في الآونة الأخيرة، كان اهتمام العالم بالغ إزاء تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري وتحقيق الأهداف المنصوص عليها في اتفاقية باريس بحلول عام 2050، برز ذلك بصورة جلية خلال محادثات المناخ الأخيرة «كوب 28»، التي شجعت البلدان والشركات للتركيز بشكل كبير على السعي نحو معالجة تغير المناخ من خلال إزالة الكربون من قطاع الطاقة ومن هذا المنطلق، يتزايد الاهتمام بالاقتصاد الدائري في جميع أنحاء العالم كوسيلة لتحقيق الاستدامة البيئية والاقتصادية ودوره في خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بما يحقق أهداف المناخ وفي هذا السياق، تسعى مصر بشكل متزايد للاستفادة من فوائد الاقتصاد الدائري وتطبيقه في البلاد كما يوجد العديد من الفرص المتاحة لتعزيز الاقتصاد الدائري في مصر فيمكن لإعادة التدوير وإعادة الاستخدام أن يخلق فرصًا للعمل ويعزز النمو الاقتصادي.
الوضع العالمي للاقتصاد الدائري
الاقتصاد الدائري هو الطريقة المنهجية للتنمية الاقتصادية، يهدف إلى الحد من النفايات وتقليل الاستهلاك واستعادة الموارد ويعتمد على فكرة أن الموارد الطبيعية هي ثروة يجب الحفاظ عليها، وليس سلعًا يمكن التخلص منها بعد استخدامها كما يركز على إعادة تدوير المواد وإعادة استخدامها وإصلاحها، بدلًا من التخلص منها. ويشمل الاقتصاد الدائري جميع أنماط الإنتاج الأساسية، بما في ذلك القطاعات الصناعية والاقتصادية التي تستخدم الموارد والتقنيات البيولوجية لإنشاء منتجات وخدمات حيوية.
لا يعد الاقتصاد الدائري مصطلحًا وليد السنوات الأخيرة، تم استخدام مصطلح الاقتصاد الدائري في الثمانينيات من القرن الماضي لوصف الاقتصاد المستدام الذي تحركه الطاقة الشمسية، والذي يتناسب مع حدود البيئة دون وجود قيود دائمة على النمو كما يستهدف تقليل المهدر من المواد والسلع والطاقة والاستفادة منها قدر الإمكان، ويقوم على ثلاثة مبادئ رئيسة وهي: القضاء على الهدر والتلوث، والاستخدام المستدام للموارد لخلق منتجات جديدة بما يفيد المجتمع والبيئة، والتحول نحو استخدام الطاقة المتجددة.
اتصالًا عملت كثير من الدول للتحـول من الاقتصاد الخطي إلى الاقتصاد الدائري ومن الدول الرائدة:
التجربة الصينية: اعتمدت الصين الاقتصاد الدائري كاستراتيجية تنموية 2002، وأصبح هذا الأمر نافذًا من خلال قانون تعزيز الاقتصاد الدائري الذي صدر في عام 2009،كما أصدرت الصين مؤخرًا خطة جديدة لتطوير الاقتصاد الدائري ففي يوليو 2021، أصدرت اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح خطة التنمية للاقتصاد الدائري وتهدف الخطة، إلى تنمية الاقتصاد الدائري من خلال مبادرات مختلفة، مثل تشجيع إعادة التدوير وإعادة التصنيع، وتصميم المنتجات الخضراء، والموارد المتجددة وتحدد الصين أهداف لتصل اليها في 2025 منها زيادة إنتاجية الموارد بنسبة 20% مقارنة بعام 2020. وخفض استهلاك الطاقة واستهلاك المياه لكل وحدة من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 13.5 %16% على التوالي، مقارنة بعام 2020 واستخدام 60 مليون طن من نفايات الورق، و320 مليون طن من خردة الصلب، وزيادة قيمة إنتاج صناعة إعادة تدوير الموارد إلى 5 تريليونات يوان (773) مليار دولار أمريكي.
