أيام دموية شهدها الساحل السورى بدأت باشتباكات، بين قوات الأمن وفلول النظام السابق، أو ما أطلق عليه «المجلس العسكرى لتحرير سوريا»، الذى قام بنشر قواته عند نقاط مفصلية داخل المدن الكبرى ومراكز محافظتى اللاذقية وطرطوس ومدينة جبلة. هذه الاشتباكات أدت إلى سقوط قتلى وجرحى، أعلنت على أثرها السلطات السورية شن حملات أمنية مضادة لم تخل من العنف. وقد اعتبر رئيس المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، أن فلول نظام الأسد اقترفوا «ذنبا عظيما لا يغتفر»، وقد جاءهم الرد الذى لا صبر لهم عليه. مطالبا الفلول بتسليم سلاحهم وأنفسهم «قبل فوات الأوان».
غير أن الأوان قد فات، فعلا، بحيث سرعان ما انفجرت الأوضاع وتحول طلب تسليم السلاح من فلول الأسد واستعادة الأمن، الى أعمال عنف. الأحداث أدت الى مقتل مئات الأشخاص منهم نساء وأطفال وكبار السن، على يد ميليشيات أجنبية يبدو أنها مدعومة من الفرع الأكثر تطرفا داخل هيئة تحرير الشام.
فى خضم الأحداث، اعتبر الشرع، أن ما يحدث على الأرض هو «ضمن التحديات المتوقعة»، مشددا على ضرورة التمسك بالوحدة الوطنية والسلم الأهلى. لكن الوقائع على الأرض تقول إن التحديات أكبر من القدرة على التماسك، وأن سوريا قد تنزلق بسرعة، تفوق التوقعات، نحو الفوضى والفتنة والصراع، مما سيكون له تداعيات خطيرة الآن ومستقبلا. مشاهد القتل والترويع التى شهدها الساحل السورى ستؤدى الى، موجة أخرى، من عمليات القتل مما يجعل من الصعب إيقاف دائرة العنف وتحقيق اللحمة الوطنية.
بعد أربعة أيام دامية، وفى محاولة لاحتواء الأزمة، أعلنت الرئاسة السورية تشكيل لجنة وطنية مستقلة، للتحقيق وتقصى الحقائق فى أحداث الساحل السوري. وشدد الشرع على انه سيحاسب بكل حزم وبدون تهاون كل من تورط فى دماء المدنيين او تجاوز صلاحيات الدولة أو استغل السلطة لتحقيق مآربه الخاصة. بينما أعلنت وزارة الدفاع السورية انتهاء عملية الساحل بـ«نجاح» وانها حققت أهدافها.
وسط الأحداث الدموية وتناقض التصريحات، فإن الأوضاع مؤهلة ان تزداد تعقيدا. طبيعة العمل العسكرى الفصائلى الذى عملت عليه الفصائل المقاتلة، وإعلان عملية النفير العام، ومشاركة مجموعات متعددة الولاءات، كل ذلك أدى، وربما سيؤدى مستقبلا ولأقل الاسباب، إلى مزيد من العنف من جميع الأطراف.
انتشار السلاح بين ميليشيات غير منضبطة، وتفاقم العنف والعنف المضاد دون خريطة طريق سياسية، قد يزيد من احتمالية اندلاع مواجهات عنيفة غير محسوبة العواقب، وقد يدفع سوريا نحو سيناريوهات سيئة. كما أن تكرار احداث العنف قد يعزز المخاوف من أن تتحول سوريا إلى ساحة مواجهة بالوكالة بين القوى الإقليمية، مما يعمق الانقسامات ويزيد من تعقيد المشهد السياسى والأمنى، خاصة أن هناك دائما من يقتات من الفوضى ويحركها.
من ناحية، هناك إسرائيل التى، منذ وصول الشرع للسلطة، لم تتوقف عن مساعيها التوسعية، وقامت باقتطاع أجزاء من أراضى سوريا دون إطلاق رصاصة واحدة. وكانت إسرائيل قد تجاوزت المنطقة العازلة فى الجولان السورى، وانتهكت اتفاقية فك الاشتباك عام 1974، عبر التوغل واحتلال المزيد من الأراضى فى القنيطرة ودرعا حتى الوصول إلى جبل الشيخ. وتضغط تل أبيب على الإدارة السورية بشكل متصاعد سواء عبر التوسع والسيطرة على المزيد من الأراضى الحدودية، أو الحديث المتكرر عن الدور الإسرائيلى فى حماية دروز سوريا. من ناحية أخرى، من المتوقع أن تتعامل إيران مع النزاعات الداخلية في سوريا كفرصة لتعزيز نفوذها الإقليمي. وكلما تعمقت الصراعات الداخلية، ازدادت قدرة طهران على فرض أجندتها، مستفيدة من الانقسامات الداخلية لإطالة أمد سيطرتها عبر وكلائها المحليين. ومن ناحية ثالثة، هناك تركيا، الداعم الرئيسى لهيئة تحرير الشام، والتى يمكن ان تتحرك اذا استشعرت أن الأمور تخرج عن سيطرتها.
بالنظر لهذه المخططات والمخاطر، أمام الإدارة الانتقالية السورية مسئولية التهدئة وبسط السيطرة وحفظ الأمن على كامل الاراضى السورية. كما ان شرعية الشرع الدولية يتطلب منه اتخاذ مواقف أكثر صرامة لإحلال نظام شامل يضمن تمثيلية كل أطياف الشعب السورى، ويكفل حماية الأقليات بعيدا عن الطائفية والفئوية. ولعل الاتفاق الموقع بين الرئيس الانتقالى وقائد قوات سوريا الديمقراطية، القاضى باندماج هذه الأخيرة ضمن مؤسسات الدولة وجيشها، هو خطوة فى الاتجاه الصحيح، اذا لم تجد من يعرقلها مستقبلا. يجب الإقرار بأنه لا استقرار فى سوريا دون توافق سياسى حقيقي. الخيارات العسكرية أثبتت فشلها، والمصالحة الوطنية تبقى السبيل الوحيد لتجنب السيناريوهات الأسوأ.