بعد تنفيذهما ضرباتٍ عسكرية متبادلة ضد مواقع لجماعات مسلحة مصنفة إرهابية خلال منتصف يناير 2024، فضّلت كل من باكستان وإيران اللجوء إلى التهدئة بدلًا من سيناريو التصعيد. فقد عقد مجلس الوزراء في باكستان، عقب الهجمات الإيرانية ضد مواقع قريبة من الحدود المشتركة يوم 16 يناير 2024، اجتماعًا برئاسة رئيس الوزراء المؤقت في البلاد، أنوار الحق كاكر، وقادة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الباكستانية تم التأكيد فيه على البدء مجددًا في إحياء العلاقات الدبلوماسية مع إيران وعودتها بشكل كامل.
وقبيل ذلك الاجتماع، وصف المتحدث باسم الخارجية الباكستانية إيران بأنها “دولة صديقة”، مؤكدًا على ضرورة إنهاء التوترات القائمة بين البلدين. كما تشاور وزيرا خارجية باكستان وإيران هاتفيًا وأكدا على عمق علاقات البلدين وأهمية نزع فتيل التوترات، واتفقا أيضًا على “ضرورة تعزيز التعاون على مستوى العمل والتنسيق الوثيق بشأن مكافحة الإرهاب”.
وبوجه عام أيضًا، لم تحاول إيران سكب المزيد من الزيت على النار لتعميق الأزمة، بل لجأت هي الأخرى إلى الحوار مع إسلام آباد.
إن ذلك السيناريو -التهدئة بين البلدين عقب الهجمات- كان أمرًا متوقعًا إلى حد كبير؛ وبدا مع ذلك أن الضربات الإيرانية ضد مواقع لـ “جيش العدل” في التراب الباكستاني كانت بغرض “جس نبض” إسلام آباد، بحيث إن عدم اعتراض باكستان على مثل هذه الهجمات كان سيدفع إيران إلى تنفيذ المزيد؛ بغية الانتقام أولًا من هجمات “راسك” التي قام بها التنظيم، والبدء ثانيًا في اقتلاع جذوره التي تمتد داخل الأراضي الباكستانية.
أما إسلام آباد، فقد كانت مجبرة على الرد ولم يكن أمامها خيار سوى ذلك؛ لعدة أسباب من بينها ضغط الشارع “السني” في باكستان وردع إيران لعدم تكرار هذه الهجمات مرة أخرى، كما كان لطبيعة الصراعات والعلاقات الخارجية الإقليمية الباكستانية دور آخر شجعها على القيام بالهجمات، وعلى وجه الخصوص طبيعة علاقاتها المتأزمة مع الهند، بمعنى أن الرد الباكستاني كان “رسالة ردع” أيضًا لنيودلهي.
وعلى أي حال، نتطرق فيما يلي لأبرز الأسباب التي دفعت باكستان وإيران إلى التهدئة بدلًا من التصعيد في ظل الأزمة الأخيرة:
أولًا- الدوافع الباكستانية:
تتعدد الدوافع الباكستانية التي شجعت الدولة على عدم التصعيد مع إيران عقب هجمات الأخيرة ضدها، حيث إن طهران كانت البادئة لهذه المواجهة القصيرة من التصعيد بعد استهداف مواقع لـ “جيش العدل” داخل باكستان. وتتنوع الدوافع الباكستانية في الواقع وتتعدد أكثر من نظيرتها الإيرانية، كما أن دوافع إسلام آباد تتسم بحساسية أكثر من العوامل التي شجعت إيران على نزع فتيل التوترات.
- مخاوف من اضطرابات طائفية محلية في باكستان:
يتراوح تعداد المواطنين الشيعة في باكستان -حسب أغلب التقديرات- ما بين 10% إلى 15% من مجموع السكان الإجمالي البالغ 247 مليونًا و653 ألفًا، أي ما يعادل تقريبًا حوالي 37 مليون شخص على أقصى تقدير، بينما يتبع أغلب المواطنين الباقين المذهب السني.
وتعاني باكستان منذ عقود، بل منذ قرون أيضًا، من موجات تطرف مذهبي ما بين السنة والشيعة، خاصة في ظل سيطرة ما تُعرف باسم “المدرسة الديوبندية” على كثير من التيارات الإسلامية هناك، والتي تعادي الشيعة بشكل صريح. وفي التاريخ الباكستاني منذ 1947، شهد الداخل الباكستاني عمليات عنف واسعة متبادلة بين الطرفين، كان من أبرزها حادث “باتي جيت” في 3 يونيو 1963 وحادث “لاهور” في فبراير 1978.
