تُعد مشكلة ارتفاع الديون التحدي الأكبر الذي سيواجه الاقتصاد العالمي بحلول عام 2025، ولا سيما بالنسبة للاقتصادات ذات الدخل المتوسط والمنخفض، وفقًا لتقرير الدين العالمي الصادر عن البنك الدولي، الذي تناول هيكل الديون حتى نهاية عام 2022. ويُشير التقرير إلى أن التباطؤ الاقتصادي العالمي خلال عام 2023 قد ترك تأثيرًا شديدًا على الدول التي تعاني أصلًا من مستويات ديون مرتفعة وعدم استقرار مالي. وتواجه هذه الدول تحديات مضاعفة في ظل ارتفاع تكاليف الاقتراض وضعف الطلب الخارجي، مما يجعل طريق التعافي معقدًا وشاقًا. في ضوء هذه التحديات، تجد المؤسسات المالية الدولية والحكومات نفسها أمام مسئولية كبيرة تتطلب تنسيق الجهود وتنفيذ إصلاحات هيكلية. ويؤكد التقرير أن تعزيز الأطر المالية، وتحسين إدارة الديون، وبناء هياكل اقتصادية أكثر مرونة، تُعد خطوات حاسمة لتحقيق الاستقرار وضمان النمو المستدام للدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط على المدى الطويل.
آفاق الاقتصاد والديون
بحلول نهاية عام 2024، يتوقع التقرير أن تسجل الأنشطة الاقتصادية في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط أداءً أقل بنسبة 5٪ من التوقعات السابقة لجائحة كورونا. وفي نحو ثلث هذه الدول، سيبقى نصيب الفرد من الدخل في عام 2024 أدنى من مستوياته في 2019، مع توقعات بأن يكون متوسط النمو خلال الفترة 2020-2024 هو الأضعف على مدى خمس سنوات منذ منتصف التسعينيات، ووفقا للتقرير، تزداد التحديات بشكل خاص للدول التي تعاني من ضعف في الجوانب المالية والاقتصادية، بما في ذلك تلك التي تتمتع بتصنيفات ائتمانية سيادية منخفضة. فقد شهدت هذه الدول تباطؤًا ملحوظًا في النمو، إلى جانب تطورات مالية سلبية مثل تدهور أسعار الصرف وارتفاع فروق العوائد السيادية.
ولم يغفل التقرير تأثير تصاعد التوترات العالمية والإقليمية في هذا السياق، حيث أشار إلى أن التوترات الجيوسياسية المتزايدة قد تُلحق ضررًا كبيرًا بالدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط. يحدث ذلك من خلال اضطراب أسواق السلع، وتجزئة الروابط التجارية والمالية، وزيادة عدم اليقين السياسي. وأوضح التقرير أن الدول والمناطق المصدرة للسلع تواجه تحديات خاصة، مثل ارتفاع أسعار السلع عالميًا، مما يؤدي إلى تراجع الاستثمارات والنشاط الاقتصادي، كما أن تصاعد الصراعات والتوترات قد يسهم في تفكك شبكات التجارة الدولية والنظم المالية العالمية. فقد يؤدي ذلك إلى تلف سلاسل الإمداد وتقييد تدفقات رأس المال عبر الحدود، إضافةً إلى التأثيرات المترتبة على تطبيق العقوبات الدولية، مما يزيد من تعقيد الأوضاع الاقتصادية في هذه الدول.
تكلفة الاقتراض
يشير التقرير إلى أن حوالي 25٪ من الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط تعاني من فروق عوائد سيادية تتجاوز 10 نقاط مئوية، مما يعكس فقدان هذه الدول القدرة على الوصول إلى الأسواق المالية وارتفاع مخاطر التخلف عن السداد. ومنذ عام 2020، سجلت 18 حالة تخلف عن السداد السيادي، وهو عدد يفوق الحالات المسجلة خلال العقدين السابقين والتي بلغت 15 حالة فقط، ويحذر التقرير من أن الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط قد تواجه تكاليف اقتراض أعلى إذا تعرضت الاقتصادات ذات الدخل المرتفع لضغوط مالية. وفي الدول ذات الضعف المالي الأكبر، قد تتفاقم هذه التداعيات بسبب عوامل مثل نقص تمويل البنوك، أو الروابط المالية بين البنوك والحكومات، أو المستويات المرتفعة للديون.
