منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024 وخروج سوريا رسميًا بالمعنى الاستراتيجي من محور الممانعة الإيراني، اهتزت معادلة التوازن الدقيقة التي لطالما حرصت تركيا وإيران على استقرارها وبقائها، بعدما استطاعت أنقرة حسم أحدث جولات المنافسة الجيوسياسية على النفوذ في الشرق الأوسط لصالحها، لتدخل العلاقات الثنائية التي اتسمت على مدار تاريخها بفترات من الصعود والهبوط مرحلة من التوترات، عكسها التلاسن الخطابي والتصعيد الدبلوماسي؛ حيث استدع كلا البلدين دبلوماسيي كل منهما للمناقشة بعد أن اتهم وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، خلال مقابلة تلفزيونية، إيران بإدارة السياسة الخارجية من خلال المليشيات في الدول الإقليمية، محذرًا من الخطر الكبير الذي يفرضه مثل هذا النهج؛ مما يُنذر باتساع مساحة الخلافات خلال المرحلة المقبلة مدعومًا بالتطورات الجيوسياسية في سوريا والقوقاز. وفي هذا السياق، تناقش الورقة مسببات اندلاع موجة جديدة من التوترات في العلاقات التركية الإيرانية وحدود الخلافات في ظل المصالح المشتركة بين البلدين.
مركزية العامل السوري
رغم اتساع النطاق الجغرافي للمنافسة الجيوسياسية بين تركيا وإيران امتدادًا من آسيا الوسطى والقوقاز إلى بلاد الشام والشرق الأوسط، فإن تعاطي الخصمين الإقليميين مع القضية السورية على مدار عقد ويزيد ظل نموذجًا لكيفية نجاحهما في إدارة قضاياهما الخلافية وفق توازن دقيق على قاعدة “التنافس التعاوني” التي لطالما حكمت “علاقات الضرورة الجيوسياسية” بين البلدين، ودون السماح بالانزلاق إلى صدام أو مواجهة إدراكًا منهما لحاجة كل منهما للطرف الآخر لضبط معادلة التوازن الإقليمي، إذ دعم كلاهما مسارين متعارضين لمعالجة الأزمة -قبلما تحسم أنقرة الجولة لصالحها. ومع ذلك، تمكنا من العمل معًا ضمن مسار أستانا وظلت القنوات الاستخباراتية مفتوحة تتولى مهام التنسيق الأمني والاستراتيجي بعيدًا عن أي خلافات تعكر صفو القنوات الدبلوماسية.
غير أن سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد وصعود إدارة موالية لتركيا أخل بمعادلة التوازن القائمة في الساحة السوري وحدّ من العمق الاستراتيجي الإقليمي لإيران، ودفع بالتنافسات المكتومة إلى العلن؛ حيث تسعى أنقرة لحماية مكاسبها وحرمان طهران من فرصة إحياء حظوظها الإقليمية. وفي هذا الإطار، يُمكن استعراض أبرز دوافع تصاعد التوترات بين البلدين انطلاقًا من العامل السوري على النحو التالي:
• المساعي الإيرانية لاستعادة النفوذ في سوريا: رغم حالة الضعف والتراجع الإقليمي للقوة الإيرانية، تحاول طهران تعويض الهزائم السياسية والعسكرية التي تعرضت لها في المنطقة، وتعديل موازين القوى داخل سوريا واكتساب موطئ قدم، وتعزيز شبكتها من المليشيات وتوسيع ممراتها اللوجستية عبر المنطقة، وممارسة الضغوط على الشرع وحكومته؛ الأمر الذي يُثير مخاوف أنقرة؛ إذ لا تزال إيران تمتلك بعض الأدوات التي يُمكن تنشيطها وتحريكها بهدف تقويض الشرع وحكومته إبقاء المشهد في البلاد مفتوحًا على كل الاحتمالات، وإعادة ترتيب العلاقات بين القوى الفاعلة على الأرض، وضمان موقعها في خرائط النفوذ والسيطرة الجاري صياغتها وفرضها بموجب توازنات القوة والتفاعلات بين الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة في المشهد السوري، بما في ذلك، تشكيل شبكة من التحالفات والمليشيات بالارتكاز على بعض الشخصيات المنتمية للنظام السابق والقريبة لطهران وبالأخص العسكريين سواء ممن بقوا داخل سوريا أو هربوا إلى العراق، وعناصر ألوية “فاطميون” الأفغانية و”زينبيون” الباكستانية التي عملت في الساحة السورية خلال عهد الأسد وغير معروف مصيرها حاليًا وقد تكون بمثابة عناصر خاملة يُمكن تنشطيها ودعمها.
