يمر إقليم القرن الأفريقي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين بالعديد من التحولات العميقة والمتسارعة، والتي من شأنها أن تعيد تشكيل الإقليم كليةً، وتأتي هذه التحولات على مستويات متعددة تتضمن الأوضاع الداخلية لدول الإقليم، والتوازنات في علاقاتها البينية، فضلًا عن التحولات الخارجية من حيث عدد اللاعبين الدوليين المتنافسين على ساحة القرن الأفريقي، أو من حيث طبيعة المصالح موضع التنافس.
في هذا السياق صدر عن المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية كتاب بعنوان “تحولات القرن الأفريقي: إعادة تشكيل الإقليم”، وذلك في يناير 2023، وارتبطت أهمية هذا الإصدار، بكونه محاولة من المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية للرصد والتحليل العميق للتحولات الجارية والمتسارعة التي يشهدها إقليم القرن الأفريقي، من حيث سرعتها وحدتها وأنماطها، وكذا الاعتماد على نهج مقارن على مستوى تقييم مدى تباين أو اتفاق هذه التحولات الجارية مع عمليات التحول السابقة التي شهدها الإقليم، جنبًا إلى جنب مع محاولة الوقوف على ماهية إقليم القرن الأفريقي في ضوء هذه التحولات ومسار عملية إعادة تشكيله، وفي هذا الإطار سلط الكتاب الضوء على مجموعة من السمات الرئيسية التي تطغى على التفاعلات الراهنة في إقليم القرن الأفريقي، ومنها: إعادة تقييم دور الحدود، وتعثر العمليات السياسية الطبيعية، وتغير آليات الصراع، وبروز دور المجموعات المسلحة دون مستوى الدولة، ووجود تحولات على مستوى النشاط الإرهابي ومكافحته، وتغير التركيبة الدينية في الإقليم، وانتشار الأنظمة السياسية الهجينة، وتمدد المجتمع الوطني والعالمي، وتذبذب المؤشرات الاقتصادية والتنموية، وتداعيات تغير المناخ وتدهور البيئة، واضطراب توازنات القوى البينية والإقليمية، وتنامي أثر المنافسة الدولية على الأوضاع الداخلية للإقليم، وتعدد التصورات المتنافسة لموقع القرن الأفريقي في العالم، وقد حاول الكتاب عبر ثمانية فصول الاشتباك مع هذه التحولات، ومناقشة أثرها على منطقة القرن الأفريقي.
أولًا- اتجاهات ظاهرة الإرهاب في القرن الأفريقي
سلط الفصل الأول من الكتاب الضوء على اتجاهات ظاهرة الإرهاب في القرن الأفريقي، مع التركيز على حالة ونشاط تنظيم حركة “شباب المجاهدين” الصومالية في الفترة من 2020 وحتى 2022، وانطلق الفصل من افتراض رئيسي قائم على كون ظاهرة الإرهاب هي إحدى الظواهر الرئيسية الآخذة في التمدد والكثافة في منطقة القرن الأفريقي منذ واقعة تفجير السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام عام 1998، مما جعل ظاهرة الإرهاب واحدة من أهم المحددات الحاكمة للتفاعلات الأمنية والسياسية في القرن الأفريقي، فضلًا عن تحول حركة الشباب منذ العام 2007، إلى واحدة من أهم الحركات الإرهابية في منطقة القرن الأفريقي والقارة بشكل عام.