وتنشط العديد من الجماعات السنية المسلحة في الداخل الباكستاني والتي تضع على رأس أهدافها استهداف العلماء وتجمعات المواطنين الشيعة في الداخل الباكستاني، ومن بين أبرزهم جماعة “جيش الصحابة – سپاه صحابه” و”جيش جهنكوي – ارتش جهنگوى”.
ومن هذا المنطلق، تخشى الحكومة الباكستانية من تبعات الصراع مع إيران على أمنها القومي؛ بحيث إن تصعيد ذلك الصراع سوف يثير أولًا الشيعة في الداخل الباكستاني ضد الحكومة في إسلام آباد، وثانيًا قد يُدخل الجماعات الإرهابية على خط الصراع بين الطرفين، وهو ما سيقود في النهاية إلى تهديد الأمن القومي الباكستاني بشكل واسع لا لبس فيه.
- تجنب إثارة النزعات العرقية بين البلدين:
تخشى باكستان، وإيران أيضًا بالقدر نفسه، من أن مواصلة الهجمات في إقليم بلوشستان بين الجانبين قد تثير وتحيي النزعات والنزاعات الانفصالية لهذه القومية على الجانبين، سواء في باكستان أو إيران. حيث إن الهجمات التي قام بها الطرفان مؤخرًا قد أوقعت مدنيين بلوش ضحايا وليس فقط من الجماعات الإرهابية، مما يعني أن استمرار هذه الهجمات لوقت أطول تعني إثارة الجماعات المسلحة الانفصالية البلوشية في باكستان وإيران ضد حكومتي هذين البلدين، خاصة وأن البلوش في باكستان وإيران يعانون من الفقر وافتقاد فرص الوصول إلى السلطة والمناصب السياسية.
ويعني هذا بالتالي أن اضطراب الأمن في الإقليم على الناحيتين سوف يشكل فرصة ذهبية للمواطنين والجماعات المسلحة للعمل ضد الدولتين.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن المخاوف الباكستانية والإيرانية تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث تتهم إسلام آباد وطهران دولًا أجنبية بدعم البلوش في المنطقتين، ولطالما وجهت باكستان هذا الاتهام إلى نيودلهي التي نفته أكثر من مرة.
- منع تصاعد الهجمات الإرهابية من الجماعات المناهضة للحكم:
إلى جانب مخاوف تصاعد التوترات الطائفية، لجأت حكومتا إسلام آباد وطهران إلى التهدئة المبكرة، من أجل عدم منح فرصة للجماعات المناهضة للحكم في الدولتين لاستغلال حالة الاضطراب الأمني في البلدين، حال استمرار الهجمات، للعمل ضد الحكومتين المركزيتين هناك. وتأخذ إيران –مثل باكستان- في الحسبان هذا الأمر وتحسب له ألف حساب؛ نظرًا لحضور العديد من الجماعات المسلحة وغير المسلحة الأخرى التي تنشط ضد أنظمة الحكم في البلدين، سواء في الداخل أو الخارج.
- ترقب استثمار الهند لفرصة “اضطراب أمني واسع” في باكستان:
في تحركاتها الإقليمية والخارجية بوجه عام، تأخذ باكستان احتمالات ردود الفعل الهندية أو “استغلال الفرصة” من جانبها بعين الاعتبار؛ وذلك نظرًا للصراع طويل الأمد والعميق بينهما. لذا، فإن لجوء إسلام آباد إلى التهدئة مؤخرًا مع إيران قد لعبت فيه هذه الحسابات الاستراتيجية دورًا كبيرًا بشكل غير مباشر. هذا إلى جانب مخاوف باكستانية من حدوث توتر عرقي في البلاد تدعمه الهند يؤثر على استقرار الحكم والأمن بمفهومه الشامل.
- تجنب إعادة فتح الملفات الخلافية الأخرى بين البلدين:
تتشعب الخلافات بين باكستان وإيران على مدى العقود الماضية. فإلى جانب النزعات الطائفية المذهبية والعرقية، تتهم الدولتان بعضهما بعضًا بالتعاون مع استخبارات الدول الأجنبية سواء لدعم جماعات بعينها أو دعم وصول ونفوذ قوميات بذاتها، إلى جانب اتهامات بإيواء جماعات إرهابية انفصالية أو مناهضة للحكم في الدولتين. حيث تتهم إسلام آباد طهران بالتعاون مع الاستخبارات الهندية لدعم قومية البلوش، بينما ترى إيران أن الحكومة الباكستانية تئوي عددًا من الجماعات المسلحة الإرهابية التي تناهض الحكم في إيران.
وإلى جانب ذلك، تتعارض السياسات الخارجية الدولية للبلدين مع بعضهما بعضًا، كما تتضارب بعض ملفات المصالح الإقليمية والدولية أيضًا.