وقد شهدت الأيام القليلة الماضية ظهور مجموعات مسلحة جديدة تحمل بصمات إيرانية قوامها إعادة تدوير لبعض العناصر المحلية الموالية لطهران، بما في ذلك مليشيا “أُولي البأس” التي أعلن عن تشكيلها المحلل السياسي العراقي عباس العرداوي، وهو قريب من كتائب حزب الله العراقية ويتبنى الدفاع عن إيران ومليشياتها، ويتشابه شعارها المليشيا مع شعارات المليشيات العراقية الموالية لإيران في العراق، وحزب الله اللبناني و”زينبيون” الباكستانية و”فاطميون” الأفغانية، ومليشيا “المجلس العسكري لتحرير سوريا” الذي أعلن عن تشكيلها العميد غياث دلا، أحد قادة الفرقة الرابعة في النظام السابق ومقرب من ماهر الأسد، ومن أبرز الموالين للمحور الإيراني داخل نظام الأسد.
وتتمثل خيارات طهران الأخرى في استقطاب المكونات المحلية العرقية والدينية المهمشة ويُعد العلويون المتمركزون في محافظات الساحل السوري المكون الأقرب لإيران نتيجة التقارب المذهبي، وقيام بعض الاتجاهات المنتمية والمؤيدة للإدارة السورية الجديدة بوصم الأقلية العلوية بـ “فلول النظام السابق” لاعتبارات انتماء الأسد لهذا المكون المذهبي، وقد وجهت أصابع الاتهام إلى إيران بالتورط في الاشتباكات الأخيرة التي شهدها الساحل السوري يومي 6 و7 مارس الجاري بعدما أفادت تقارير بانعقاد لقاء جمع قيادات من الحرس الثوري وشخصيات تنتمي لجيش بشار، قبل أسبوع من الأحداث في أحد المدن العراقية لبحث دعم العناصر المنتمية للنظام السوري السابق.
فضلًا عن دعم شبكات التهريب وعصابات الكبتاجون التي لم تتفكك بشكل كامل وإنما دخلت في حالة من الركود وتبحث عن رعاة خارجيين، وإقامة تحالفات مع وحدات حماية الشعب وحزب العُمال الكردستاني، وقد كشفت مصادر تواصل إيران مع وحدات حماية الشعب وإجراء محادثات بشأن تقديم الدعم العسكري لها، وإرسال قوات من إيران إلى سوريا للانضمام إلى صفوف وحدات حماية الشعب، كما أشارت صحف تركية إلى إرسال طهران 1500 مُسيرة انتحارية من طراز “شاهد – 136” إلى عناصر حزب العُمال خلال يناير الماضي. ولدى أنقرة حساسية شديدة تجاه أي دعم إيراني محتمل للمكون الكردي أو لعناصر منتمية لحزب العمال الكردستاني، في ظل التفاعلات الإيرانية مع فرعي الحزب العراقي والسوري وتوفير غطاء للجماعات التابعة له النشطة في المناطق الحدودية بهدف تقويض موقف تركيا، وربما انطوت ضغوط الأخيرة للإسراع بعملية إدماج قوات قسد ضمن الجيش السوري على مسعى لقطع الطريق أمام تحويل مناطق سيطرتها إلى نقطة عبور للدعم العسكري واللوجستي لبعض المجموعات المليشياوية المحلية مثل قوات درع الساحل والمجلس العسكري لتحرير سوريا ومليشيا أُولي البأس، ونقطة عبور للسلاح باتجاه حزب الله بالتنسيق مع شخصيات تابعة لحزب العمال مرتبطة بالحرس الثوري.
