المقدمة
صباح الأربعاء، فوجئ المصريون بقرار من لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي المصري. تضمن القرار تحرير سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار الأمريكي، تاركًا سعره يتحدد وفقًا لقوى العرض والطلب في السوق. ويُعد هذا القرار علامة مهمة في مسيرة الاقتصاد المصري، ويمثل خطوة جريئة نحو تحقيق الاستقرار الاقتصادي على المدى الطويل. تهدف هذه الخطوة إلى جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وزيادة الصادرات، وتحسين تنافسية الاقتصاد المصري على الصعيد الدولي.
جاء قرار تحرير سعر الصرف عقب خطوة مفاجئة من البنك المركزي المصري برفع أسعار الفائدة بنحو 600 نقطة أساس في نفس اليوم. تهدف هذه الخطوة إلى كبح جماح التضخم، الذي يُعد أحد أكبر التحديات التي تواجه الاقتصاد المصري في الوقت الحالي. لا شك أن تحرير سعر الصرف يُمثل تحديًا كبيرًا للحكومة المصرية، حيث قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة في المدى القصير. ومع ذلك، فإن الحكومة المصرية تُدرك أهمية هذه الخطوة على المدى الطويل، وتعمل على اتخاذ خطوات للتخفيف من آثارها السلبية على المواطنين. ويبقي السؤال هل نجح قرار تحرير الصرف في القضاء السوق السوداء؟
أسباب القرار
للإجابة على هذا التساؤل يجب تحديد الأسباب التي أدت إلى اتخاذ القرار، يأتي هذا القرار في سياقٍ معقدٍ يواجه فيه الاقتصاد المصري تحدياتٍ جمة، أبرزها التضخم وارتفاع سعر الدولار في السوق السوداء. انخفض التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في المدن المصرية حيث وصل إلى 29.8 بالمئة في يناير من 33.7 بالمئة في ديسمبر، وعلى أساس شهري، ارتفعت الأسعار بنسبة 1.6% في يناير، مقارنة بـ 1.4% في ديسمبر. وارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 1.4%، مقارنة بـ 2.1% في ديسمبر. وفي العام حتى يناير، ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 47.5%، بانخفاض من 60.5% في العام حتى ديسمبر. ويعد التضخم من أهم التحديات التي يعاني منها الاقتصاد المصري وتضغط على كاهل المواطن المصري، والشكل التالي يوضح تطور التضخم خلال الأشهر الماضية:

من ناحية أخرى، خسر الجنيه المصري أكثر من 50% من قيمته مقابل الدولار الأمريكي منذ بداية عام 2022، مما أدى إلى تفاقم أزمة نقص العملة الصعبة. ونتيجة لذلك، ظهرت السوق الموازية للعملة، حيث يتم تداول الدولار بأسعار أعلى بكثير من السعر الرسمي. وأدت هذه الظاهرة إلى فوضى عارمة في الاقتصاد المصري، حيث اعتمد التجار على أسعار السوق الموازية لتجنب الخسائر، مما تسبب في زيادة أسعار السلع. كما أدى نقص العملة الصعبة إلى حجز البضائع في الموانئ، مما أدى إلى نقص المعروض من السلع وزيادة التضخم.
كما أدى تفاقم أزمة سعر الصرف إلى انكماش نشاط الأعمال بالقطاع الخاص غير المنتج للنفط في مصر خلال فبراير 2024. فقد تراجع مؤشر مديري المشتريات (PMI) الخاص بالقطاع إلى 47.1 في فبراير، من 48.1 في يناير، ما يشير إلى تدهور كبير في وضع القطاع. وتمثل هذه القراءة أدنى مستوى لها في 11 شهراً، مما يعكس حجم التحديات التي تواجه الاقتصاد المصري. كما تفاقم إجمالي عجز صافي الأصول الأجنبية للبنوك المصرية، شاملةً البنك المركزي، ليسجل مستوى تاريخياً جديداً عند 28.96 مليار دولار نهاية يناير الماضي.
كما كان أحد أهم أسباب تحرير سعر الصرف هو نقص الاحتياطيات الأجنبية لدى مصر. كان البنك المركزي المصري يستنزف الكثير من الاحتياطيات الأجنبية لدعم سعر الجنيه المصري، مما أدى إلى انخفاضها بشكل كبير. وكان تحرير سعر الصرف أحد مطالب المستثمرين الأجانب. إذ طالب المستثمرون بتوحيد سعر الصرف وجعله أكثر شفافية. ويُعدّ قرار رفع سعر الفائدة خطوة ضرورية لمعالجة هذه التحديات، لكنه قد يكون له بعض الآثار الجانبية السلبية. فقد يؤدي إلى زيادة تكلفة الاقتراض على الشركات والأفراد، ولكن، على المدى الطويل، من المتوقع أن يساعد قرار رفع سعر الفائدة في استقرار سعر صرف الجنيه المصري، وجذب الاستثمار الأجنبي، وخفض التضخم.
