أثارت قرارات وزارة التربية والتعليم الأخيرة بشأن التغلب على مشكلات الكثافة والعجز في أعداد المعلمين وتخفيف مواد الثانوية العامة حالة من الجدل كان من الممكن تجنبها إذا خرجت تلك القرارات بتوصية من المجلس الوطني للتعليم الذي وافق مجلس الوزراء على مشروع قانون إنشائه في مايو 2024 بهدف وضع السياسات العامة للتعليم بكل أنواعه وجميع مراحله بعد مناقشة الفكرة خلال المرحلة الأولى من الحوار الوطني، إلا أن مشروع القانون لم يتم طرحه للمناقشة في مجلس النواب حتى كتابة هذه الأسطر، الأمر الذي يمكن تفسيره إما بأن هناك بعض التحسينات يتم إدخالها على مشروع القانون، أو بأن إنشاء المجلس لم يعد ضمن الأولويات الحكومية بعد التغيير الوزاري ونشر برنامج عمل الحكومة الذي لم يُشر في أيٍّ من أهدافه إلى إنشاء المجلس.
كيف يؤثر المجلس الجديد في أدوار المجالس العليا للتعليم؟!
وفقًا لما طرحه مجلس الوزراء، فإن المجلس الوطني للتعليم يحوّل المجالس العليا سواء للتعليم قبل الجامعي أو للجامعات بأنواعها أو للأزهر من مجالس معنية بتخطيط التعليم ورسم سياساته إلى مجالس تنفيذية تلتزم بتنفيذ السياسات التي يضعها المجلس الوطني، الأمر الذي يفرض إعادة النظر في أدوار تلك المجالس وتعديل الإطار التشريعي الحاكم لعملها، لا سيما المجلس الأعلى للتعليم قبل الجامعي باعتباره الأكثر تداخلًا مع المجلس الوطني الجديد في النقاط التالية:
أولًا- الاختصاصات:
يختص المجلس الوطني الجديد بوضع الاستراتيجية الوطنية والخطط والبرامج لتطوير التعليم، وآليات متابعة تنفيذها، ومراجعة وتحديث الأولويات الوطنية في مجال التعليم، ووضع مخطط قومي لتطوير البنية التحتية للمدارس بكافة أنواعها ومراحلها، وهو ما يتداخل بشكل صريح مع أدوار المجلس الأعلى للتعليم قبل الجامعي الذي يختص برسم خطط وبرامج التعليم قبل الجامعي وفقًا للمادة الثانية من قانون التعليم، 139 لسنة 81، ويتحمل مسئولية تحديد الخطوط العامة للسياسة التعليمية والتربوية في مراحل التعليم قبل الجامعي ونوعياته كافة، ووضع سياسة ربط التعليم بخطة التنمية الشاملة للدولة وتطويره، ورسم السياسة التي تهدف إلى إعداد هيئات التدريس وتوفير القوى البشرية اللازمة لمختلف مراحل التعليم ونوعياته وفقًا لما جاء في القرار الجمهوري رقم 523 لسنة 81.
علاوةً على ذلك، سوف يقوم المجلس الوطني الجديد بتطوير الهياكل التنظيمية للمؤسسات القائمة على تنفيذ العملية التعليمية، وتطوير نظم التشغيل بما يضمن كفاءة تحقيق الأهداف المخططة، وهو أمر جيد إلا أن الهيكل التنظيمي الجديد لوزارة التربية والتعليم لم يتجاوز عمره العامين، كما أن هذه الأدوار تتداخل مع أدوار الإدارة المركزية للإدارة الاستراتيجية التي تضم إدارات عامة للتخطيط الاستراتيجي والسياسات، والمتابعة والتقييم، وإدارة الأزمات والكوارث، الأمر الذي يفتح مجالًا للتساؤل حول مستقبل تلك الإدارة وأدوارها.