كما يتناول التقرير تأثير الموجة التضخمية المستمرة في الاقتصادات ذات الدخل المرتفع والدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، التي قد تدفع نحو سياسات نقدية أكثر تشددًا. من شأن ذلك أن يزيد من تقليص النشاط الاقتصادي، ويخلق تحديات إضافية للدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، وفي هذا السياق، قد تؤدي تداعيات تشديد السياسة النقدية في الاقتصادات ذات الدخل المرتفع إلى تفاقم الأزمات المالية في الدول النامية. وتشمل هذه التداعيات الضغط على الأنظمة المالية المحلية عبر انخفاض قيمة العملات، مما يزيد من احتمالية تدفقات رأس المال الخارجة وحدوث أزمات عملة، مما يهدد استقرار هذه الاقتصادات بشكل أكبر.
توقعات النمو
في هذا السياق، يوضح التقرير أن العوامل الأساسية للنمو في العديد من الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط قد شهدت تراجعًا ملحوظًا خلال العقود الماضية. ويُتوقع أن يواجه النمو المستقبلي مزيدًا من الضعف نتيجة للاضطرابات في حركة التجارة والاستثمار العالمي، بالإضافة إلى الأحداث السلبية المرتبطة بتغير المناخ، ومع ذلك، يشير التقرير إلى أن تنفيذ إصلاحات هيكلية قد يساعد في التخفيف من تأثير هذه التحديات. فتعزيز النمو، وبناء الثقة، والتصدي للآثار السلبية لتغير المناخ يمكن أن يساهم في تقليل تراجع النمو المتوقع وتحقيق نتائج اقتصادية أفضل على المدى الطويل.
شهد المشهد المالي العالمي للدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط تغييرات كبيرة في عام 2022، حيث تزايدت المخاوف بشأن عبء الديون الخارجية، وانخفاض تدفقات رأس المال، ووجود بيئة اقتصادية كلية غير مستقرة، كما يذكر التقرير. وقد أشار التقرير إلى انخفاض رصيد الديون الخارجية لهذه الدول في عام 2022، لأول مرة منذ عام 2015، حيث انخفض بنسبة 3.4%، من 9.3 تريليون دولار في 2021 إلى 9 تريليونات دولار.
وقد دفع هذا الانخفاض عاملان رئيسيان: أولًا، تدفقات الديون السلبية، حيث كانت توزيعات القروض أقل من المبالغ المدفوعة في سداد الدفعات الرئيسية. ثانيًا، ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي مقابل العملات الرئيسية الأخرى، مما أثر على الديون المقومة بتلك العملات. كما شهدت ديون القطاعين الطويلة والقصيرة الأجل انخفاضات مشابهة، حيث كان الانخفاض في الديون الطويلة الأجل ناتجًا بشكل رئيسي عن انخفاض بنسبة 5% في الالتزامات تجاه الدائنين الخاصين.
الوضع المصري
أظهر التقرير أن إجمالي ديون مصر بلغ أعلى مستوى له منذ عام 2012 في عام 2022، حيث سجل 163.1 مليار دولار. وكانت الديون طويلة الأجل تشكل الحصة الأكبر من هذا المبلغ، حيث بلغت 111.1 مليار دولار.
أظهرت البيانات أن 37٪ من إجمالي ديون مصر في 2022 تم تأمينها من مؤسسات متعددة الأطراف، بما في ذلك صندوق النقد الدولي بنسبة 14٪، والبنك الدولي بنسبة 9٪، ومؤسسات أخرى بنسبة 14٪. في الوقت نفسه، تمثل ودائع الدول الخليجية في البنك المركزي المصري 27٪ من إجمالي ديون مصر، حيث تمتلك كل من السعودية والإمارات والكويت 5٪، بينما تم تأمين 12٪ من الديون من أطراف ثنائية أخرى.
التدفقات السلبية للديون
في تحول كبير، تحولت التدفقات الإجمالية الصافية للديون إلى الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط إلى السلبية في عام 2022، مما أسفر عن تدفقات خارجة بلغت 185 مليار دولار، وهو تباين حاد مقارنة بتدفقات داخلة بلغت 556 مليار دولار في عام 2021. وقد شهدت التدفقات القصيرة والطويلة الأجل انخفاضات كبيرة، حيث وصلت التدفقات الطويلة الأجل إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق، وتحولت إلى السلبية لأول مرة منذ بداية الألفية. وكان هذا التوجه مدفوعًا بشكل رئيسي بانخفاض قدره 189 مليار دولار في التدفقات الواردة من الدائنين الخاصين، نتيجة لتراجع إصدارات السندات السيادية والإقراض من البنوك التجارية بسبب تشديد السياسات النقدية في الاقتصادات المتقدمة. وأدى ارتفاع تكاليف الاقتراض، المدفوع بتدابير مكافحة التضخم، إلى تراجع شهية الديون في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، مما ساهم في التدفقات الخارجة الصافية التي بلغت 127.1 مليار دولار إلى حملة السندات في عام 2022.