توفير سيولة دولارية
في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي واجهتها مصر مؤخرًا، اتخذت الحكومة المصرية خطوات جريئة لتوفير العملة الصعبة، كان أهم هدفين تم إحرازهم صفقة رأس الحكمة واتفاق صندوق النقد الدولي. وقعت مصر والإمارات العربية المتحدة صفقة استثمار عقاري ضخمة بقيمة 35 مليار دولار، تُعرف باسم “صفقة رأس الحكمة”. تهدف هذه الصفقة إلى تنمية منطقة رأس الحكمة على الساحل الشمالي، وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتحفيز النمو الاقتصادي. أدى توقيع صفقة رأس الحكمة إلى تحسن كبير في أداء الجنيه المصري في السوق الموازية. ارتفعت قيمة العملة بنحو 20%، وتضيّقت الفجوة بين سعر الصرف الرسمي والسعر في السوق الموازية.
في أعقاب صفقة رأس الحكمة، تمكنت مصر من التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي لرفع قيمة التمويل الممنوح للبلاد من 3 مليارات دولار إلى 8 مليارات دولار. تأتي فوائد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي في حصول مصر على تمويل إضافي ضروري لدعم احتياطاتها من العملات الأجنبية، وتعزيز ثقة المستثمرين في الاقتصاد المصري. بالإضافة إلى فتح الباب أمام المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ودعم استقرار الاقتصاد المصري على المدى الطويل. بعد توقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، تستطيع مصر التقدم إلى صندوق الاستدامة البيئية التابع لصندوق النقد الدولي للحصول قرض بنحو 1.2 مليار دولار.
تُعدّ صفقة رأس الحكمة واتفاق صندوق النقد الدولي خطوات هامة على طريق انتشال مصر من أزمتها الاقتصادية. من خلال هذه الخطوات، تسعى الحكومة المصرية إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وتحفيز النمو الاقتصادي. ولكن، مع اتخاذ المزيد من الإجراءات الإصلاحية، تُمكنّ مصر من التغلب على هذه التحديات وتحقيق الازدهار الاقتصادي. فعلى الرغم من توفير كمية هذه النقد الأجنبي الذي يصل إلى حوالي 44.2 مليار دولار من كلا الاتفاقين، إلا أن لن يحدث تغيير جذري بالاستمرار في الإصلاحات الاقتصادية الجذرية.
القضاء على السوق الموازية
بعد سنوات من المعاناة مع السوق السوداء، اتخذت الحكومة المصرية خطوة جريئة بتحرير سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار الأمريكي. ولكن، هل نجح هذا القرار في القضاء على السوق السوداء بشكل نهائي؟ إن النجاح في القضاء على السوق السوداء يرتبط بمدى استمرار نالحكومة المصرية في تنفيذ إصلاحات اقتصادية. من ناحية المستثمرين، أصبح بإمكانهم الآن سحب وإيداع وطلب الدولارات بكل سهولة ويسر من البنوك. وذلك لسببين: توفر العملة الأجنبية في البنوك، وتساوي سعر الدولار في السوق الرسمي والسوق السوداء. وكان المستثمرون في السابق يضطرون للجوء إلى السوق السوداء للحصول على الدولارات، وذلك بسبب قيود البنك المركزي على تحويلات العملات الأجنبية، وانخفاض قيمة الجنيه المصري. وقد أدى ذلك إلى خروج العديد من المستثمرين من السوق المصرية، مثل مجموعة الشايع الكويتية، إحدى أكبر مشغلي العلامات التجارية للبيع بالتجزئة في الشرق الأوسط.
أما بالنسبة للأفراد، فقد تم إزالة القيود الائتمانية على تحويلات العملات الأجنبية. وهذا يعني: يمكن للأفراد الذين يعملون في مجال العمل الحر أو يستخدمون تطبيقات معينة في أعمالهم تحويل أموالهم بالعملة الصعبة بسهولة. كما سيتوقف الأفراد عن شراء الدولار كأداة للتحوط من مخاطر التضخم، خاصة بعد الخسائر التي تكبدوها نتيجة ارتفاع سعر الدولار في السوق السوداء. وأخيرًا، بالنسبة للمغتربين، فقد أصبح بإمكانهم الآن تحويل أموالهم لأسرهم في مصر بسعر صرف عادل. كان المغتربون في السابق يواجهون صعوبة في تحويل أموالهم عن طريق البنوك، وذلك بسبب انخفاض سعر صرف الجنيه المصري الرسمي. وذلك دفعهم إلى تحويل أموالهم عن طريق السوق السوداء، مما عرضهم لخطر النصب والاحتيال.
في الختام، يمكن القول إن تحرير سعر الصرف سيساهم إلى حد كبير في القضاء على السوق السوداء. ولكن، لا تزال هناك بعض التحديات التي يجب على الحكومة المصرية مواجهتها، مثل: الاستمرار في الإصلاحات الاقتصادية، والاستخدام الأمثل في إنفاق الأموال، ونشر الوعي بين الأفراد حول مخاطر التعامل مع السوق السوداء. مع اتخاذ هذه الإجراءات، ستتمكن الحكومة المصرية من القضاء على السوق السوداء بشكل نهائي وتحقيق الاستقرار الاقتصادي على المدى الطويل.