بات مُقرًا به أن عملية إعادة هندسة المشهد السوري منذ سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد وتولي هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع (الجولاني سابقًا) حكم سوريا، خضعت لإشراف وربما تخطيط استراتيجي تركي طويل الأمد، وأصبح مُشاهدًا بوضوح أن أنقرة باتت تمسك بمفاتيح سوريا وتُشكل لاعبًا محوريًا في دعم وتوجيه المرحلة الانتقالية من خلال ممارسة نفوذ كبير على الإدارة السورية الجديدة، بحيث ليس من قبيل المبالغة القول إن سوريا فقدت هويتها الجيوسياسية كجزء من محور المقاومة لتصبح عنوانًا رئيسيًا لنجاح المشروع الإقليمي التركي وتمدده، ولتُعيد بذلك تشكيل الخرائط الجيوسياسية للشرق الأوسط وإرساء معادلة إقليمية جديدة تميل لصالح أنقرة وتمنحها نفوذًا أكبر في سوريا والجغرافيا السياسية الإقليمية الأوسع مقابل تضييق مجالات نفوذ إيران الجيوسياسية والأيديولوجية والثقافية والطائفية، ويطرح هذا المشهد الإقليمي المُغاير تساؤلات بشأن القيمة الاستراتيجية التي يُمكن أن تُمثلها سوريا للمشروع الإقليمي التركي. وعليه، سوف تسعى هذه الورقة إلى تقييم منظور تركيا إلى الجغرافيا السياسية السورية باعتبارها نقطة ارتكاز للتمدد الإقليمي اتصالًا بالدور المحوري الذي يُمكن أن تلعبه في خدمة عقيدة الوطن الأزرق، وتحويل تركيا لمركز إقليمي لتداول الطاقة، وتعزيز مركزيتها كمفترق طرق للتجارة العالمية.
نقاط ارتكاز
ما إن تغيرت الإدارة السورية بانهيار نظام الأسد وتحول هيئة تحرير الشام إلى حكومة أمر واقع، حتى راح مسئولو الحكومة التركية كُلٌ وفق حقيبته الوزارية يُسارع بإطلاق التصريحات والوعود بمساعدة سوريا وإطلاق مجالات التعاون المشتركة والكشف عن الخطط المشروعات المستقبلية المحتملة وأغلبها يحمل طابعًا استراتيجيًا يتعلق بمجالات التجارة والنقل وترسيم الحدود البحرية وخطوط أنابيب الطاقة وإقامة القواعد العسكرية، وهي مجالات تعمل كداعم للمشروع الإقليمي التركي، ويُمكن تفنيد التحرك التركي فيها على النحو التالي:
• الهيمنة على خطوط النقل والتجارة: أظهرت تصريحات وزير النقل استعداد تركيا لضخ استثمارات كبيرة في مشروعات البنية التحتية البرية والبحرية والجوية والسكك الحديدة ضمن جهود إعادة الإعمار، من خلال تنفيذ أعمال مثل مشاريع القطارات فائقة السرعة، وبناء خطوط المترو في دمشق وحلب، وترميم السكك الحديدية الممتدة بين البلدين وصولًا إلى دمشق بما في ذلك دراسة إعادة ربط الأراضي التركية والسورية بسكك حديدية بحيث تكون البداية بتفعيل خط قطار مرسين –حلب بعد توقف دام 12 عامًا مع إمكانية امتداده لاحقًا إلى العاصمة دمشق، علاوة على إقامة مشاريع للنقل البحري من أنطاكيا ومرسين إلى اللاذقية، ومعالجة أوجه القصور في البنية التحتية لمطاري دمشق وتقديم الخبرات فيما يتعلق بتجديد المدرج وتحديث أنظمة الرادار وتركيب أجهزة وكاشفات الأشعة السينية ومعدات السلامة وتحسين أنظمة رادار الطقس. ويبدو جليًا حرص المسئولين الأتراك على استدعاء واستحضار الرموز المرتبطة بالدولة العثمانية عند الحديث عن مشروعات البنية التحتية الاستراتيجية للنقل بحيث يتم تقديم مستهدف الربط السككي بين البلدين باعتباره ترميم أجزاء من مشروع خط سكة حديد الحجاز المتوقف منذ سنوات.