التجربة الفنلندية: صُدرت خريطة طريق الاقتصاد الدائري لفنلندا عن طريق صندوق الابتكار الفنلندي Sitra في عام 2015، وتم تحديثها في عام 2019 تهدف الخريطة إلى تسهيل التحول من الاقتصاد الخطي إلى الاقتصاد الدائري من خلال تضمين إجراءات سياسية ومشروعات رئيسية ومبادرات ريادية كما تم تطوير مجموعة كاملة من المؤشرات لوصف تطور الاقتصاد الدائري في فنلندا منها مشروع CIRCWASTE، الذي يستمر لمدة سبع سنوات من 2016 إلى 2023 وهو يعزز الاستخدام الفعال لتدفقات المواد ويسعى لمنع النفايات وتطبيق مفاهيم إدارة الموارد والنفايات الجديدة بالإضافة إلى مساهمة جميع الإجراءات في تنفيذ الخطة الوطنية لإدارة النفايات وتوجيه فنلندا نحو الاقتصاد الدائري. يشرف على المشروع معهد البيئة الفنلندي، ويقوم المعهد بجمع مؤشرات الاقتصاد الدائري الاجتماعية، مثل فرز النفايات وإمكانية الوصول إلى إعادة التدوير للأسر.
تجربة تشيلي: تم تنفيذ استراتيجية الاقتصاد الدائري في تشيلي في أبريل 2020، مما جعلها واحدة من الدول الرائدة في هذا المجال وتم تحديد الفرص الاقتصادية المتاحة في الاقتصاد الدائري، مثل إعادة استخدام نفايات البناء التي تبلغ حوالي 7.1 مليون طن سنويًا والتي يتم التخلص منها في مكبات النفايات ويمكن أن يوفر إعادة استخدام هذه المواد في المباني ما يقدر بـ 315 مليون دولار سنويًا ويقلل من انبعاثات الكربون كما قامت تشيلي بتطوير استراتيجية وطنية للتعامل مع النفايات العضوية، وذلك للتصدي للانبعاثات العالية التي تنتج عن الغذاء يهدف ذلك إلى زيادة استعادة المواد العضوية وتقليل انبعاثات الكربون المتعلقة بالنفايات العضوية.
فرص واعدة للاقتصاد الدائري في مصر
تتميز مصر بتبنيها ممارسات الاقتصاد الدائري منذ فترة طويلة، حيث تم تسجيل وجود 46 منشأة تعمل في مجال جمع ومعالجة وإعادة التدوير قبل عام 1960 ومنذ ذلك الحين تطورت واتسعت عمليات إعادة التدوير، حيث وصل عدد المنشآت العاملة في هذا النشاط إلى 5992 منشأة حتى عام 2017 كما زاد عدد المنشآت في السنوات الثلاث الأخيرة بنسبة 138% مقارنة بمتوسط الفترة من 2010 إلى 2014، وبنسبة 131% مقارنة بمتوسط الفترة من 2000 إلى 2014، مما يشير إلى اتجاه متزايد في توسيع العمليات الدائرية في مختلف القطاعات الاقتصادية.
ووفقًا لمخططات إدارة النفايات، يشكل القطاع الصناعي نسبة 24.3% من المواد القابلة لإعادة التدوير، في حين يشكل القطاع الزراعي نسبة 43.5% من المواد العضوية القابلة لإعادة التدوير. بشكل عام يبلغ إجمالي نسبة القطاعين 67.8%، مما يعكس التزايد في مستوى الاستدامة والاهتمام بالاقتصاد الدائري في البلاد كما بلغ إجمالي المخلفات الموجودة في مصر 26 مليون طن سنويًا ولهذا قامت الاستراتيجية الوطنية الخاصة بالمخلفات بتخصيص 20% منها لإنتاج الكهرباء، و60% لتصنيع الأسمدة والوقود البديل، و20% يتم دفنها.