ثانيًا- التشكيل:
لم يوضح البيان الصادر عن مجلس الوزراء بشأن مشروع قانون إنشاء “المجلس الوطني للتعليم والبحث والابتكار” عدد أعضاء المجلس المستحدث، حيث تمت الإشارة إلى أن المجلس يتبع رئيس الجمهورية ويشكل برئاسة رئيس مجلس الوزراء وعضوية الوزراء المعنيين ورؤساء الجهات ذات الصلة وعدد من الخبراء المتخصصين ورجال الأعمال، ولكن مشروع القانون الذي تناولته جلسات الحوار الوطني خلال العام المنصرم تضمن 12 وزيرًا بالإضافة إلى 8 خبراء ورؤساء جامعة الأزهر وهيئة ضمان جودة التعليم وهيئة ضمان جودة التعليم الفني وأمين المجلس الأعلى للجامعات، الأمر الذي يجعل تشكيل المجلس الوطني لا يختلف كثيرًا عن تشكيل المجلس الأعلى للتعليم قبل الجامعي، حيث يتشكل الأخير من ممثلين عن 8 وزارات بدرجة وكيل أو وكيل أول وزارة، والأزهر والمجلس الأعلى للجامعات وعدد من الخبراء.
جدوى إنشاء المجلس في ظل ثبات العوامل ذات التأثير
إذا كان إنشاء المجالس الوطنية للتعليم في مختلف دول العالم يقوم على منح تلك المجالس صلاحيات تتعلق بتنظيم قطاع التعليم وتحديد هياكله التنظيمية، بالإضافة إلى تحديد الاحتياجات المالية وتوزيع الموارد المتاحة ومراقبة الإنفاق، ووضع الخطط الاستراتيجية للمؤسسات التعليمية على اختلاف مستوياتها بهدف ضمان جودة نظام التعليم وفق مؤشرات أداء مستندة للأدلة، فإن المجلس الوطني المستحدث في مصر من شأنه أن يحقق نقلة نوعية في إدارة نظام التعليم وتحقيق أهدافه، خاصة لو أتيحت الفرصة للمجلس المزمع إنشائه للتعامل مع التحديات الهيكلية ذات التأثير الأكبر في التعليم في مصر، والتي يمكن تلخيصها في العناصر الآتية:
أولًا- ضعف القدرة على توظيف كوادر بشرية مؤهلة:
على المستوى الإداري، تم اعتماد وتفعيل الهيكل الإداري الجديد لوزارة التربية والتعليم منذ أكتوبر 2022، إلا أن عددًا من الإدارات المركزية والإدارات العامة داخل ديوان الوزارة تخضع لإشراف مدير إدارة مركزية أو عامة أخرى، مما يعني ضعف قدرة الوزارة على توظيف كوادر مؤهلة في وظائف المستوى الأول الشاغرة بما ينعكس بالضرورة على أداء تلك الإدارات، وينطبق الأمر نفسه على المديريات والإدارات التعليمية التي تعاني عجزًا في أعداد الإداريين في المستويات الوظيفية المختلفة.
أما على مستوى المعلمين، فيزيد العجز عن 400 ألف معلم في مختلف التخصصات رغم الشروع في تعيين 30 ألف معلم سنويًا منذ عامين، ولم تنجح الجهود المبذولة سواء تلك المتمثلة في التعاقد مع 50 ألف معلم بنظام الحصة، أو إصدار قانون مد خدمة المعلمين حتى 65 سنة في تقليل الفجوة القائمة بين احتياجات المدارس من المعلمين وما تحصل عليه فعليًا.