ولا يمثل الحديث عن إعادة بناء خط السكة الحديدية الحجازي التاريخي مجرد إصلاح للبنية الأساسية فحسب، بل إنه يعيد إحياء رمز الوحدة والأهمية الدينية والترابط الاقتصادي للدولة العثمانية، ولا شك أن إحياء كامل مسار خط سكة حديد الحجاز مستهدف غير واقعي –على الأقل خلال الأمد المنظور– لاعتبارات سياسية وأمنية ولوجستية وتشغيلية عديدة تجعل تحقيقه صعبًا، فحتى المسار التاريخي للمشروع الذي استهدف ربط النقاط الاستراتيجية في الجغرافيا العثمانية لم يكتمل وتوقفت وجهته النهائية عند المدينة المنورة وليس مكة كما كان مُقررًا على خلفية دواعي أمنية ولوجستية، إلا أن مجرد البدء في عمليات إعادة تأهيل الأجزاء الواصلة بين المدن الحدودية التركية والسورية أو تشغيلها سيتم تأطيره دعائيًا وإعلاميًا باعتباره عنوانًا لاستعادة أحد الأصول الاستراتيجية للإمبراطورية العثمانية.
وبخلاف الجانب الرمزي، فإن السيطرة على البنية التحتية السورية للنقل وخلق خطوط اتصال برية وبحرية وجوية بين البلدين يُسهم في رفع أهمية الموقع الجغرافي والجيوسياسي لتركيا التي تسعى إلى لعب دور مركزي في شبكات التجارة العالمية وتعزيز مكانتها كمركز استراتيجي للخدمات اللوجستية العالمية من خلال الاستفادة من موقعها الجغرافي والاستثمار في تطوير بنيتها التحتية الحيوية، عن طريق العمل كنقطة عبور رئيسية لممرات الربط الاقتصادي الدولية مثل مبادرة الحزام والطريق والممر الأوسط (مسار النقل الدولي عبر بحر قزوين)، علاوة على إطلاق مبادرات لإنشاء ممرات إقليمية مثل ممر زانجيزور ومشروع طريق التنمية، ومن ثَمّ تتطلع تركيا إلى توسيع دورها في التجارة الإقليمية عبر تنشيط الحركة على مسار الشمال-الجنوب وهو المسار الذي يُمكن أن يطرح بديلًا منافسًا لممر “الهند – الشرق الأوسط – أوروبا” الذي استبعدت منه؛ الأمر الذي يتيح لها المناورة على رقعة الشطرنج الجيوسياسية المتعلقة بالممرات الاقتصادية العالمية، كما يُسهم تنشيط مسار التجارة من وإلى تركيا عبر البوابة السورية إلى المنطقة العربية والخليج في إنعاش السوق والبضائع التركية، لا سيَّما أن الحرب الأهلية السورية الممتدة منذ 2011 وقرار أنقرة وقف خطوط التجارة مع سوريا والبحث عن مسارات بديلة عبر مصر وإسرائيل أثرت سلبًا في حصة تركيا في الأسواق الخليجية.
فضلًا عن أن سيطرة أنقرة على البنية التحتية للنقل تخدم أهدافها العسكرية طويلة الأجل، حيث سيتم تصميمها وفقًا لأولوياتها الاستراتيجية، ففي معرض حديثه عن ضعف البنية التحتية للطرق السريعة في سوريا، لفت وزير النقل عبد القادر أورال إلى الأهمية الاستراتيجية للطرق السريعة في زمن الحرب، وأكد على أهمية الطرق السريعة M4 وM5، وأشار إلى خطط لبناء جسور وطرق سريعة جديدة لتلبية احتياجات وزارة الدفاع التركية، لا سيَّما أنها تسعى إلى ترسيخ موطئ قدم عسكري دائم في سوريا وإكسابه غطاءً شرعيًا وقانونيًا عبر توقيع اتفاقية دفاعية.