ولهذا وذاك، فضّلت الدولتان اللجوء إلى التهدئة؛ منعًا لإثارة مختلف هذه الملفات والمشكلات التي لا تزال عالقة.
- الاستعداد للانتخابات البرلمانية المقبلة في باكستان:
تستعد باكستان في الوقت الراهن لإجراء انتخابات تشريعية مقرر لها يوم 8 فبراير 2024، وذلك بعد انتهاء ولاية البرلمان في أغسطس الماضي وتشكيل حكومة تصريف أعمال للإشراف على الانتخابات برئاسة أنوار الحق كاكر.
وتجيء هذه الانتخابات في ظل أجواء مشحونة داخليًا في باكستان، مع حرمان رئيس الوزراء الأسبق عمران خان من الترشح للانتخابات في هذه الدورة، وسعي حزبه “حركة الإنصاف” لاستغلال حالة التعاطف معه للمشاركة في هذه الانتخابات. كما يتطلع رئيس الوزراء السابق شهباز شريف، للمشاركة والفوز بهذه الانتخابات، وذلك على غرار رئيس حزب “الشعب” الباكستاني، بيلاوال بوتو زرداري، نجل رئيسة الوزراء السابقة بينظير بوتو.
ولهذا، تسعى الحكومة والأجهزة الأمنية والجيش في باكستان لتهدئة الأوضاع الداخلية واستقرار الأمن لإتمام العملية الانتخابية أو عدم تأجيلها مرة أخرى على الأقل.
ثانيًا- الدوافع الإيرانية:
على الرغم من أن دوافع سير باكستان باتجاه التهدئة كانت أكثر عددًا وحساسية، إلا أن الحوافز التي شجعت إيران على التهدئة لا تقل أهمية في بعض جوانبها عن حساسية الداوفع الباكستانية.
- عدم إثارة النزعات الطائفية والقومية الداخلية في إقليم سيستان وبلوشستان السني:
بالنظر إلى المشكلات المتعددة القائمة بين العديد من الجماعات البلوشية المناهضة للحكم والحكومة الإيرانية، إلى جانب الظروف الصعبة التي يعاني منها سكان محافظة سيستان وبلوشستان الإيرانية السنية، رأت إيران أن التصعيد واستهداف البلوش في باكستان قد يدفع إلى المزيد من عمليات العنف في المحافظة ضد قوات الأمن الإيرانية والحرس الثوري، وهو ما يحمل في طياته إمكانية تمدد هذا المسار من العنف إلى مناطق أخرى في الداخل الإيراني.
كما لا يُستبعد في هذه الأحوال أن تتعاون الجماعات البلوشية في باكستان مع نظيرتها في إيران للعمل ضد الحكومة في طهران.
وتتزايد في الوقت نفسه فرص إثارة السكان السنة في المحافظة ضد الحكومة المركزية في طهران إذا ما واصل الجيش أو الحرس الثوري الإيرانيان استهداف مدنيين سنة بلوش في باكستان المجاورة. وتلوح في الأفق كذلك فرص تقديم إسلام آباد الدعم للجماعات البلوشية في إيران.
وعليه، فإن هذه السيناريوهات تُعد من بين الأسباب التي دفعت إيران للتهدئة السريعة مع باكستان.
- عدم قدرة إيران على فتح جبهات اشتباك متزامنة ومتعددة:
في الوقت الذي قامت فيه إيران باستهداف مواقع في باكستان ضد تنظيم “جيش العدل” البلوشي الذي تصنفه إرهابيًا، نفّذ الحرس الثوري هجمات في مدينة أربيل العراقية ضد مواقع قال: إنها “تجسسية تابعة للموساد الإسرائيلي”، وشن ضربات متزامنة أخرى ضد مواقع لتنظيم “داعش” الإرهابي في محافظة إدلب السورية.
وفي الوقت الراهن، تشتبك إيران –بشكل مباشر أو غير مباشر- إقليميًا ودوليًا أيضًا مع عدد من الفواعل والدول سواء في العراق أو في سوريا ولبنان وتشهد الساحة أيضًا انخراطًا لوكلائها في صراع شبه مفتوح مع الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض الدول الغربية الأخرى على خلفية الصراع في قطاع غزة وتداعياته في البحر الأحمر.
وتمر العلاقات الإيرانية الغربية أيضًا بمرحلة توتر لعدد من الأسباب من بينها الملف النووي ومسألة التعاون الإيراني الروسي في أوكرانيا إلى جانب “تشكك” بعض الدول الغربية في دعمها لحركة “حماس” الفلسطينية. وعلى الحدود مع أفغانستان، تعاني إيران من مسألة استقرار أمني حدودي، كما تتحسس كثيرًا لطبيعة علاقاتها مع حركة “طالبان” في كابل.