ونظريًا، من شأن تنفيذ الاتفاق الموقع بين الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع وقائد قوات قسد مظلوم عبدي القاضي بدمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية التابعة للإدارة الذاتية في إطار الدولة السورية بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز، مقابل منح حقوق ثقافية وسياسية وإدارية للمكون الكردي، أن يزيد نفوذ أنقرة الإقليمي، ويُفقد إيران حليفًا محتملًا يُوازن تركيا، ويضيق مساحات المناورة أمام إيران داخل سوريا، مع الأخذ في الاعتبار احتمالات تعثر التنفيذ على خلفية عدم التوافق بشأن بعض النقاط الخلافية ووجود انقسامات داخل المكون الكردي السوري قد تكون غير راضية عن التفاهمات مع دمشق، بما يُعيد الوضع إلى مربع التصعيد العسكري ويفتح الباب أمام استثمار القوى الإقليمية المنخرطة في الملف السوري، بما في ذلك إيران وإسرائيل، في الورقة الكردية.
• التهديد التركي بتأجيج نزعات انفصالية في إيران: تضمنت تصريحات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان التي أشعلت التصعيد الدبلوماسي مع طهران تهديدًا بدعم جماعات انفصالية داخل إيران ردًّا على السياسات الإقليمية الإيرانية المرتكزة إلى المليشيات ودعم بعض المكونات المحلية الساعية للانفصال والحكم الذاتي، وربما قصد فيدان الأتراك الأذربيجانيين الذين يُشكلون أكبر أقلية عراقية في إيران تتراوح أعدادها بين 25 و30 مليون نسمة وتتمركز في محافظة أذربيجان الغربية، وتعاني من مظالم اجتماعية واقتصادية تتعلق بالتهميش والتمييز الممنهج، والتعرض لسياسات الدمج والاستيعاب الثقافي، والتضييق على حقوقهم الثقافية واللغوية، وقمع التعبير عن هويتهم الثقافية والسياسية، وهو ما جعلهم هدفًا مهمًا لأنقرة؛ حيث قدمت تدريبًا ودعمًا متزايدًا للناشطين والصحفيين الأذربيجانيين الأتراك في أذربيجان الغربية من خلال القنصلية التركية في مدينة أرومية، وغالبًا ما تركز البرامج التركية على الأنشطة الثقافية المُعززة للهوية التركية والوعي بالروابط والتضامن بين الأتراك الأذربيجانيين الإيرانيين وتركيا.
وبالتوازي، زاد وصول الأُسر الأذربيجانية التركية إلى القنوات التلفزيونية التركية؛ مما عزز القوة الناعمة بينهم، كما وضعت خطابات المسئولين الأتراك خلال السنوات الأخيرة أذربيجان الغربية ضمن “العالم التركي”، وتخشى إيران توظيف أنقرة لتلك الروابط الثقافية والعرقية والإحساس بالتهميش لتأليب الأتراك الأذربيجانيين وتغذية نزعات انفصالية، وقد تأججت هذه المخاوف بإطلاق قناة التلفزيون الحكومية التركية (TRT) خدمة بث باللغة الفارسية في ديسمبر 2024، وذلك بعد شهرين من تصريح لمدير وسائل الإعلام في TRT محمد سوباسي خلال أكتوبر 2024 قال فيه: إنه سيتم تشغيل قناة TRT الفارسية في نهاية العام لإزعاج إيران، ورغم إقالته لاحقًا فإن تصريحاته تكشف عن نوايا تركية للعب بالورقة العرقية في إيران؛ مما حدا برئيس هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية (IRIB)، بيمان جبلي، إلى إعلان بث قناة Press TV باللغة التركية في 21 يناير 2025.
