فى الشرق الأوسط صراع بين قوتين، لكل منهما تركيبة شديدة الخطورة. الحكم فى إيران وإسرائيل فى يد تيارات أصولية منغلقة، توسعية، تحت يدها ترسانات أسلحة شديدة التدمير، بما فى ذلك قنابل نووية تملكها إسرائيل بالفعل، فيما تقف إيران على عتبة امتلاكها. المنطقة المحكومة بصراع بين قوتين على هذه الشاكلة محكوم عليها بكرب عظيم.
تربع ائتلاف قوى دينية وقومية متطرفة على قمة السياسة الإسرائيلية منذ عدة سنوات. سنوات حكم بنيامين نيتانياهو الطويلة هى انعكاس للقوة المتزايدة لهذا التيار. حزب العمل، الذى وقع رئيسه إسحق رابين اتفاق أوسلو مع ياسر عرفات، ليس له فى البرلمان الإٍسرائيلى الراهن سوى أربعة مقاعد.مزاج الناخب الإسرائيلى أصبح يمينيا لايكترث للسلام مع الفلسطينيين.الحكومة الإسرائيلية الراهنة هى الأكثر تطرفا فى تاريخ إسرائيل. بعض أحزاب الائتلاف الإٍسرائيلى الحاكم يفهمون النصوص الدينية بمعنى حرفى متعسف، ويؤمنون بعقيدة أرض إسرائيل الكاملة التى منحها الرب لشعبه المختار. قطاع غزة والضفة الغربية، ومناطق أخرى وراءهما، هى فى رأيهم ضمن إسرائيل الكاملة.
بنيامين نيتانياهو صهيونى علمانى لا يعبأ كثيرا بوعود الرب لشعبه المختار. نيتانياهوتلميذ نجيب فى مدرسة الصهيونية التصحيحية التى أسسها فلاديمير جابوتنسكى، الذى يرى أنه كلما سيطرت إسرائيل على مزيد من الأرض كان أفضل، بغض النظر عن الوعود الإلهية. المهم فى كل هذا هو أن تقيم إسرائيل حائطا حديديا بينها وبين الأعداء، وأن تكون أقوى من الجيران الذين لن يقبلوا بوجودها أبدا.
مزيج التطرف الدينى والقومى وعقيدة التفوق العسكرى المهيمنة فى إسرائيل تجعل منها دولة خطيرة. إسرائيل التى عقدنا معها معاهدة السلام، وتلك التى عقد معها ياسر عرفات اتفاق أوسلو، لم تعد موجودة، وما لدينا الآن هو إسرائيل أخرى. كانت لدى إسرائيل القديمة مخاوف أمنية يمكن تفهمها، والاتفاق على ترتيبات تضمن أمن كل الأطراف. المخاوف الأمنية ليست هى ما يشغل إسرائيل الراهنة، وإنما يشغلها التوسع والاستيطان والسيطرة، وهذه أشياء لا يمكن تفهمها أو التوصل إلى حلول وسط بشأنها.
لو نظرنا جهة القطب الآخر للصراع فلن نجد سببا للارتياح. إيران منذ ثورة الخمينى محكومة بنخبة أصولية شيعية المذهب فارسية القومية.لا تكتفى النخبة الإيرانية بالانشغال ببلادها، تعمرها وتبنيها، لكنها تنظر بعيدا إلى ماوراء الحدود لتعزيز النفوذ وزيادة مساحات السيطرة.
إيران هى وريث الإمبراطورية الفارسية. ورثة الإمبراطوريات القديمة لا يكفون عن محاولة استعادة ماض تليد، يشهد بالاستحقاق والجدارة للهيمنة.
تتقافز إيران ببراعة بين الخطاب الإسلامى والمذهبية الشيعية لبناء أوسع قواعد تأييد. الخطاب الإسلامى العام فعال فى التواصل مع ملايين المسلمين فى كل مكان. للخطاب المذهبى الخاص قدرة ممتازة للتواصل مع شركاء المذهب المخلصين، وتنظيمهم فى أحزاب وميليشيات مدربة ومسلحة.توفر فلسطين غطاء الشرعية، وتوفر أيضا وقود إشعال وزيت تليين ماكينة التحالفات والتدخلات المعقدة. الخطة الإٍيرانية بسيطة وفعالة، توظيف شركاء المذهب للسيطرة على بلادهم نيابة عنها وبأوامرها بذريعة تحرير فلسطين. حدث هذا فى لبنان والعراق واليمن وسوريا، وكاد يحدث فى البحرين لولا تدخل مجلس التعاون الخليجى الذى أنقذ المملكة الخليجية الصغيرة من مصير لبنان والعراق.
الصراع بين إسرائيل وإيران هو الصراع الرئيسى الموجه لأغلب ما يدور حولنا من حروب. اللحظة الراهنة فى الشرق الأوسط شديدة الخطورة، فمازال من الممكن للصراع الدامى الدائر فى لبنان أن يتحول إلى صراع إقليمى واسع النطاق فى أى لحظة.تلقى إسرائيل بقنابلها فى لبنان، محملة برسائل تريدها أن تصل إلى إيران. لبنان فى هذا الصراع ليس سوى صندوق البريد الذى يلقى فيه كل طرف رسائله الملغمة إلى الطرف الآخر. مصير بائس لبلد كان أهله يطلقون عليه بتفاخر سويسرا الشرق. ليس للحظة الراهنة فى الشرق الأوسط مثيل فى ماضى المنطقة، فإسرائيل وإيران لم يكونا قريبين من الحرب بقدر ما هما عليه اليوم، ولن يكون ممكنا تجنب الحرب بغير اتخاذ قرارات صعبة لم يسبق اتخاذ مثيل لها. دخلت إيران الراهنة فى مأزق انكشاف خدعة التلويح بالحرب، فإسرائيل تبدو مقبلة على الحرب ومستعدة لها، ولا توفر حيلة فى جعبتها لاستفزاز واستدراج إيران للنزول إلى ميدان القتال. مصلحة الدولة الإيرانية تحتم عليها تجنب الوقوع فى فخ تنصبه إسرائيل. يتحدث مرشد الثورة عن تراجع تكتيكى، ويلقى رئيس إيران من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة خطابا أروع من أى خطاب يلقيه داعية سلام مخضرم. كل هذا تكتيكى كما وصفه المرشد.المشكلة التى تواجه إيران الآن هى أن حسابات العقل الاستراتيجى البارد كشفت التعارض بين مصلحة الدولة الإيرانية، ومصير الأذرع المذهبية، والفلسطينيين الذين لم ينفعهم حديث المساندة ووحدة الساحات.
إيران تأخذ خطوة إلى الخلف حتى تمر العاصفة، وربما حتى تقترب أكثر من امتلاك القنبلة. إسرائيل من جانبها أصبحت أكثر إيمانا بالقوة المسلحة الغاشمة وسيلة وحيدة للبقاء فى المنطقة. هذاوضع شديد الخطورة. ليس لأحد فى منطقتنا أن يطمئن فى ظل مزيج التطرف الأصولى والميول التوسعية واستعراض القوة والتسلح النووي. ليس أمامنا سوى خوض المباراة وفقا لقواعدها: تنمية حقيقية، بحث علمى وابتكار تكنولوجى، إدارة منضبطة، نخب جادة مثقفة، جيوش أحدث وأقوى، وتحالف جاد بين الإصلاحيين فى الإقليم. هذاوقت العمل.