بتاريخ 8 يونيو 2024 قامت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بعملية جريئة ومفاجئة في مخيم النصيرات استطاعت خلالها تحرير 4 من الرهائن المحتجزين منذ 8 أشهر بعد عملية مركبة تعد الثالثة من نوعها، ليتم وصفها داخليًا على أنها نجاح استثنائي للجيش والإدارة السياسية اللذين التصق بهما الفشل منذ بداية عملية “طوفان الأقصى”، ومع بداية العملية العسكرية في قطاع غزة والتي كان لها أثر سلبي في تلاشي أسطورة “الجيش الأخلاقي”، بل وعرضت رئيس الوزراء للإدانة بجرائم حرب، ولكن نجاح عملية النصيرات كانت له تكلفة باهظة باستشهاد ما يقرب من 200 فلسطيني وإصابة 400 آخرين، كما تطرح العديد من التساؤلات.
كيفية تنفيذ العملية
كان للعملية تحديات كبيرة وتم تنفيذها من وحدة مكافحة الإرهاب “يمام” وجهاز “الشاباك”، وبالأخص عندما يتواجد الهدف داخل مناطق سكنية ومزدحمة وشملت عدة مراحل:
الأولى: الاستخبارات المكثفة لتحديد المواقع بدقة شديدة لعدة أيام، لأن حركة حماس تنقل الرهائن بشكل مستمر، وقد تطلب ذلك تعاونًا إسرائيليًا وبريطانيًا وأمريكيًا مشتركًا، فبالرغم من امتلاك إسرائيل أحدث تكنولوجيات الاستخبارات والتنصت على الاتصالات، ويتم تصديرها لعدة دول، إلا أنه كانت هناك مشاركة من قبل مسيرات وطائرات تجسس بريطانية وفريق أمريكي متخصص في تحرير الرهائن، بجانب معلومات استخباراتية من جهاز CIA عبر المسيرات والوسائل الأخرى للاستخبارات من أجل وضع أكثر المعلومات المتاحة للأجهزة الإسرائيلية لتحليلها، والوصول لمكان المحتجزين وتتبعه حسب مصادر أمريكية.
الثانية: عملية وضع الخطط والتدرب على سيناريوهات مختلفة من القوة المنفذة للعملية، وتطلبت أسابيع عديدة حسب المصادر الإسرائيلية، وتتم عادة هذه التدريبات في معسكر “تسيليم” أو ما يعرف بـ”غزة الصغيرة” للتدرب على القتال داخل المدن.
الثالثة: مرحلة التضليل والمناورة، فقبل تنفيذ العملية بأيام قليلة قامت القوات الإسرائيلية من الفرقة 98 العاملة في وسط قطاع غزة بإطلاق عملية تطهير جديدة في منطقة ما بين شرق “البريج” وشرق “النصيرات” ومنطقة “دير البلح” باتجاه الجنوب الشرقي، وهي المنطقة التي تم تحرير الرهائن منها، وكان غرض هذه المناورة هو تخفيف وتشتيت الدفاعات وحراسة الرهائن، مع عدم تعرض منطقة النصيرات للقصف الجوي لعدة أيام.
الرابعة: تنفيذ الهجوم وتم في تمام الساعة 11 صباحًا بشكل مفاجئ بالمقارنة مع العملية السابقة التي تمت ليلًا، وبحسب مصادر فلسطينية فقد تمكنت قوات “اليمام” من الدخول لمخيم النصيرات من خلال “عربة نقل للمساعدات الإنسانية” قدمت من اتجاه “محور نيتساريم” والرصيف الأمريكي العائم، وهو أسلوب متبع من الوحدة الإسرائيلية فقد استخدمت من قبل السيارات المدنية لمحاولة الاقتراب من الأهداف، وتحقيق عنصر المفاجئة، ومن ثم تمت مداهمة موقعين للمحتجزين في وقت واحد مع توفير غطاء جوي من المروحيات القتالية، وأثناء عملية الإخلاء تم التأمين بقصف جوي مكثف بواسطة الذخائر الدقيقة، وتدخل وحدات الجيش من القوات المدرعة لتغطية القوة المنسحبة باتجاه منطقة الجسر العائم المؤمنة بالوسائل الدفاعية الأمريكية.
التوظيف الداخلي لعملية إنقاذ الرهائن
عمل الإعلام الإسرائيلي على إبراز المهمة وتضخيم الحدث بشكل كبير لعدة أغراض، أهمها محاولة تخفيف حدة التوترات في الشارع الإسرائيلي الممتلئ بأهالي المحتجزين الثائرين على الحكومة للوصول لاتفاق يهدف لإطلاق النار والإفراج عن المحتجزين في أسرع وقت، وقد أعطاهم الحدث بعض الأمل بعدما نفذت الحلول العسكرية، على الرغم من الدمار والمأساة الإنسانية في قطاع غزة، إلا أن ذلك لم يُرضِ الشارع الإسرائيلي الذي أصبح يشعر بأنه محاصر من عدة جهات في وقت واحد، وبالأخص مع تزايد وتيرة الهجمات من شمال لبنان والتهديدات الإيرانية لتكون الإجابة الإسرائيلية هي إطلاق الآلة العسكرية فقط دون التطرق لأي حلول دبلوماسية.