• مخاوف إيران من تمدد النفوذ الجيوسياسي التركي: تتحسب طهران لتأثير الدومينو فيما يتعلق بما يُمثله تعاظم النفوذ الإقليمي لتركيا انطلاقًا من المسرح السوري من تهديد لنفوذها الجيوسياسي في العراق وجنوب القوقاز؛ إذ قد تستغل أنقرة نقاط الضعف الحالية لدى طهران لتعزيز أهدافها الجيوسياسية الأوسع، ويشمل ذلك التنسيق مع الولايات المتحدة لتقليص النفوذ الإيراني في العراق، والإسراع بتنفيذ مشروعات البنية التحتية الاستراتيجية بين تركيا وأذربيجان وتحديدًا ممر زانجيزور البري الرابط بين الأراضي الأذربيجانية وإقليم نخجوان المتمتع بالحكم الذاتي، والذي من شأنه توسيع المجال الجيوسياسي لتركيا ويُعزز نفوذها في نطاق القوقاز ودول العالم التركي؛ الأمر الذي تعتبره إيران تهديدًا لنفوذها الاستراتيجي في جنوب القوقاز كونه سيهمش دورها كمركز عبور إقليمي بين أذربيجان وتركيا وغرب القوقاز من خلال قطع الوصول البري الإيراني المباشر إلى أرمينيا –الشريك الاستراتيجي التاريخي والرابط الحيوي لتجارة طهران مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي– وتقليل اعتمادها على إيران في مجال الطاقة والنقل؛ مما يعني إضعاف مكانتها الإقليمية، وتراجع قدرتها على العمل كوسيط رئيسي في الخدمات اللوجستية الإقليمية وتوزيع الطاقة. كما قد تنظر إيران للممر باعتباره تهديدًا لحدودها الشمالية الغربية، إذ يُشكل قربه من الحدود الإيرانية تهديدًا محتملًا بالنظر إلى أنه سوف يعزز النفوذ التركي ونفوذ حلف شمال الأطلسي في الجوار وربما وجود القوات على الحدود الإيرانية، بالإضافة إلى ذلك تخشى طهران من الانعكاسات المحلية للتحولات في الجغرافيا السياسية الإقليمية لا سيَّما فيما يتعلق بتنامي المشاعر القومية التركية ومن ثَمّ تأجيج المشاعر الانفصالية بين الأقلية الأذربيجانية التركية الكبيرة في إيران.
• الضغط على ممرات الطاقة الإيرانية: تحاول أنقرة الاستفادة من معطيات الجغرافيا السياسية المتغيرة في الشرق الأوسط وجنوب القوقاز لتعزيز موقعها في معادلة الطاقة الإقليمية، وهو ما يُشكل تحديًا لممرات الطاقة الإيرانية الحيوية؛ إذ إن مساعي تركيا لإحياء خط الغاز القطري –رغم أنه لا يزال يواجه تحديات لوجستية وأمنية لا سيَّما أنه سيمر عبر المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد حاليًا في شمال وشرق سوريا؛ حيث لم تفرض الإدارة السورية الجديدة سلطتها بعد ولم تضمن نزع سلاح قوات قسد، التي تهدد صادرات الغاز الإيرانية إلى تركيا وأوروبا، كما أن افتتاح خط أنابيب الغاز إغدير – نخجوان خلال زيارة الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف إلى تركيا أوائل مارس الجاري، الذي ينقل الغاز التركي إلى نخجوان بقدرة يومية تُقدر بنحو مليوني متر مكعب من الغاز وقدرة سنوية بنحو 730 مليون متر مكعب؛ مما يلبي احتياجات الإقليم من الغاز بالكامل – يُنهي اعتماد أذربيجان على إيران في توفير إمدادات الغاز لنخجوان الذي بدأ منذ عام 2006؛ الأمر الذي يفرض ضغوطًا على قطاع الطاقة الإيرانية.
• اندلاع نزاع تجاري تركي إيراني: ارتد التنافس الجيوسياسي الواسع بين البلدين إلى الجوانب التجارية للعلاقات؛ حيث نشأ نزاع تجاري بينهما بحلول نهاية ديسمبر 2024 نتيجة فرض أنقرة سياسة تلزم جميع المركبات التجارية التي تحمل لوحات ترخيص إيرانية -باستثناء الحافلات- بدفع ضريبة وقود تعادل 155% من ضريبة الخاصة على المستهلك في تركيا، ردًا على مبادرة “الخزان الممتلئ” التي أطلقتها وزارة النفط الإيرانية في 16 نوفمبر 2024، وتقتضي دفع الشاحنات التركية ضريبة جمركية تعادل سعة خزان الوقود عند مغادرتها إيران، سواء كانت خزاناتها ممتلئة أو فارغة؛ مما حدا بطهران إلى وقف إمدادات الوقود للشاحنات التركية اعتبارًا من 4 يناير 2025، ومن شأن تلك القيود الجمركية زيادة أعباء التجارة البرية الإيرانية باتجاه أوروبا؛ نظرًا لكون تركيا طريق العبور الرئيسي إلى الدول الأوروبية؛ إذ يزيد تكاليف النقل بنسبة تصل إلى 50% على الناقلين الإيرانيين. وتنظر طهران لهكذا قرار باعتباره خطوة لتقويض شبكاتها التجارية الإقليمية وتقييد وصولها إلى الأسواق الأوروبية؛ مما يؤدي لتفاقم التوترات الجيوسياسية بين البلدين، ويقوض جهود تعزيز العلاقات التجارية كونه يتناقض مع الهدف المعلن بزيادة حجم التبادل التجاري إلى 30 مليار دولار سنويًا.