• توسيع النفوذ والسيطرة في شرق المتوسط: وجدت أنقرة في صعود إدارة موالية لها لحكم سوريا فرصة مواتية لاستنساخ السيناريو الليبي فيما يتعلق بإبرام اتفاقية لترسيم الحدود البحرية عام 2019 دونما مراعاة المرجعية القانونية الدولية المتمثلة في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار 1962، أو مطالبات شركاء الحوض؛ وبالأخص قبرص واليونان، بحقوقهما البحرية؛ الأمر الذي يعيد شرق المتوسط إلى قلب صراعات القوى الإقليمية والدولية ويرفع حدة التوترات في تلك البقعة الاستراتيجية مرة أخرى، حيث من المرجح أن تنظر اليونان وقبرص وقوى أوروبية أخرى إلى هكذا اتفاق على أنه خطوة غير قانونية ومزعزعة للاستقرار؛ مما يزيد النزاعات بشأن الطاقة والسيادة.
ويعكس توظيف أنقرة ميل موازين القوى لصالحها وتحولها إلى لاعب مهمين وموجه للمشهد السوري، في توقيع اتفاقية “ولاية بحرية” لترسيم الحدود وفق مبدأ “خط المنتصف” وليس مبدأ “الحدود الطبيعية” الذي لطالما تمسكت به سوريا سابقًا وأعاق عملية ترسيم الحدود البحرية مع تركيا، قدرتها على التنقل عبر بيئة جيوسياسية إقليمية معقدة وسريعة التقلب، وإجراء عمليات دمج وتكامل بين استراتيجيتها عبر المسرحين الليبي والسوري، لخدمة طموحاتها الاستراتيجية في شرق المتوسط المتعلقة بإعادة تشكيل خريطته الجيوسياسية وتغيير التوازنات في تلك البقعة لصالحها، حيث تعمل هذه الاتفاقية المحتملة على توسيع حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة لتركيا عبر منحها مساحة 7,660 كيلومترًا مربعًا قرب رأس كرباز بما يضمن ترسيخ واقع جديد في شرق المتوسط لاستباق أي تغيير في التحالفات، يعزز موقفها في مواجهة المنافسين البحريين؛ اليونان وقبرص وإسرائيل ومصر، كونه يُلغي حقوق القبارصة اليونانيين بامتلاك منطقة اقتصادية خالصة شرق الجزيرة، وبينما تزيد اتفاقية كتلك من قوة تركيا الجيوسياسية في المنطقة، فإنها توفر فرصًا استراتيجية من حيث استكشاف واستغلال موارد الهيدروكربونات والثروة السمكية.
• توفير نقطة ارتكاز للانتشار العسكري التركي في الشرق الأوسط: كشف صحافيون أتراك مقربون من الحكومة اعتزام أنقرة توسيع وجودها العسكري في سوريا، فالإضافة إلى الألوية العسكرية السبعة (نحو 10 آلاف و500 جندي) المنتشرين في مناطق الشمال السوري عبر 49 قاعدة عسكرية رئيسية (13 في ريف حلب الغربي و30 في ريف إدلب و3 في كل من ريف حماة وريف اللاذقية)، تتطلع تركيا إلى إبرام اتفاقية دفاعية مع الإدارة السورية الجديدة، قد تشتمل على عناصر عدة منها المسهمة في إعادة بناء وتشكيل الجيش السوري، وتقديم التدريب العسكري للجيش السوري الجديد سواء عبر إرسال مستشارين أتراك إلى الأكاديميات العسكرية السورية أو توفير بعثات للقادة والأفراد العسكريين السوريين في الأكاديميات العسكرية التركية، ومع عدم الاستهانة بخطوات كتلك كونها تعني صياغة تركية للعقيدة العسكرية القتالية والدفاعية السورية بما يخدم مصالحها الاستراتيجية العليا، فإن جانبها الأكثر أهميةً والأوثق صلةً بالطموحات الجيوسياسية الأوسع لأنقرة يتعلق بإنشاء قواعد عسكرية في محافظات تدمر وحمص ودمشق، سواء عبر نشر قوات ومعدات إضافية أو إجراء عمليات إعادة انتشار للعناصر والآليات التركية في مناطق الشمال، وإقامة قاعدة بحرية في طرطوس أو اللاذقية، وتشغيل منظومات دفاع جوي لحماية المجال الجوي السوري.