وفي إطار رصدها لاتجاهات النشاط الإرهابي الخاص بحركة الشباب، ركزت الدراسة على مجموعة من السمات والعناصر الرئيسية؛ أولها: وجود اعتبارات رمزية وميدانية تخضع لها عملية اختيار الأهداف محل الاستهداف، بما يزيد من فاعلية هذه الهجمات الإرهابية، وثانيها: الاعتماد بشكل كبير في إطار النهج العملياتي للتنظيم على آلية “الاغتيالات” وخصوصًا اغتيال المسئولين الحكوميين، وثالثها: الاعتماد على إرهاب المواطنين والحكومة الصومالية عبر زيادة الاعتماد على الإعدامات بحق المدنيين، ورابعها: التحول لوضع الهجوم وتنفيذ عمليات استباقية ضد القوات المسلحة الصومالية، بمعنى الانتقال من موضع الدفاع وصد هجمات القوات المسلحة الصومالية، إلى موضع الهجوم وتنفيذ العمليات الاستباقية، وخامسها: توسيع بنك الأهداف الخاص بالتنظيم ليشمل استهداف القوات الأجنبية في الصومال، وسادسها: الاعتماد على استراتيجية التمدد في دول الجوار وخصوصًا كينيا وإثيوبيا وجيبوتي، انطلاقًا من اعتبارات سياسية وجغرافية وإعلامية.
أيضًا فقد ركزت الدراسة على رصد مجموعة من العوامل التي يمكن في ضوئها فهم تنامي أنشطة حركة الشباب، والإشكالات التي تواجه عملية المواجهة للتنظيم الذي يعد الأخطر في منطقة القرن الأفريقي؛ أولها: الغموض والتغيرات التي تطرأ على مقاربات الحكومات الصومالية المتعاقبة على مستوى مواجهة حركة الشباب والتعامل مع تهديدها، وثانيها: الأزمات البنيوية التي تشهدها بعض أجهزة الأمن الصومالية، وثالثها: تحولات البعثة الأفريقية والتغير في طبيعة الدعم الإقليمي، ورابعها: التغيرات المتواترة في الموقف الأمريكي من مكافحة الإرهاب بالصومال، وهي الإشكالات والمتغيرات التي أضفت المزيد من التحديات على مستوى مواجهة حركة الشباب.
ثانيًا- المشهد الديني المتغير في إثيوبيا: دراسة من منظور الاقتصاد السياسي للدين
انطلق الفصل الثاني في الكتاب، والذي ناقش المشهد الديني المتغير في إثيوبيا من منظور الاقتصاد السياسي للدين، من افتراض مهم وهو أن المجتمعات المسلمة والمسيحية في إثيوبيا شهدت منذ العام 1991 حقبة جديدة من التعددية الدينية، وذلك في أعقاب إصدار الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية سياسات جديدة وأطرًا قانونية استهدفت الاعتراف بالتنوع الداخلي في البلاد، بما أدى إلى رفع القيود السابقة على الممارسات الدينية، وجعل الدين أكثر وضوحًا في الفضاء العام.
لكن هذه الحالة خلقت نوعًا من المنافسة الدينية في إثيوبيا أحيانًا بين أبناء الدين الواحد، الأمر الذي حاولت الدراسة الوقوف عليه أبعاده عبر الاقتراب السياسي، واعتمادًا على النظرة الاقتصادية للدين، وهي النظرية التي تقوم على فكرة أن جانب العرض في السوق / المجال التنافسي الديني هو الجانب الذي يتم فيه تقديم منتجات دينية جديدة للمستهلكين، بينما يتمثل جانب الطلب في احتياجات الناس للدين وخدماته، فيسعى رجال الدين في ضوء ذلك للاحتكار في ضوء تعدد المنافسين.
وفي ضوء ما سبق ناقشت الدراسة هذا الموضوع عبر أكثر من زاوية، أولها: تسليط الضوء على المشهد الديني القائم في إثيوبيا، وثانيها: التركيز على تحولات المجال التنافسي بين الأديان والطوائف في إثيوبيا في حقب زمنية متعددة، وثالثها: مناقشة واقع المجال التنافسي داخل كل دين وطائفة في إثيوبيا.
ثالثًا- التطورات السياسية الداخلية وانعكاساتها على السياسة الخارجية الصومالية
ركز الفصل الثالث من الكتاب على دراسة انعكاسات التطورات السياسية الداخلية بالصومال على السياسة الخارجية للبلاد، وذلك من منظور أن السياسة الخارجية للدول هي مرآة وانعكاس لأوضاعها وطبيعة نظامها السياسي داخليًا، بمعنى أنه كلما كانت الأوضاع الداخلية للدول أكثر تماسكًا كلما كانت سياستها الخارجية أكثر فاعلية، وانطلقت الدراسة من افتراضٍ يتمثل في أن الدولة الصومالية استطاعت عبر إتمام الانتخابات التشريعية والرئاسية في مايو 2022، إرساء مبدأ التداول السلمي للسلطة، والوصول للحكم عن طريق الانتخابات، والابتعاد عن شبح انهيار الدولة، وإرساء استقرار نسبي مهد الانطلاق للتعامل بشكل أكثر فاعلية مع عدد من الملفات.