المصالح المشتركة
على الرغم من التنافسات الجيوسياسية العميقة بين تركيا وإيران، لا يزال البلدان يمتلكان من المصالح المشتركة التي تدفعهما لاستمرار الاتصال والتعاون، فبينما اشتدت التوترات الدبلوماسية والخطابية، حافظت الزيارات والمشاورات بين المسئولين من كلا الجانبين على اتجاه إيجابي خلال الأشهر الأخيرة؛ حيث شهد شهر يناير الفائت زيارة وزير التجارة التركي لإيران وزيارة وفد تجاري إيراني للصناعات الزراعية والغذائية إلى تركيا، وتمت مناقشة رفع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 30 مليار دولار، كما انعقد خلال فبراير الماضي الاجتماع الدوري للمشاورات السياسية بين إيران وتركيا في أنقرة وتضمن مناقشة التعاون الثنائي في المجالات السياسية والتجارية والطاقوية والثقافية والقنصلية وتبادل وجهات النظر حول مختلف القضايا الإقليمية مثل فلسطين ولبنان والقوقاز والجيران والعالم الإسلامي، وشهد الشهر ذاته زيارة لرئيس الاستخبارات التركي إبراهيم كالين إلى طهران لمناقشة قضايا أمنية وسياسية، وهو ما يُسلط الضوء على إرادة قيادة البلدين السياسية لاتباع سياسة متوازنة بالنظر لوجود مصالح مشتركة منها:
• مواجهة الضغوط الأمريكية والإسرائيلية: دخلت الحملة الأمريكية الإسرائيلية لقطع أذرع إيران الإقليمية مرحلة جديدة بشن الولايات المتحدة ضربات عسكرية ضد مليشيا الحوثي اليمينة بمستويات شدة غير مسبوقة، بينما تضغط على العراق بالتهديد والإنذار لشلّ وتقويض الأذرع الإيرانية وإخراجها من المعادلة، وهو ما يُشعر طهران بالخطر والقلق من أن تكون منشآتها النووية ومواقع استراتيجية أخرى الهدف التالي لنتنياهو ودونالد ترامب في إطار مسعيهما لإعادة رسم الخرائط الجيوسياسية للشرق الأوسط، واستغلال المتغيرات الإقليمية والدولية الراهنة المتعلقة بتآكل قدرات الردع الإيرانية وانشغال شركاء طهران الاستراتيجيين الروس والصينيين بقضايا حيوية مع ترجيح امتناعهما عن تقديم الدعم العسكري لها لتجنب إغضاب إدارة ترامب والانخراط في مواجهة مباشرة معها والإضرار بمصالحهما الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، ومن ثَمّ يصبح لا خيار أمام طهران سوى الانخراط في عملية توازن دقيقة تُعطي الأولوية لصراعها مع الولايات المتحدة وإسرائيل، مع السعي لتهدئة التوتر مع الدول المجاورة، لاسيَّما أن تركيا –وإن كانت لا ترغب في رؤية إيران نووية– لا تتوافق تمامًا مع أجندة “الضغط الأقصى 2.0” الأمريكية ضد إيران، وقد ساعدت الأخيرة بشكل أو بالآخر في الالتفاف على العقوبات الأمريكية، كما تُعارض توجيه ضربات عسكرية للبرنامج النووي الإيراني وتعتبرها تهديدًا للاستقرار الإقليمي، بينما تُفضل مسار المفاوضات والتوصل إلى اتفاق نووي جديد.