وتتوافق تلك الخطوات مع استراتيجية إقامة قواعد عسكرية في الخارج التي تبنتها تركيا قبل نحو عقد لتحقيق وظائف ليست فقط عسكرية وإنما سياسية أيضًا تتصل أساسًا بتأكيد مكانة تركيا كقوة إقليمية فاعلة ووازنة؛ فمن شأن توسيع وشرعنة الوجود العسكري التركي، ترسيخ حضور استراتيجي طويل الأمد داخل المسرح السوري، وإكمال حلقات مصفوفة القوى التركية في سوريا (عسكرية – سياسية – اقتصادية – ثقافية – خدمية واجتماعية)، وإكسابها موقفًا معززًا في القتال ضد وحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني، وتعديل ميزان القوى العسكرية لصالح أنقرة وإكسابها تفوقًا عسكريًا لا سيَّما في مواجهة منافستها الإقليمية إيران التي تلقت أذرعها الميليشياوية –المكون العسكري لمشروعها الإقليمي– ضربات قاسمة أخرجت جزءًا كبيرًا من قدراتها خارج معادلة القوى الإقليمية، خاصة أن المواقع المحتملة للقواعد التركية في تدمر وحمص ودمشق، بما في ذلك مطار التيفور (T4) بحمص، شكلت سابقًا عقدًا رئيسية في خطوط التهريب البرية الإيرانية ونقاط ارتكاز للحضور الميليشياوي والتسليحي الإيراني في سوريا؛ الأمر الذي يعني قطعًا تركيًا مباشرًا للهلال الشيعي في المنطقة. ولا يقف الأمر عند الغريم الإيراني، بل يمتد أيضًا للشريك الاستراتيجي إسرائيل، التي سيطرت مؤخرًا على مساحات واسعة في مناطق الجنوب السوري، فوجود قاعدة عسكرية تركية بدمشق يمنحها القدرة على موازنة الحضور العسكري الإسرائيلي في الجنوب السوري عن طريق تحقيق اقتراب جغرافي يضع القوات التركية على خط التماس مع نظيرتها الإسرائيلية في القنيطرة ودرعا.
وبهذا المفهوم تصبح سوريا نقطة ارتكاز لتوسيع الانتشار العسكري التركي في الشرق الأوسط بعدما اقتصر سابقًا على قاعدة الريان بقطر، ويُمكنها لاحقًا من استخدامها كنقاط دعم وإمداد لوجيستي للعمليات العسكرية التركية في بعض دول الجوار مثل العراق، وكنقطة انطلاق لتنفيذ عمليات عسكرية خارج الحدود، كما أن نشر منظومات دفاع جوي تجعل المجال الجوي السوري منكشفًا بالكامل أمام تركيا ويمنحها السيطرة عليه، ويُمكنها من رصد حركة الطيران الحربي الأجنبي في السماء السورية بحيث لا يُمكنه العمل دون التنسيق مع أنقرة. إضافة إلى ذلك، يكتسب إنشاء قاعدة بحرية عسكرية تركية على الساحل السوري بُعدًا استراتيجيًا مهمًا يتعلق بتعزيز القوة البحرية التركية في حوض شرق المتوسط وحماية المصالح المرتبطة بالتنقيب عن الهيدروكربونات، ومنح أنقرة السيطرة على حركة المرور البحرية في المنطقة بالنظر إلى قربها من الممرات البحرية الاستراتيجية وخطوط الطاقة في شرق المتوسط.
علاوة على أن الوصاية التركية على الجيش السوري الجديد، عقيدةً وتدريبًا وتسليحًا وتنظيمًا، تعني ترسيخ الاستراتيجيات العسكرية التركية داخل مؤسسات الدولة السورية، ويمكن البلدان من تطوير استراتيجيات دفاعية مشتركة، ويفتح السوق السوري أمام الصناعات الدفاعية التركية، ويتيح إمكانية تبادل المعلومات الاستخباراتية والمعلومات بشأن الإجراءات الدفاعية والعسكرية بين البلدين.