بالإضافة إلى إجمالي الفرص الاستثمارية لتنفيذ مشروعات لإنتاج الكهرباء من المخلفات نحو 974 مليون دولار، ونحو 319 مليون دولار لتنفيذ مشروعات إنتاج الأسمدة والوقود البديل، وجار إعداد البنية الأساسية والمحطات الوسيطة وإنشاء المدافن الصحية للتخلص من النفايات حتى عام 2027 وفقًا لاستراتيجية وزارة البيئة.
الأثر المباشر للاقتصاد الدائري
ساهم الاقتصاد الدائري في تنوع أشكال الاستثمار لأنشطة وعمليات جمع ومعالجة وإعادة التدوير: حيث يوجد بمصر 53 مصنعًا لإعادة التدوير لعام 2021 موزعة على مختلف المحافظات كما بلغ إجمالي عدد منشآت جمع وتدوير المخلفات 6 آلاف منشأة كما ساهم الاقتصاد الدائري في توفير فرص عمل دائمة ومؤقتة تقدر بنحو 37.2 ألف فرصة عمل لعام 2017 في حين وزّعت العمالة وفقًا للمهنة كالآتي: أصحاب المنشآت والعاملون بها يمثلون نسبة 82.4% في حين يمثل كل من المديرين والفنيين والمراقبين والإداريين نسبة 17.6%.
علاوة على ذلك مشاركة الاقتصاد الدائري لمصر في قطاع التجارة الخارجية من خلال عمليات استرجاع الموارد الطبيعية المعدنية متمثلة في “الحديد – الألومنيوم – النحاس – الرصاص – الزنك”، والتي تعد الأكثر أداء في تنفيذ أنشطة إعادة الاستخدام والتدوير سواء على مستوى العمليات الصناعية أو في حركة التجارة الدولية صادرات وواردات بالإضافة إلى نفايات الورق والكرتون وغيرها من الموارد.
وتبرز أهمية قطاع الموارد المائية في أولويات السياسة الوطنية ما كان له بالغ الأثر في عمليات إعادة التدوير: حيث تخطط مصر لتوفير احتياجاتها المائية من خلال إعادة تدوير المياه بأحدث التكنولوجيات عبر 5 مراحل العمليات إعادة التدوير بمقدار 20 مليار م3، واستيراد المياه في شكل منتجات غذائية من الخارج بمقدار 34 مليار م3. هذا وقد تزايد عدد محطات معالجة مياه الصرف خلال الفترة 2015 – 2020 وقد بلغت في عام 2015 نحو 388 محطة، في حين بلغ 440 محطة في عام 2020/2021 كما بلغت نسبة مياه الصرف الصحي المدار بأمان 65% وذلك من أجل تعزيز كفاءة إعادة الاستخدام والتدوير.
وفى الختام، منذ عام 2015 تهدف الجهود الوطنية في مصر إلى تعزيز البعد البيئي كإحدى أولويات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وقد تم بذل جهود كبيرة على مستوى الإقليم والقارة والعالم. وفي هذا السياق، استضافت مصر مؤتمرات وزراء البيئة الأفارقة لمدة عامين متتاليين، واستضافت المؤتمر العالمي للتنوع البيولوجي، بالإضافة إلى المؤتمر العالمي للتغيرات المناخية. وتتمتع هذه الجهود بأهمية كبيرة في ظل التحديات الجيوسياسية والبيئية والاقتصادية التي يواجهها المجتمع الدولي. اتصالًا، الاقتصاد الدائري هو نموذج اقتصادي له القدرة على إحداث تغيير إيجابي في مصر ويساعد على حماية البيئة، وخلق فرص عمل، وتعزيز النمو الاقتصادي من خلال اتخاذ مجموعة من الإجراءات من شأنها تعزيز الاقتصاد الدائري بمصر وتحقيق مستقبلًا أكثر استدامة.
الدراسات الاقتصادية وقضايا الطاقة