• موازنة الهيمنة الإسرائيلية الإقليمية: بينما أشعلت سوريا فتيل التوترات الحالية بين إيران وتركيا في إطار مساعي الأخيرة لتهميش إيران استراتيجيًا، فإنها يُمكن أن تعمل لاحقًا كساحة للتعاون والتنسيق المشترك، إذ قد تعتبرها تركيا موازنًا محتملًا للهيمنة السياسية والعسكرية الإسرائيلية الإقليمية، لا سيَّما أن مساعيها لتعميق العلاقات السياسية والدفاعية مع الإدارة السورية الجديدة سيضعها على مسار تنافسي وربما تصادمي مع الطموحات الإسرائيلية في سوريا، وقد اتهم وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر أنقرة مؤخرًا بتسهيل تدفقات النقد الإيراني إلى حزب الله اللبناني، وإذا كان هذا صحيحًا، فهذا يعني أن إيران تتطلع إلى تركيا للبحث عن طرق بديلة لنقل الأسلحة إلى حزب الله، وأن أنقرة تساعد إيران في الحفاظ على قدر من نفوذها الإقليمي وتسعى لإبقاء حزب الله صداعًا في رأس إسرائيل، ومع ذلك، من غير الواضح إذا كانت الاتهامات الإسرائيلية صحيحة وإذا كانت أنقرة ستوافق على لعب هذا الدور لصالح إيران وحزب الله. وحتى مع حقيقة أن التوجهات التركية تجاه إسرائيل ستظل مرتبطة باعتبارات المصالح مع الولايات المتحدة والناتو، فإن تنامي الارتباط بين هذين الحليفين للولايات المتحدة داخل ساحات التنافس الإقليمي، ولا سيَّما المسرح السوري، من شأنه أن يخدم مصالح إيران على الأرجح.
• اتساع الروابط الاقتصادية والتجارية والطاقوية: يضع البلدان هدفًا مشتركًا بتعميق العلاقات الاقتصادية، ورغم غياب إحصاءات دقيقة ورسمية عن الاستثمارات الإيرانية في تركيا، فإن الأخيرة تُعد وجهة شهيرة للاستثمارات العقارية الإيرانية؛ حيث تحتل باستمرار المرتبة الثالثة بين أكبر المشترين للعقارات في تركيا بقيمة استثمارية تقديرية بنحو 11 مليار دولار، مقابل استثمارات تركية بحوالي ملياري دولار في إيران. ويظل التعاون في مجال الطاقة حجر الزاوية في علاقتهما الاقتصادية؛ حيث تُعدّ إيران موردًا رئيسيًا للغاز الطبيعي إلى تركيا، وقد اتفقت البلدان على تمديد عقد تصدير الغاز لمدة 25 عامًا، وتتمثل أحدث مشاريع التعاون الطاقوي بين البلدين في نقل الغاز التركماني إلى تركيا؛ حيث وقّعت شركتا بوتاش وتركمان غاز اتفاقية في 10 فبراير 2025، لتأمين توريد 1.3 مليار متر مكعب من الغاز التركماني سنويًا عبر إيران وقد بدأت عمليات التسليم في 1 مارس.
كما يطمح البلدان لرفع حجم التبادل التجاري إلى 30 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة، وهو هدف طموح بالنظر للتباينات التي شهدتها التجارة الثانية في الأعوام الماضية؛ إذ انخفض حجم التبادل التجاري من 10 مليارات دولار عام 2016 إلى 6 مليارات دولار عام 2023، وفي هذا الإطار تدرس تركيا إحياء اتفاقية التجارة التفضيلية لعام 2015 مع إيران؛ الأمر الذي يسمح بتقليص الحواجز التجارية وتعزيز الوصول المتبادل إلى الأسواق في خطوة نحو تعزيز حجم التجارة. كذلك، اتفقت البلدان على تطوير نموذج تعاون شامل للنقل والترانزيت بما في ذلك تحديث وإعادة بناء المعابر الحدودية وتسهيل النقل بشكل أكثر سلاسة بما يُسهم في معالجة التحديات اللوجستية أمام التجارة والنقل.
ختامًا، وضعت الديناميكيات الأخيرة في سوريا تركيا وإيران في أزمة دبلوماسية؛ نظرًا لتعارض مصالحهما، وانزعاج طهران من تحول أنقرة لقوة إقليمية مهيمنة في الشرق الأوسط، وبلا شك سوف تواصل تركيا تعزيز أهدافها وطموحاتها الجيوسياسية والاقتصادية في المنطقة بما يُثير غضب طهران، وربما يتصاعد تنافسها الإقليمي ويمتد إلى جبهات جديدة إلى آسيا الوسطى وأفريقيا، مع البقاء عند مستوى حذر ومنبط من التصعيد لا ينزلق إلى مواجهات عسكرية، كما يُرجح تفعيل المسار الاستخباراتي الذي أثبت قدرته على انجاز تفاهمات أمنية وسياسية في أشد الملفات تعارضًا.