ثانيًا- ضعف المخصصات المالية لقطاع التعليم والتحكم في توزيعها:
ارتفعت المخصصات المالية لوزارة التربية والتعليم من 55 مليار جنيه في العام المالي 2013 / 2014 إلى أكثر من 130 مليار جنيه في العام المالي 2023 / 2024، إلا أن هذه الزيادة الكبيرة خلال عشر سنوات لم تساعد في تخفيف وطأة مشكلات نظام التعليم المزمنة المتمثلة في ارتفاع الكثافات والعجز في أعداد المعلمين وضعف الأنشطة التعليمية وغيرها، حيث تذهب 90% أو أكثر من هذه المخصصات لبند الأجور والتعويضات، ولا يسعى أي طرف لتغيير هذا الواقع عند مناقشة مشروع الموازنة العامة للدولة وإقراره.
على صعيد آخر، أكدت الخطة الاستراتيجية لقطاع التعليم (2023 / 2027) التي أعدتها وزارة التربية أن مخصصات الوزارة كان من المنتظر أن تبلغ 270 مليار جنيه خلال 2024 بدون مخصصات خدمة الدين، وأن يستمر هذا الرقم في الزيادة حتى 2027 ليبلغ 393 مليار جنيه بما يسهم في حل المشكلات المذكورة سلفًا، إلا أن ذلك لم يحدث في موازنة العامين الحالي والسابق.
ثالثًا- المركزية وصعوبة تفويض السلطات:
لا تتسم عملية إدارة النظام التعليمي في مصر بالمرونة الكافية، فنجد أن هناك مركزية شديدة في تنفيذ بعض الأنشطة التي يمكن تفويض سلطتها من الوزارة إلى المديريات التعليمية، فطباعة وتوزيع الكتب المدرسية على سبيل المثال نشاط مركزي مكلف، قد يسهم تحويل مسئوليته للمديريات التعليمية في خفض التكلفة وتحسين جودة الكتب وتقليل وقت التوزيع بما يمكن كل طالب من الحصول على كتبه بالتزامن مع بدء العام الدراسي، الأمر نفسه ينطبق على وجبات التغذية المدرسية، وخطة العام الدراسي فيما يتعلق بمواعيد بدء وانتهاء العام الدراسي وفق ظروف كل إقليم.
نحو دور أكثر فاعلية
كل العوامل السابقة وغيرها في السياق المحيط بنظام التعليم المصري قد تؤدي إلى تحجيم المجلس الوطني للتعليم وتقزيم أدواره إلى المستوى المتحقق نفسه في المجالس العليا للتعليم والجهات المعنية بتخطيط التعليم ورسم سياساته القائمة بالفعل، الأمر الذي يفرض مراجعة متأنية لمشروع القانون الخاص بإنشاء المجلس وإعادة صياغة صلاحياته على غرار ما تقوم به المجالس الوطنية عالميًا وإلغاء كل مجلس يتداخل معه في تلك الصلاحيات، على أن تتم مراعاة النقاط التالية قبل إقرار القانون في صورته النهائية:
أولًا- تشكيل المجلس الجديد:
إذا كنا نطمح إلى إنشاء مجلس وطني يتمتع بالاستقلالية كما هو الحال في معظم الدول التي أنشأت مجالس مشابهة قبل أكثر من 25 عامًا، فإن التشكيل المقترح للمجلس الجديد لا يحقق هذا الهدف، لأنه يضم وزراء وأعضاء حكوميين أكثر من الخبراء المستقلين وممثلي القطاع الخاص، ويغيب عنه ممثلو النقابات التعليمية وجمعيات المجتمع المدني والمشرعون–، كما أن عدد الأعضاء المقترح ومدة العضوية المقدرة بعامين لا يساعدان على أداء الأدوار المقترحة للمجلس بفاعلية.