تأثير ارتفاع تكاليف الاقتراض والتضخم
يستمر التشديد النقدي، خصوصًا في الاقتصادات ذات الدخل المرتفع، في التأثير على الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، مما يجعل الاقتراض أكثر تكلفة ويزيد من ضعفها المالي. كما أضعف التضخم المرتفع وارتفاع أسعار الفائدة الطلب الخارجي، مما قلص من الظروف المالية لهذه الدول وزاد من تحدياتها المالية. وقد أدى ارتفاع تكاليف الاقتراض إلى ترك ربع الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط مع فروق سيادية تتجاوز 10٪، مما يشير إلى احتمال فقدان الوصول إلى الأسواق وزيادة خطر التخلف عن السداد.
تراجع الالتزامات الجديدة للقروض
في عام 2022، شهدت الالتزامات الجديدة للقروض الخارجية للدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط انخفاضًا حادًا، مسجلة أكبر انخفاض في عقد من الزمن. تراجعت الالتزامات للكيانات العامة والمضمونة من القطاع العام بنسبة 23٪ لتصل إلى 372 مليار دولار. وكانت مساهمة الدائنين الخاصين هي المحرك الرئيسي لهذا الانخفاض، حيث تراجعت بنسبة 33٪ إلى 218 مليار دولار. كما انخفض إصدار السندات من قبل هذه الدول بنسبة 51٪ ليصل إلى 114 مليار دولار، مع تسجيل الصين – أكبر مُصدر للسندات – انخفاضًا بنسبة 74٪ في إصدارات السندات الجديدة.
دور مؤسسات الإقراض متعددة الأطراف
في حين انخفضت الالتزامات من الدائنين الخاصين، تدخلت مؤسسات الإقراض متعددة الأطراف، مثل البنك الدولي، لتعويض هذا التراجع جزئيًا. إذ ارتفعت الالتزامات الجديدة من الدائنين متعدد الأطراف بنسبة 1.5٪ في عام 2022 لتصل إلى 115.6 مليار دولار، مع زيادة البنك الدولي في توزيعاته بنسبة 1.3٪ إلى 53.5 مليار دولار، مما يمثل نحو نصف الالتزامات الجديدة من جميع المؤسسات متعددة الأطراف.
المدفوعات المرتفعة لخدمة الديون
وصلت مدفوعات خدمة الديون من قبل الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط إلى أعلى مستوى تاريخي بلغ 443.5 مليار دولار في عام 2022، ومن المتوقع أن تستمر في الارتفاع في السنوات القادمة. ويأتي هذا الارتفاع في التزامات خدمة الديون في وقت تكافح فيه العديد من البلدان مع ارتفاع أسعار الفائدة وتحركات أسعار الصرف غير المواتية، مما يزيد من العبء المالي للمدفوعات الخارجية للديون. ومن المتوقع أن ترتفع خدمة الديون على الديون الخارجية العامة والمضمونة بنسبة 10٪ في الفترة من 2023 إلى 2024.
خلاصة القول، تميل المخاطر المتعلقة بالآفاق الاقتصادية العالمية للدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط إلى الاتجاه السلبي. ويتوقع التقرير أن تؤدي التوترات الجيوسياسية المرتفعة، وارتفاع التضخم، وتطبيق سياسات نقدية مشددة في الاقتصادات المتقدمة، إلى تقليص النشاط الاقتصادي في هذه الدول. علاوةً على ذلك، قد تزيد الاضطرابات المحتملة في أسواق السلع والتجارة، بالإضافة إلى زيادة تكاليف الاقتراض، من عدم استقرار الظروف المالية. ومع ذلك، يقترح المحللون أنه إذا تم تنفيذ إصلاحات هيكلية لتعزيز النمو وتحسين الحوكمة والتخفيف من آثار التغير المناخي، قد تتمكن الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط من التخفيف من بعض التأثيرات السلبية واستقرار اقتصاداتها.