يعني هذا أن إيران تشتبك فعليًا مع عدد من التنظيمات والفواعل والدول خارجيًا، مما يدفعها لعدم التصعيد وفتح جبهة اشتباك أخرى مع دولة بحجم باكستان.
- تجنب القدرات العسكرية والاستخباراتية القوية لباكستان:
منذ وصول رجال الدين للحكم في إيران عام 1979، لم يسعَ النظام السياسي هناك إلى الصدام بشكل قوي مع دولة باكستان المجاورة؛ حيث تملك باكستان نفوذًا وثقلًا إقليميًا واضحًا عن طريق جيش قوي واستخبارات نافذة في المنطقة المحيطة يمكنهما -حال تمدد الصراع مع إيران– أن يؤثرا بشكل كبير على شبكة المصالح الاستراتيجية الإيرانية الخارجية الإقليمية.
ومن ناحية أخرى، تميل الكفة العسكرية لصالح باكستان مقارنة بالجيش الإيراني التقليدي الذي يعاني من تقادم كثير من معداته العسكرية، خاصة القوات الجوية، بينما يتمتع الجيش الباكستاني بامتلاك معدات عسكرية حديثة عن طريق علاقاته وشرائه إياها من دول غربية.
- تجنب سخط الشارع الإيراني:
في استطلاعات رأي متعددة أجرتها مراكز أبحاث خارجية خلال السنوات الماضية، وخلال التظاهرات والاحتجاجات التي جرت في إيران أيضًا في الفترة نفسها، تبين أن كثيرًا من الإيرانيين لا يتقبلون سياسات دعم دول أو منظمات بعينها في الخارج في العراق وسوريا ولبنان، أي أنهم لا ينسجمون مع طبيعة السياسات الإيرانية في تلك الدول، والتي يرون أنها تكلف الميزانية الإيرانية أموالًا.
وإذا ما فتحت إيران جبهة جديدة للاشتباك شرقي البلاد مع باكستان، سيصبح من المتوقع نمو سخط محلي سيترجم إلى تظاهرات رافضة للاشتباك مع باكستان؛ منعًا لحدوث انهيار أمني أو دخول الدولة في متاهة الفوضى والاضطراب الأمني الواسع. لذا، فإن تجنب التصعيد مع باكستان كان الخيار الأفضل أمام إيران.
- الحذر من إثارة النزعات القومية الأخرى في الداخل:
تجنبت إيران عن طريق التهدئة مع باكستان احتمالات إثارة القوميات الأخرى بها، أو تنشيط وإحياء بعض الجماعات المسلحة من هذه القوميات عملياتِها ضد الدولة استغلالًا لحالة الاضطراب الأمني التي يرجح أن تتزامن مع صراع مع باكستان المجاورة. إذ، لم تكن المخاوف تتركز فقط على الجانب البلوشي، بل يشمل ذلك القوميات الأخرى.
- الحسابات الإقليمية الأخرى (إسرائيل):
في ظل الصراع المفتوح بين إيران وإسرائيل على مختلف الجبهات، العسكرية والأمنية والاستخباراتية والمعلوماتية، تبرز هنالك قلاقل أمام صانع القرار الإيراني من أن توظف إسرائيل حالة الاضطراب الأمني والصراع الإيراني مع باكستان لصالحها ضد طهران، خاصة في ظل التوترات القائمة بسبب الملف النووي الإيراني والدعم الإيراني لعدد من الوكلاء بالمنطقة الذين استهدفوا مؤخرًا مصالح إسرائيلية.
كما ترى إيران ولا يستبعد صناع القرار بها إمكانية تعاون إسرائيل مع بعض خصومها في مثل هذه الظروف، وهو أمر يدفع طهران في الواقع إلى عدم التصعيد مع دول كبرى إقليمية.
الاستنتاج
مثّلت التهدئة الخيار الأفضل أمام باكستان وإيران بعد الهجمات الأخيرة التي قامت بها الدولتان. فقد تجنبت إسلام آباد وطهران الإضرار الاستراتيجي بمصالحهما وأمنهما القومي والإقليمي إذا ما ذهبتا إلى تصعيد أكبر. حيث لا يتعلق الأمر هنا بتوترات بينية يمكن السكوت عنها أو انتهاؤها بمرور الوقت، بل بكم كبير من الملفات المعقدة المذهبية والقومية والإثنية والإقليمية بين دولتين كبيرتين فضلتا عن طريق التهدئة عدم فتح هذه الملفات وعدم دخول أطراف ثالثة على خط الصراع بينهما.