• ترسيخ واقع ديموغرافي يسمح بإنشاء كيانات انفصالية موالية: استخدمت تركيا عمليات الهندسة الديموغرافية طوال السنوات الماضية كسلاح للتفريق والتشتيت العرقي وتقطيع أواصر مناطق الانتشار الكردي شمال سوريا، ويبدو أن أمامها فرصة لتوظيف السلاح ذاته ولكن هذه المرة لصالح إقامة كانتونات عرقية متجانسة داخل نطاقات جغرافية مُحددة تخدم استراتيجية التمدد الإقليمي، إذ يبرز التركمان الذين يشكلون ثاني أكبر عرقية في البلاد بعد العرب (تشير التقديرات إلى أن عدد التركمان يتراوح بين 3.5 إلى 4 ملايين نسمة من بين سكان سوريا الذين يتراوح عددهم بين 20 إلى 22 مليون نسمة) كورقة يُمكن أن توظفها تركيا لصالحها، وبالأخص في مناطق الساحل السوري لتشتيت التجانس العلوي بالمنطقة ولخدمة الهدف الاستراتيجي التركي بالوصول إلى الساحل السوري، وقد شهدت الفترة الماضية عودة التركمان إلى قراهم بمنطقة بايربوجاك بمحافظة اللاذقية وعقدوا احتفالات رُفع خلالها العلم التركي فوق بعض الجوامع والمدارس، إضافة إلى علم التركمان الأزرق. وحتى الآن لا يزال التركمان المكون العرقي الأضعف تنظيميًا وسياسيًا وعسكريًا؛ فهم لا يتحركون كجبهة منظمة وفق أجندة سياسية مُحددة، ولا يتبنون مشروعًا انفصاليًا على غرار الأكراد، ولا تستند تحركاتهم على الساحة السياسية السورية إلى مكاسب عسكرية جغرافية، كما لم تُبدِ أنقرة اهتمامًا ملحوظًا بلعب الورقة التركمانية حتى الآن، لكنها تظل أداة مُجمدة قابلة للتنشيط في أي لحظة لا سيَّما أن تركيا قدمت نفسها منذ فترة طويلة باعتبارها الوصي على الأقليات التركمانية خارج حدودها، وتعتبر التركمان السوريين حلفاء طبيعيين، وقد لوح قائد القوات البحرية السابق جهاد يايجي –الذي صاغ عقيدة الوطن الأزرق– إلى إمكانية إنشاء منطقة حكم ذاتي للتركمان على خط اللاذقية-القامشلي، إذا تمت الموافقة على منطقة حكم ذاتي للأكراد.
• العمل كمركز إقليمي لتداول الطاقة: تُسهم الديناميكيات السورية المتغيرة في عودة تركيا كلاعب رئيسي في مشهد الطاقة العالمي، ورفع قيمتها الجيوسياسية بالنسبة لأوروبا عن طريق العمل كمركز استراتيجي لنقل الطاقة من المنتجين الإقليميين إلى الأسواق الأوروبية بما يخدم استراتيجية تنويع الإمدادات بعيدًا عن روسيا، مستغلة بذلك امتلاكها بنية تحتية جيدة للطاقة إذ تدير تركيا سبعة خطوط أنابيب للغاز، وخمس محطات للغاز الطبيعي المسال، وثلاث وحدات تخزين عائمة، ومنشأتين للتخزين تحت الأرض، ويعزز موقع سوريا على خطوط التجارة الدولية واتصالها الجغرافي بتركيا فرص جعل الأخيرة عقدة رئيسية في نظام الطاقة الإقليمي؛ الأمر الذي انعكس في مسارعة المسئولين الأتراك عقب سقوط نظام الأسد نحو إطلاق تصريحات بشأن إحياء خطط قديمة طموحة لنقل الغاز من المنطقة العربية إلى أوروبا عبر سوريا وتركيا، بما في ذلك خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي القطري إلى أوروبا عبر السعودية والأردن وسوريا وتركيا، مع إمكانية ربط الخط المقترح بخط الغاز العربي -الذي يبدأ من مصر مرورًا بالأردن وسوريا ومنها يتفرع إلى لبنان وتركيا- عند دمشق ليتم بعدها تنفيذ خط أنابيب من دمشق إلى الأراضي التركية وصولًا إلى الأسواق الأوروبية.