وفي هذا السياق حاولت الدراسة مناقشة هذه الافتراضات عبر مجموعة من المحاور؛ أولها استعراض أوجه الأزمة السياسية الممتدة في مرحلة ما قبل الرئيس حسن شيخ محمود، وخصوصًا في مرحلة الرئيس محمد عبد الله فرماجو، منذ 2017 وحتى 2022، مع التركيز على بعض الإشكالات السياسية الرئيسية في تلك الفترة، وثانيها: الانتقال إلى بيان أهمية ومحورية الانتخابات التشريعية والرئاسية في مايو 2022، من حيث كونها مثلت تفكيكًا للأزمة السياسية، وثالثها: بيان أوجه انعكاسات التغيرات الداخلية بالصومال على السياسات الإقليمية للبلاد، ورابعها: مناقشة انعكاسات هذه المتغيرات على علاقة الصومال بالقوى الدولية.
رابعًا- التغيرات البيئية وأثرها في الأمن والاستقرار في منطقة القرن الأفريقي
ناقش الفصل الرابع من كتاب “تحولات القرن الأفريقي”، انعكاسات التغيرات المناخية على منظومة الأمن والاستقرار في منطقة القرن الأفريقي، من منطلق أن التهدور المناخي والتغيرات البيئية، باتت تمثل تهديدات وجودية بالنسبة للبشرية، وتعدت في أثرها الحدود الوطنية، ولم تعد مجرد كونها قضايا بيئية، بل وصلت إلى مرحلة كونها تهديدًا للأمن والسلم الدوليين، كما انطلقت الدراسة من افتراض أن التغيرات المناخية باتت واحدة من أكبر التهديدات التي تواجه منطقة القرن الأفريقي، خصوصًا مع صعوبة التكيف معها والتعامل مع تداعياتها المتسارعة.
وفي هذا السياق ناقشت الدراسة هذه الافتراضات من خلال جملة من الملفات الرئيسية، أولها: تسليط الضوء على الاتجاهات المتسارعة للتحولات البيئية في القرن الأفريقي، ومناقشة التداعيات المركبة للتغيرات المناخية على منطقة القرن الأفريقي، خصوصًا على المستوى الأمن، بما أكد افتراضات أخرى وعلى رأسها أن التغيرات المناخية والتدهور البيئي من شأنهما أن يزيدا من وتيرة الصراعات وإطالة أمدها في منطقة القرن الأفريقي، بما يقوض عمليات وجهود بناء السلام.
خامسًا- الهيئة الحكومية للتنمية (إيجاد) وأدوارها الإقليمية المتنامية في القرن الأفريقي
باتت المنظمات والتجمعات الإقليمية تلعب أدوارًا تكاملية في العديد من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهي الأدوار التي تجاوزت مفهوم الدولة الوطنية على مستوى الفاعلية، بما أضفى المزيد من الأهمية والفاعلية بالنسبة لهذه المنظمات، وفي هذا السياق حاول الفصل الخامس من الكتاب مناقشة طبيعة وأهمية الهيئة الحكومية للتنمية (إيجاد).
وفي إطار تناولها لطبيعة أدوار وأهمية منظمة “إيجاد”، ركزت الدراسة على تسليط الضوء على الأطر القانونية والمؤسسية لمنظمة الإيجاد، ومناقشة خلفية نشأة المنظمة، كما ركزت الدراسة على تسليط الضوء على أبعاد وأنماط تفاعل منظمة “إيجاد” مع القضايا الإقليمية في منطقة القرن الأفريقي، وأبرز هذه القضايا، جنبًا إلى جنب مع التركيز على مواقف منظمة “إيجاد” تجاه الأزمات الإقليمية في منطقة القرن الأفريقي، والانطلاق من ذلك لمحاولة الوقوف عل مستقبل التكامل الإقليمي بين دول القرن الأفريقي في إطار منظمة “إيجاد”.