كان للحدث فوائد أخرى وهي محاولة تلميع صورة الجيش الإسرائيلي بعد الاستمرار في حرب مطولة دون تحقيق أي ردع للفصائل الفلسطينية المستمرة في القتال حتى الآن بجانب رفع الروح المعنوية للجنود؛ حيث إنهم قد استطاعوا تضييق الخناق على حركة حماس، غير أن المصادر الغربية تشير إلى أن شبكة الأنفاق أسفل قطاع غزة توفر مرونة لانتقال مقاتلي حماس للمناطق التي انسحبت منها القوات الإسرائيلية مما يتطلب الإغارة عليها مرة أخرى من آن لآخر.
استفادت الحكومة الإسرائيلية أيضًا من نجاح العملية المعقدة فقد كانت بمثابة “قبلة حياة” لرئيس الوزراء الإسرائيلي، ولأول مرة توجه له عبارات الشكر من الصحافة الإسرائيلية منذ بداية الحرب، وكانت تتهمه بالتخاذل والفشل، واشتراكه في خسارة حليف إسرائيل الأول المتمثل في الولايات المتحدة. وفي عبارة موجزة، يستخدم نتنياهو هذه العملية لتخفيف الضغوط عليه من الرأي العام والمعارضين، وللحفاظ على تماسك الحكومة، وحتى مع استقالة غانتس وأيزنكوت يتم توظيفها باعتبارهما غير حريصين على تماسك الحكومة بقدر إعلائهما لمصالحهما السياسية الشخصية.
تأثير عملية بذور الصيف على استمرار الحرب
نفذت إسرائيل 3 عمليات ناجحة لتحرير 7 رهائن في خلال 8 أشهر، وهو معدل بطيء جدًا بالنظر الى الرغبة بتحرير ما يزيد على 100 محتجز، فهو أمر يتطلب العديد من الشهور إذا تم باستخدام القوة العسكرية التي تتطلب العديد من الترتيبات والاستعدادات من ناحية، وأيضًا يصاحبها العديد من الضرر الجانبي المتمثل في قتل الكثير من المدنيين العزل من ناحية أخرى، وهو أمر أصبح مربكًا وحساسًا جدًا للإدارة الإسرائيلية التي تتعرض لإدانة مستمرة بالإبادة الجماعية، ولكن كانت الاستراتيجية تنص على محاولة الضغط على حركة حماس بالقبول بشروط مرضية للإسرائيليين، وهو ما لم يتم حتى الآن بسبب عدم موافقة “السنوار” على شروط الهدنة الأمريكية المرسلة له منذ 30 مايو. وبالرغم من نجاح العملية فإن التوقيت لم يكن موفقًا فقد يدفع حركة حماس إلى فرض شروط أصعب بالتوازي مع تأمين أشد للمحتجزين المتبقين الذين قد يتم نقلهم مباشرة داخل الأنفاق بعد فشل تأمينهم داخل الأحياء السكنية بالنظر لتكرار الخطأ في العملية الحالية بعد العملية السابقة في رفح، وهو ما سيزيد من سوء الحالة الصحية لهم بالمقارنة مع تواجدهم مع عائلات فلسطينية تقدم لهم رعاية جيدة بالنظر إلى الحالة الصحية التي عاد بها المحتجزون الأربعة.
أيضًا قد يتم الاستمرار في تسويق العملية من “نتنياهو” و”بن جفير” و”سموتريتش” كدليل على الإصرار على العملية العسكرية في رفح، وباقي القطاع لإطالة أمد الحرب خوفًا من انتهائها ومقابلة محاسبة صارمة، على أن الفائدة الوحيدة من هذه العملية هو تجديد التعاون بشكل وثيق مع الإدارة الأمريكية التي دعمت العملية معلوماتيًا بطريقة مباشرة وعسكريًا بطريقة غير مباشرة، وهو ما جعل الرئيس الأمريكي يثني على نجاحها على عكس الشهور الأخيرة التي وصفت بأنها ليست الأفضل على مستوى العلاقات بين البلدين وأدت لتعليق العديد من صفقات السلاح، وبالأخص الذخائر الذكية ذات الوزن الثقيل، وتحاول الإدارة الإسرائيلية استغلال العملية أيضًا لتحسين سمعتها أمام المجتمع الأوروبي الداعم لحقوق الإنسان، والذي اعترف العديد من أعضائه بالدولة الفلسطينية، ومؤخرًا تم حرمان الشركات الإسرائيلية من التواجد في معرض الدفاع الأوروبي “Eurosatory” في فرنسا.
ختامًا، بلا شك سيتم إبراز عملية تحرير الرهائن في النصيرات كإحدى أنجح العمليات في تاريخ وحدة اليمام ليس فقط لدقة تنفيذها وصعوبة الهدف، ولكن لغرض استغلالها في معالجة أزمة الثقة بين المواطنين الإسرائيليين وحكومتهم، غير أنه بمرور الوقت سيتلاشى هذا النجاح تدريجيًا بسبب ضغط بقية أهالي المحتجزين لتحرير ذويهم عبر طرق دبلوماسية، مع وقف إطلاق النار لأن العمليات العسكرية تتطلب المزيد من الوقت لتنفيذها مع مزيد من التحديات، مما سيسبب المزيد من الحرج للإدارة الإسرائيلية التي طالها العديد من الاتهامات بالتقصير الأمني مع انهيار استراتيجية الردع التي كانت دائمًا صمام الأمان لإسرائيل عبر امتلاك أحدث التكنولوجيات العسكرية، ولم تستثمر أي جهود لمحاولة قبول الطرف الآخر بل تتلطخ أيدي مسئوليها بدماء بريئة في قطاع غزة ستبقى عالقة بتاريخهم إلى الأبد.