب سلاسل التوريد، والتي أثرت بالفعل على أسواق الأسمدة لترتفع أسعارها بنسبة 25% في أسعار الأسمدة بين مارس وأغسطس 2021، وفي عام 2022 وصل التضخم إلى أعلى مستوياته منذ عدة عقود في العديد من البلدان وسط الآثار غير المباشرة للحرب في أوكرانيا، إذ ساهمت القيود التجارية وتعطل وسائل النقل في ارتفاع أسعار الأسمدة بنسبة 50% في الفترة من فبراير إلى أبريل 2022.
وبالرغم من تباطؤ التضخم الإجمالي في سبتمبر عام 2022 إلا أن تضخم أسعار الغذاء استمر في الارتفاع، ولم يبدأ في التباطؤ بشكل أوضح إلا في أوائل عام 2023، إلا أن الأسعار لا تزال مرتفعة وأعلى بكثير من مستويات ما قبل الحرب في أوكرانيا في معظم البلدان، واعتبارًا من منتصف يوليو 2023، أفادت منظمة التجارة العالمية أن 59 من أصل 104 إجراءات تقييدية للتصدير، تم فرضها على الأغذية والأعلاف والأسمدة منذ بداية الأزمة الأوكرانية في أواخر فبراير 2022 ولا تزال قائمة، مما أثر على تجارة تقدر قيمتها بحوالي 24.5 مليار دولار أمريكي، وذلك بحسب التقرير الصادر في سبتمبر 2023 عن البنك الدولي.
وبلغ متوسط تضخم أسعار الغذاء المحلي على أساس سنوي13% في يونيو 2023، ليمثل انخفاضًا عن ذروته 16.9% في ديسمبر 2022، وعلى أساس شهري بلغ متوسط أسعار الغذاء المحلية 38.3% في يونيو 2023، وكان هذا الارتفاع في الأسعار في كل من البلدان المتقدمة والنامية خلال النصف الأول من العام الجاري مدفوعًا بتضخم أسعار الزيوت والدهون الصالحة للأكل، والخبز والحبوب، ومنتجات الألبان والمنتجات ذات الصلة، ويمكن متابعة تطور مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار الغذاء من خلال الشكل التالي:

ويعد متوسط التضخم الغذائي المحلي في البلدان النامية أعلى من نظيره في البلدان المتقدمة، وكانت بلدان أفريقيا وجنوب آسيا وغرب آسيا هي الأكثر تضررًا، ويمكن متابعة تضخم أسعار المواد الغذائية لعدد من الدول خلال الفترة من مايو 2023 إلى أغسطس 2023 من خلال الشكل التالي:

بحسب تقرير البنك الدولي عام 2023 فقد حققت عدد من الدول أعلى نسب تضخّم في أسعار الغذاء، هذا وقد سجلت فنزويلا أعلى نسبة تضخّم إسميّة في أسعار الغذاء حول العالم خلال الفترة الممتدّة من يونيو وحتى أغسطس من العام الحالي 2023 بنسبة بلغت 402% تليها لبنان بنسبة 279% ثم الأرجنيتن بنسبة 116%.
ثانيًا: واقع السلع الغذائية الاستراتيجية
أدت التقلبات التجارية المستمرة، في السنوات الأخيرة، بما في ذلك الحظر الأخير الذي فرضته الهند على تصدير الأرز، والقيود التجارية الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا والتوترات الجيوسياسية، بجانب التغيرات الجوية المتطرفة، وتغيرات السياسات والتطورات في الأسواق الأخرى، إلى زعزعة استقرار أسواق الغذاء والزراعة العالمية، مما أثار المخاوف بشأن الأمن الغذائي، وتقلب الأسعار، وأثر على أنظمة إنتاج الغذاء العالمية، ومرونة النظام التجاري العالمي والنمو الاقتصادي، وهو أحد أسباب تقلب التوازن بين العرض والطلب، ويمكن متابعة سوق الحبوب العالمية من خلال الشكل التالي:

وتشير التوقعات الأولى وفقًا لتقرير منظمة الأغذية والزراعة إلى أن الاستخدام العالمي للحبوب في عام 2023/2024 سيبلغ حوالي 2803 مليون طن، أي بزيادة 0.9% عن المستوى المقدر للفترة 2022/2023، وفي المقابل تشير التوقعات إلى زيادة محتملة بنسبة 1.0% في إنتاج الحبوب العالمي، ليصل إلى 2813 مليون طن، وتأتي هذه الزيادة المتوقعة في إنتاج الذرة، مع توقع زيادات أيضًا في إنتاج الأرز والذرة الرفيعة، كما تشير التوقعات إلى إنخفاض إنتاج القمح والشعير إلى ما دون مستويات عام 2022.
وبحسب أحدث تقرير صادر عن وزارة الزراعة الأمريكية تشير التوقعات المتعلقة بالقمح خلال عام 2023/2024 إلى انخفاض الإمدادات، وانخفاض الاستهلاك، وانخفاض التجارة، وانخفاض المخزونات، إذ تراجعت الإمدادات من القمح بمقدار 3.5 مليون طن إلى 1,051.0 مليون طن، وانخفض إنتاج القمح في أستراليا وكازاخستان وإثيوبيا، وفي المقابل ارتفع إنتاج القمح في الولايات المتحدة الأمريكية، وانخفضت التجارة العالمية بمقدار 1.1 مليون طن إلى 206.3 مليون طن بسبب انخفاض صادرات أستراليا والبرازيل وكازاخستان، وعوض ذلك النقص بشكل جزئي ارتفاع الصادرات الروسية، وعلى أثر ذلك هناك توقعات بانخفاض المخزونات العالمية للفترة 2023/2024 بمقدار 0.5 مليون طن إلى 258.1 مليون، وهو أدنى مستوى منذ 2015/2016.
أما الأرز فقد شهدت سوق الأرز العالمية اضطرابات كبيرة منذ أن بدأت الهند أكبر مصدر للأرز في العالم باستحواذها على ما يقرب من 40% من تجارة الأرز العالمية في عام 2022، في تنفيذ سلسلة من القيود على التصدير في يوليو، وشمل ذلك فرض حظر على صادرات الأرز الأبيض المطحون، وفرض ضريبة تصدير على الأرز المسلوق، وتحديد حد أدنى لسعر تصدير الأرز البسمتي في أغسطس لضمان توفر الأرز الأبيض غير البسمتي في السوق المحلية، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار الصادرات، وهو تكرار لموجة ارتفاع أسعار الأرز في عام 2008، وتشير توقعات الأرز العالمية للفترة 2023/2024 إلى زيادة طفيفة في الإمدادات والاستهلاك والتجارة، وارتفعت الصادرات العالمية بشكل طفيف بسبب الزيادات في صادرات كمبوديا وفيتنام.
ثالثًا: الأمن الغذائي العالمي
بحسب البنك الدولي فإن هناك ثلاثة دوافع رئيسة لانعدام الأمن الغذائي في عام 2023، الأول: الصراع إذ تسبب استمرار الحرب في أوكرانيا وتأثيرها على أسعار الغذاء العالمية، والصراع في السودان الذي أدى إلى ارتفاع مفاجئ في انعدام الأمن الغذائي في البلاد وتعطيل الأسواق الإقليمية، أيضًا الصراع في جمهورية أفريقيا الوسطى، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وهايتي، والنيجر، والصومال، واليمن.
أما العامل الثاني: فتمثل في التحديات الاقتصادية التي تواجه دول العالم، وبشكل خاص البلدان النامية، إذ لا تزال أسعار المواد الغذائية مرتفعة في العديد من الأسواق المحلية بسبب قوة الدولار الأمريكي، وارتفاع تكلفة المدخلات الزراعية والوقود، ومن ناحية أخرى، يعمل ارتفاع الدين العام على إعاقة قدرة العديد من البلدان على استيراد الغذاء وتخفيف الأزمة، خاصة في دول مثل أفغانستان، وبنجلاديش، وباكستان، وسريلانكا.
ويعد الطقس المتطرف الناجم عن المناخ هو السبب الرئيسي الثالث لانعدام الأمن الغذائي، حيث لا تزال العديد من البلدان تتعافى من موجات الجفاف والفيضانات الكبرى التي حدثت في السنوات السابقة، وتعد منطقة شرق أفريقيا على وجه الخصوص عرضة للطقس المتطرف، حيث تواجه دول مثل كينيا، والصومال، وتنزانيا، وأوغندا، تحديات كبيرة.
وبحسب منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) فإن هناك ما بين 691 مليونًا و783 مليون شخص يعانون من الجوع على مستوى العالم في عام 2022، وهو ما قوض فعليًا التقدم المحرز منذ عام 2015، فضلًا عن ذلك فقد ارتفع انعدام الأمن الغذائي من 25.3% في عام 2019 إلى 29.6% في عام 2022 مع تفاقم سوء التغذية.
ويؤثر انعدام الأمن الغذائي على 11.3% من سكان العالم، وهو ما يعني زيادة عدد الأشخاص الذين يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد بمقدار 180 مليون شخص عما كانوا عليه في عام 2019، وعلى الرغم من تحقيق بعض التحسينات في مؤشرات سوء التغذية، مثل تراجع معدلات التقزم خلال الفترة من عام 2012 إلى عام 2022، فإن الأهداف العالمية لا تزال بعيدة عن التحقيق، ويؤثر الهزال على 6.8% من الأطفال دون سن الخامسة، في حين لا يزال انتشار الأطفال الذين يعانون من زيادة الوزن ثابتًا عند 5.6%، ولم يتحسن انتشار فقر الدم بين النساء، وهو عامل خطر لمضاعفات الأمومة والفترة المرتبطة بالولادة، منذ عام 2015.
وتعتبر منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وأوقيانوسيا (باستثناء أستراليا ونيوزيلندا) معرضة للخطر بشكل خاص، حيث من المتوقع أن تصل معدلات انعدام الأمن الغذائي إلى 48.6% و32.5% على التوالي، بحلول عام 2030، وعلى الرغم من انخفاض انعدام الأمن الغذائي في جميع المناطق، يجب أن يكون التقدم العالمي لتحقيق الأمن الغذائي أسرع بمقدار 33 مرة من التقدم الحالي للوصول إلى هدف التنمية المستدامة المتمثل في القضاء على الجوع بحلول عام 2030.
وفقًا لما تم ذكره فإن للتحديات الاقتصادية وتغير المناخ وما خلفته جائحة كورونا والصراعات المسلحة تداعيات كبيرة على إتاحة المواد الغذائية، والقدرة على تحقيق التوازن بين العرض والطلب في الأسواق العالمية، وبالتبعية تضخم أسعار المواد الغذائية، فضلًا عن مدى فاعلية الجهود الدولية الهادفة للقضاء على الفقر، وتحسين الأمن الغذائي والتغذية، وتعزيز مؤشرات الصحة العالمية.