لذا، يمكن إعادة النظر في تشكيل المجلس المقرر أن يضم 26 عضوًا تقريبًا، ومدة العضوية المقدرة بعامين، ليصبح المجلس الجديد على غرار المجالس الوطنية للتعليم في دول مثل المغرب (100 عضو)، والبرتغال (75 عضوًا)، وإسبانيا (107 أعضاء) من بينهم ممثلون عن الخبراء والمتخصصين، وممثلو النقابات التعليمية وأولياء الأمور وجمعيات المجتمع المدني والقطاع الخاص، وممثلو الحكومة والبرلمان والمؤسسات الأكاديمية والدينية المختلفة بما يضمن تمثيل كل الفئات من أصحاب المصالح. أيضًا، هناك حاجة إلى زيادة مدة عضوية المجلس إلى أربع سنوات على الأقل كما هو الحال في المجالس القومية الأخرى وفي المجالس الوطنية في الدول المذكورة سلفًا لإتاحة الفرصة للأعضاء للقيام بدورهم وتحقيق أهداف المجلس المستحدث.
ثانيًا- الأدوار والمسئوليات:
بالنظر إلى تجارب دول مثل بيرو والبرتغال وإسبانيا والمغرب، فإن المجلس الوطني للتعليم يتم تعريفه بأنه “هيئة استشارية مستقلة”، يتمثل دورها الرئيس في إبداء الرأي وتقديم المشورة لوزير التعليم في كل القضايا والسياسات المرتبطة بالتعليم، بالإضافة إلى صياغة ومتابعة وتقييم المشروع القومي للتعليم، ومتابعة تطبيق أحكام قانون التعليم وتطويرها، وهي أدوار مشابهة إلى حد كبير إلى أدوار المجلس المزمع إنشاؤه في مصر، فإن هناك أدوارًا أخرى يمكن إضافتها لزيادة فاعليته وضمان استمرارية تطوير السياسات التعليمية، منها:
- اقتراح السياسات والتشريعات المتعلقة بإدخال تعديلات على المشروع القومي للتعليم في ضوء التقارير التي تصدرها وزارة التعليم.
- إبداء الرأي في المخصصات المالية المقررة لقطاع التعليم في الموازنة العامة للدولة وطريقة توزيعها على بنود الإنفاق.
- إبداء الرأي في الاتفاقيات والشراكات التي تبرمها وزارة التعليم مع الجهات الأخرى لتطوير التعليم، بما يضمن تقييم تلك الاتفاقيات بشكل موضوعي وتحديد جدواها.
- إجراء متابعة وتقييم سنوي لما تحقق من أهداف المشروع القومي للتعليم، وإصدار تقرير يناقشه مجلس النواب ويقر ما جاء به من توصيات إصلاحية أو يرفضها.
- إنشاء لجان ووحدات تابعة للمجلس لمتابعة وتقييم أداء المديريات التعليمية وفق مؤشرات أداء يتم تحديثها بانتظام، بما يضمن واقعية التقرير السنوي للمجلس.
- ترشيح الشخصيات القادرة على قيادة المؤسسات التعليمية على اختلاف مستوياتها وفقًا لمعايير ومؤشرات يتم إعدادها بشكل علمي وتوافقي.
- عقد مؤتمر أو أكثر خلال العام بهدف فتح قناة دائمة للاتصال والحوار مع المجتمع حول حالة التعليم ونقل المخاوف الاجتماعية لمتخذ القرار.
في الأخير، يمكن القول إن وجود مجلس وطني مستقل للتعليم، يضم ممثلين عن مختلف فئات أصحاب المصالح، ويتمتع بصلاحيات وأدوار تسهم في تحقيق أهداف المشروع القومي للتعليم، من شأنه أن يؤدي إلى تحول إيجابي على مستويين مهمين؛ يتمثل الأول في صنع السياسات التعليمية وصياغة التشريعات المرتبطة بها، ويتعلق الثاني بخلق حالة من التوافق المجتمعي حول ما يتم اتخاذه من خطوات إصلاحية في التعليم، ولكن تحقيق ذلك في مصر لا يزال مرهونًا بالشكل النهائي لقانون إنشاء المجلس، والذي لم يتم التصويت عليه حتى وقتنا الراهن.