عندما نتحدث عن إسرائيل، فنحن نتحدث عن محتل سخر الاعلام من أجل فرض وجوده، والترويج لسردياته، وبناء تصورات مغلوطة عن شرعيته المزعومة. قال ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء إسرائيلي: لقد أقام الإعلام دولتنا على الخريطة، واستطاع أن يتحرك للحصول على شرعيتها الدولية، وتكريس جدارة وجودها، قبل أن تصبح حقيقة واقعة على الأرض. وظفت إسرائيل الاعلام للتسويق لوجودها، وقامت باقتباس آيات قرآنية استخدمتها بما يتلاءم مع الادعاءات الدينية اليهودية حول وعد الله لبنى إسرائيل بأرض إسرائيل لإضفاء الشرعية على مشروعها، دون ان تتحدث عما ترتب عن ذلك من احتلال أرض فلسطين، وانتهاك مقدساتها وتهجير أهاليها واعتداء على شعبها. ولان إسرائيل تعلم جيدا كيف نشأت وعلى حساب من نشأت، فقد وظفت الاعلام من أجل طمس الحقائق وتحريف الواقع. بعد احتلالها الأرض، تطورت أهداف اللوبى الإعلامى الاسرائيلى من إقامة وطن لليهود وكسب التأييد الغربى لشرعيته، إلى تلميع صورة إسرائيل أمام الرأى العام الدولي. قامت بتصدير نفسها كأفضل دولة فى المنطقة. دولة تسعى للسلام، تدافع عن الحريات والديمقراطية، وتمتلك جيشا إنسانيا ومتحضرا. بينما يخفى الاعلام الوجه الآخر، او بالأحرى الوجه الحقيقى، المرتبط بممارسات الاحتلال الإسرائيلى ضد الفلسطينيين من قتل وتشريد وتدمير واعتقال. سخرت إسرائيل كل طاقاتها ومواردها من اجل توجيه الرأى العام الغربى، وبناء تصورات بعيدة كل البعد عن الواقع. ادعت إسرائيل انها تشكل الجانب الإيجابى للنزاع الفلسطيني-الاسرائيلى، مقابل تشويه صورة الفلسطينيين. وصور اللوبى الاعلامى الإسرائيلى الجانب الفلسطينى، مرة، بأنه عنيف ومتشدد ومحب للحرب، وهو على استعداد للتضحية بشعبه لتحقيق أهدافه. وبالتالى، هو ليس شريكا للمفاوضات وغير قادر على الوصول إلى تسويات سياسية. ومرة بأنه ضعيف، لا يمكنه التوصل إلى تسوية سياسية، او التوصل إلى السلام. كما تم تصويره، كمن ينتهك التزاماته، وبالتالى لا يمكن الوثوق به. بالنسبة للمقاومة الفلسطينية، فقد صورها الاعلام الإسرائيلى بأنها جماعات إرهابية. وفى انكار صارخ لأسباب اندلاع عملياتها ضد المحتل، تركز الماكينة الإعلامية الإسرائيلية على تكرار نفس سردية المظلومية، وبأن أمن إسرائيل والإسرائيليين مستهدف من طرف عناصر إرهابية. فى حرب غزة الأخيرة، تجاهل اللوبى الإعلامى الإسرائيلى سبب إطلاق عملية الأقصى، وركز فقط على حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها، مروجا أخبارا زائفة عن قطع رءوس أطفال. الغرض طبعا التأثير على الرأى العام وكسب تعاطفه ودعمه فيما ستقوم به إسرائيل لاحقا، والذى ربما كانت تخطط له منذ فترة طويلة وتنتظر فقط ساعة الصفر. وبما ان الفرصة مواتية، تخوض إسرائيل حربا وحشية، ويبدو انها على استعداد لإحراق وتدمير غزة بالكامل ليس فقط بهدف القضاء على مقاتلى حماس، ولكن من أجل تنفيذها مخطط إسرائيل الكبرى. ولكى تكتمل معالم هذا المخطط لا بد من غطاء الشرعية التى حاولت ماكينتها الإعلامية توفيره، لكنها فشلت فى ذلك. حاولت إسرائيل فى بداية الحرب الادعاء بأنه دفاع مشروع عن النفس. سخرت الاعلام من أجل الترويج لوجهة نظرها هذه مقابل حجب كل الأصوات المخالفة او المساندة للشعب الفلسطينى، حتى لا يتردد فى الاعلام وعلى مواقع التواصل سوى رواية واحدة: رواية إسرائيل ومن يدعمها. لكن سرعان ما سقطت هذه الرواية عندما رأى العالم بما لا يدعو مجالا للشك وحشية إسرائيل واستهدافها المدنيين العزل. فى هذه الحرب، استطاعت إسرائيل تدمير البنية التحتية، واستطاعت ارتكاب مجازر وجرائم إبادة جماعية. قطعت الماء والكهرباء والغذاء عن اهل غزة، ومنعت عنهم المساعدات الانسانية. وبدعم امريكى، لا تزال تستهدف منازل المدنيين العزل، بجانب استهداف المستشفيات والمساجد والكنائس. لكن ما لم تستطع القيام به هو الحفاظ على السردية التى روجت لها طوال سبعة عقود.
ما خسرته إسرائيل فى حرب غزة أكثر بكثير مما حققته، ان كانت حققت شيئا يذكر. هى كل يوم تخسر مؤيدين جددا، لم يكونوا يعرفون عن القضية الفلسطينية الا ما كانت إسرائيل تروج له. لكنهم اليوم، امام وحشية المحتل وجرائمه، بدأوا يبحثون عن الحقيقة بدءا بالبحث عن أصل النزاع واسبابه ومراحله.
التظاهرات الشعبية التى شهدتها العديد من العواصم الغربية، والتى عبرت بشكل صريح عن التعاطف مع الفلسطينيين والتنديد بانتهاكات قوات الاحتلال الإسرائيلى، وبداية التشكيك فى الرواية الإعلامية الإسرائيلية، هو انتصار كبير للقضية الفلسطينية. ودورنا كعرب ان نبنى على هذا الانتصار وان نعرف العالم بحقيقة النزاع بكل اللغات وبكل الأساليب التى يفهمها. السرد المخالف لسردية إسرائيل بات مسئولية مشتركة، وهو خطوة على الطريق الصحيح!