ومع ذلك، لا يوجد جدول زمني واضح لبناء خطوط الأنابيب المقترحة ولا تقديرات بشأن القدرة المتوقعة لها أو تكلفة إنشائها، كما لا تزال تلك المشروعات تواجه عراقيل لوجيستية وسياسية ومالية وتشغيلية تطرح استفهامات بشأن مدى إمكانية تنفيذها؛ فبالنسبة لخط الغاز القطري فإن السنوات الماضية أضافت عقبات أخرى لا تقل أهمية عن العقبة السورية، في مقدمتها غياب الضمانات الموثوقة بشأن استقرار أمني وسياسي مستدام في سوريا لا سيّما مع طول فترة المرحلة الانتقالية، وتنامي نشاط تنظيم داعش في مناطق البادية وسط البلاد، وبقاء مصير الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا وقوات سوريا الديموقراطية دون معالجة حتى الآن مع احتمالات شن تركيا عملية عسكرية بالشمال، الوضع الذي يعني بقاء الاحتمالات مفتوحة على إمكانية الانزلاق نحو جولة جديدة من الحرب الأهلية، وهو ما يعرقل قرارات الاستثمار في قطاع الطاقة، إذ لا تستثمر شركات الطاقة في خطوط أنابيب الغاز عبر الحدود التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات (تُقدر تكلفة الخط المحتملة بنحو 20 مليار دولار) إذا لم تكن متأكدة من أن بلد العبور سيظل مستقرًا على مدى السنوات العشر إلى الخمس عشرة التالية، وهي الفترة اللازمة لاسترداد تكلفة الخط.
علاوة على تراجع الاهتمام الأوروبي بمشروع خط أنابيب الغاز القطري نظرًا إلى خطط الاتحاد الأوروبي الطموحة للتخلص التدريجي من الغاز بحلول عام 2050 واختيار الاعتماد الكامل على الطاقة المتجددة، حيث ستبدأ أوروبا اعتبارًا من عام 2030 تقليص المساهمات المالية في مشاريع توريد الغاز الطبيعي وستركز بدلًا من ذلك على تطوير وتوسيع قطاعات الطاقة المتجددة. إضافة إلى تفضيل قطر تداول مصادر الطاقة الخاصة بها في شكل غاز طبيعي مسال وهو المسار الذي اتجهت إليه عقب الحرب الأوكرانية لتأمين إمدادات الغاز إلى أوروبا، كما أنه مسار أقل تكلفة مقارنة بالنفقات الباهظة لبناء خطوط الأنابيب العابرة للحدود. فضلًا عن انخفاض حماس الولايات المتحدة للمشروع –بعدما كانت داعم رئيسي له– بعدما تقلصت حصة روسيا بشدة في سوق الغاز الأوروبي والسماح للولايات المتحدة وقطر بتزويد أوروبا بالغاز الطبيعي المسال. كما تسعى قطر للحصول على حصص في مشاريع إنتاج الغاز بشرق المتوسط بما يمنحها ميزة القرب الجغرافي من الأسواق الأوروبية ويزيد من ثقلها الجيوسياسي في نزاعات شرق المتوسط.
ختامًا، مثَّل سقوط نظام بشار الأسد في سوريا لحظة محورية بالنسبة لتركيا مكنتها من إعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط عبر الإطاحة بالنفوذين الروسي والإيراني مقابل تعزيز مكانتها الإقليمية والدولية، وبالتالي إعادة تشكيل الديناميكيات السياسية والإقليمية في سوريا بما يتماشى مع مصالحها الاستراتيجية.