سادسًا- تطورات التجارة الخارجية والبنية التحتية في القرن الأفريقي
مع الإقرار بغلبة الجوانب السياسية والأمنية على التفاعلات التي تشهدها منطقة القرن الأفريقي، فإن هناك جملة من التحولات الاقتصادية المهمة التي تشهدها هذه المنطقة الاستراتيجية، الأمر الذي استدعى تخصيص الفصل السادس من الكتاب لمناقشة هذا الملف، عبر ثلاثة محاور رئيسية؛ أولها: الأهمية الاقتصادية لمنطقة القرن الأفريقي وتصاعد التنافس الدولي، وثانيها: التحولات التجارية التي تشهدها منطقة القرن الأفريقي، وثالثها: تحولات البنية التحتية في القرن الأفريقي.
وعلى الرغم من الإقرار من خلال المؤشرات التي استعرضتها الدراسة بوجود فرص اقتصادية كبيرة وواعدة في منطقة القرن الأفريقي، فإن معدلات الاستفادة والبناء على هذه الفرص تواجه عددًا من الإشكالات وعلى رأسها استمرار الأزمات وعدم الاستقرار في عدد من دول المنطقة، وأزمات الفقر المتنامية، وانعدام الأمن الغذائي، وكذا تداعيات التغيرات المناخية.
سابعًا- السياسات الأمريكية تجاه القرن الأفريقي: التوجهات الجديدة لإدارة “بايدن”
خُصص الفصل السابع من الكتاب لمناقشة المقاربة والسياسات الأمريكية تجاه منطقة القرن الأفريقي، انطلاقًا من افتراض أساسي يتمثل في كون هذه المنطقة تحظى بأهمية كبيرة في إطار السياسة الخارجية للولايات المتحدة، على كافة المستويات سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا.
وفي هذا السياق ركزت الدراسة على استعراض أوجه أهمية منطقة القرن الأفريقي بالنسبة للولايات المتحدة وإدارة “بايدن”، عبر عدد من المحاور الرئيسية؛ أولها: استعراض المصالح الأمريكية في القرن الأفريقي، وثانيها: رصد مؤشرات تنامي اهتمام إدارة “بايدن” بمنطقة القرن الأفريقي وما يحمله ذلك من دلالات، وثالثها: تسليط الضوء على ممارسات وأنماط تفاعل إدارة “بايدن” مع منطقة القرن الأفريقي.
ثامنًا- عسكرة السياسة الخارجية الصينية تجاه القرن الأفريقي: السياق والدوافع
أبدت جمهورية الصين الشعبية اهتمامًا لافتًا منذ عقود بمنطقة القرن الأفريقي، وذلك في إطار مقاربتها لتعزيز نفوذها وشبكة مصالحها على المستوى الدولي، وقد شهدت السياسة الخارجية للصين تجاه منطقة القرن الأفريقي تحولات عديدة في العقود والسنوات الأخيرة، كان أهمها التحول من الاعتبارات الأيديولوجية كمحدد للعلاقات الصينية الأفريقية، إلى البراجماتية وتحقيق المصلحة الصينية كأساس لهذه العلاقات، جنبًا إلى جنب مع “عسكرة” تفاعلات الصين تجاه القرن الأفريقي.
وفي هذا السياق ركزت الدراسة على عدد من المحاور الرئيسية؛ أولها: مناقشة المحددات التي تحكم السياسة الخارجية الصينية تجاه أفريقيا بما في ذلك منطقة القرن الأفريقي، وثانيها: تسليط الضوء على اتجاهات ومسارات تطور المقاربة الصينية تجاه القارة الأفريقية، وثالثها: مناقشة موقع أفريقيا في الاستراتيجية الصينية العسكرية، ورابعها: مناقشة استراتيجية القواعد العسكرية الصينية في القرن الأفريقي.